strong>موسكو ــ حبيب فوعاني
هل ذهب الصحافي الروسي إيفان سافرونوف ضحية صفقات تجارة الأسلحة؟ أم إن مقتله كان عملية انتحار عادية، من دون أي أبعاد سياسية أو عسكرية؟ من الصعب الإجابة عن هذين السؤالين، لكن معطيات كثيرة تشير إلى أن رحيله يريح كثيرين

بدأت تتضّح معالم مقتل الصحافي الروسي إيفان سافرونوف، الذي قضى في 2 آذار الجاري بإلقاء نفسه من الطابق الرابع من المبنى، الذي كان يسكنه في موسكو، ولا سيما أن جسد العقيد العسكري المتقاعد، الذي كان يكتب في صحيفة «كوميرسانت» عن الشؤون التسليحية وصادرات الأسلحة، لم يحمل آثار عنف، وهو ما دفع النيابة العامة الروسية إلى ترجيح فرضية انتحاره.
ورغم أن زملاءه في الصحيفة المذكورة ذكروا أنه كان محباً للحياة واستبعدوا إمكان انتحاره، أكد سبعة من الذين تحدثوا إليه بالهاتف عشية مقتله، تشتته الفكري وضياعه. ورأت الصحيفة أن إيصاله إلى هذه الحالة يمكن أن يتم فقط بحقنه بالسم أو بمواد مؤثرة على وضعه النفسي.
ولكن سافرونوف، لم يكن محللاً سياسياً، ولا معادياً للسلطة الروسية. وقد ساعدت معارفه في أوساط الجيش ورجال الصناعة العسكرية في الحصول على معلومات جوهرية، فقد خدم أكثر من 20 عاما في القوات الفضائية، وأصبح عام 1993 متحدثاً رسمياً باسمها حتى عام 1997، وكان ينشر هذه المعلومات، مسبباً بذلك المتاعب لمختلف القادة العسكريين ومراكز القوى الروسية.
وبينما يحاول الجيش الروسي الآن الوقوف على قدميه واستعادة قوته وقدراته السوفياتية السابقة، لم يكن سافرونوف يمتنع عن نشر أنباء عن إخفاقات المؤسسة العسكرية، مثلاً في إطلاق الصواريخ البحرية العابرة للقارات «بولافا»، التي كان يهدد بها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الغرب، والتي كان الإعلام الروسي أو الصحافيون الآخرون لا يعلمون عنها شيئاً. وكانت مقالاته مصدر معلومات مهم للاستخبارات الأجنبية عن الجيش الروسي، وتضع القيادة الروسية في مواقف حرجة، لكن لم يتم تقديمه للمحاكمة ولو لمرة واحدة.
وفي عام 2005، اكتشف سافرونوف خطط بيع صواريخ أرض ــــــ أرض «إسكندر» التكتيكية العملانية إلى سوريا، فسرّب بعض هذه المعلومات إلى الصحافة الإسرائيلية، التي أثارت ضجة عالمية هائلة، ولا سيما أن هذه الصواريخ تستطيع الوصول إلى مركز قيادة الجيش الإسرائيلي في تل أبيب. وقد اضطر بوتين إلى التدخل شخصياً وإلغاء الصفقة والتنصل منها، واعترف قائلا بأن «عسكريينا كانوا مستعدين لبيعها».
وكان سافرنوف قد عاد قبل أسبوعين من مقتله من دبي، حيث حضر المعرض العسكري «أيدكس-2007». وأكد زملاؤه أنه أراد التأكد هناك من صحة معلومات تلقاها في موسكو عن صفقات أسلحة روسية جديدة محتملة تورد إلى الشرق الأوسط. وكان الحديث يتعلق ببيع صفقة من طائرات «سوخوي-30» إلى سوريا ومنظومات الدفاع الجوي الصاروخية «إس-300 في» إلى إيران. وبحسب كلمات الصحافي الراحل، كان يجب أن تتم الصفقات عن طريق بيلاروس حتى لا يتهم الغرب موسكو بتسليح «الدول المارقة». وقد اتصل سافرونوف بإدارة تحرير صحيفته من دبي، وأشار إلى تلقيه المعلومات الضرورية المؤكدة لذلك، ووعد بكتابة مقال عن ذلك عند عودته.
وأكد سافرونوف، بحسب زمائه، وجود معلومات لديه حول عقود جديدة بين سوريا وروسيا في شأن توريد منظومات الدفاع الجوي «بانتسير-إس1»، والصواريخ التكتيكية «إسكندر-إي» ومقاتلات «ميغ-29». لكنه أضاف إنه لن يكتب عن ذلك لأنه قد جرى تحذيره من جانب أجهزة أمنية روسية (حسب تأكيدات «كوميرسانت») من إمكان إحداث ضجة عالمية جديدة، وعندئذ ستقوم مصلحة الأمن الفدرالية الروسية برفع دعوى ضده بتهمة إفشاء أسرار الدولة.
وأكد الخبير الروسي الآخر في شؤون التسليح في صحيفة «نوفايا غازيتا» الروسية، بافل فيلغينهاور، خبر الصفقة الروسية -السورية. وبحسب مصادر صحيفة «كوميرسانت»، تستخدم بيلاروس في مثل هذه الصفقات كقناة توريد، حيث تعطي موسكو مينسك مثلاً منظومات دفاع صاروخية من نوع «إس-300 بي إم أو» ومقاتلات متطورة مجاناً أو بالمقايضة، باعتبار أن بيلاروس لا تزال شكلياً دولة متحدة مع روسيا. وتقوم بيلاروس ببيع منظومات دفاعية صاروخية «إس-300 في» المماثلة إلى إيران مثلا وطائرات من موجودات الجيش البيلاروسي إلى سوريا، وهي أقل تطوراً لكنها لا تقل فعالية، وهي موجودة لديها منذ العهد السوفياتي في مقابل اثمان باهظة.
ولا يهتم الرئيس البيلاروسي ألكسندر لوكاشينكو بما سيقوله عنه الغرب، لأن علاقاته سيئة معه بالأصل، وهو نفسه يهوى الصدام معه. وقد استخدمت هذه الخطة في أواخر التسعينيّات عندما ورّدت مقاتلات «ميغ-29» الروسية إلى بيرو في عهد الرئيس السابق ألبرتو فوجيموري.
وتعود صفقات بيع الأسلحة، وخصوصاً التقليدية المصنوعة في الاتحاد السوفياتي، على المشاركين فيها بعمولات تبلغ عادة 5 في المئة وتصل إلى 17 في المئة أحياناً، وتقبض كمبالغ نقدية ضخمة (تصل أحياناً إلى مئات الملايين من الدولارات) وبعيداً عن أعين الرقابة الحكومية، لأن الأسلحة المصدّرة مصنوعة في الاتحاد السوفياتي ومأخوذة من موجودات الجيش الروسي. ويشارك في هذه الصفقات مختلف الهيئات الحكومية وشبه الحكومية والخاصة ومختلف الأشخاص.
ولكن صحافياً واحداً يستطيع إفشال هذه الصفقات، وهذا ما فعله سافرونوف، وارتكب بذلك خطأه المميت. وكالعادة، اتهمت الصحافة الغربية بوتين شخصياً، أو من خلال رجاله، بمقتل الصحافي الروسي، ورُبط مقتله بمقتل رجل الاستخبارات الروسي السابق الكسندر ليتفينينكو والصحافية الروسية آنا بوليتكوفسكايا، وجرى تركيز متعمد على الجانب السياسي من القضية.
وحذّر الجاسوس الروسي الهارب يوري شفيتس بوتين، من مكان إقامته في الولايات المتحدة، من مصير مشابه لمصير الزعيم اليوغسلافي سلوبودان ميلوشيفيتش.
يرى بعض المراقبين، في المقابل، أن الأمر يتعلق بالمافيا، التي ورثها بوتين من عهد الرئيس الروسي السابق بوريس يلتسين، والتي تجذّرت في مختلف جوانب الحياة الاقتصادية، وهو يحاول تقليم أظفارها من دون جدوى، ولا يكاد يمضي أسبوع من دون أن يحال أحد المسؤولين الروس إلى المحاكمة بتهمة الفساد.
وعيّن بوتين وزير الدفاع السابق والنائب الأول الحالي لرئيس الوزراء سيرغي إيفانوف مسؤولاً أوحد عن الصناعة العسكرية، وأعطيت مؤسسة «روس أوبورون إكسبورت» الفدرالية الموحدة حق تصدير الأسلحة إلى الخارج، لكن كل محاولات الرئيس الروسي لا تزال تبوء بالفشل.