قدّم رئيس بعثة الجامعة العربية في العراق السفير مختار لماني، في كتاب استقالته إلى الأمين العام للجامعة عمرو موسى، مطالعة شاملة لمخاطر الوضع العراقي، داخلياً وخارجياً، من دون أن ينسى مهاجمة آلية القرار العربي، الذي غالباً ما يكون بعيداً عن التنفيذ، مشيراً إلى نقص الدعم المادي والأمني لوفد الجامعة. وفي ما يأتي نص كتاب الاستقالة:أولاً: علّمنا التاريخ أن أرض العراق هي مهد الحضارات، وأن ساكني هذه الأرض، عبر تاريخهم الذي يقاس بطول التاريخ نفسهعرفوا بفسيفسائهم الجميلة والغنية كيف يجعلون من العراق منارة علم وأرض عطاء وتأثير حضاري وديني وفكري وثقافي.
علّمنا التاريخ أن أهل العراق عرفوا عبر تاريخهم الطويل محناً ومآسي قد تكون أسوأ من محنتهم، لكنهم استطاعوا دوماً أن يتغلبوا على هذه المحن. إلا أن محنتهم الحالية تتميّز بخطورة خاصة، تتلخص في محاولة تدمير تماسك الفسيفساء الجميلة التي تؤثر فيها عوامل متعددة داخلية وإقليمية ودولية. ولكل عامل من هذه العوامل تعقيداته، ويزداد تعقيدها بتفاعل بعضها مع بعض.
1 ــ داخلياً: لا يتفق حالياً اهل العراق على تشخيص موحّد لمشاكلهم، وبالتالي على الالتزام الواجب وفاؤه لتحقيق النقلة النوعية في علاقاتهم.
سمة هذه العلاقات تكمن حالياً في انعدام الثقة تماماً وهروب اهل العراق الى الامام في ردود فعل وتخندق اصبح عنفه عبثياً وبدائياً ومتناقضاً مع رواسب ثقافتهم العرقية.
أهل العراق في وضع حالي يهدف الى تدمير تماسكهم الاجتماعي في عمقه، نافياً جذوره الضاربة في اعماق التاريخ.
طوائف اهل العراق، كما هي حال كل الطوائف الانسانية، دينية كانت أم إثنية، تعرف غلاة في الاطراف. لكن غلاة اطياف اهل العراق انتقلوا من الأطراف إلى المركز، راهنين طوائفهم في فعل ورد فعل، وتعميم أعمى يغيّر المعالم ويهجّر الناس ويقتل على الهوية.
نتيجة هذا الوضع، اصبحت علاقات أهل العراق تتسم بنفيهم لعراقيتهم، وهم مقتنعون بأنه لا يمكن أي طرف التفرد بأمور بلدهم. مشكلتهم ليست في الانفراد، بل في كيفية ومدى اشراك الآخر.
أهل العراق في حالة شديدة من الاحتقان والانفعال، ولم يقتنعوا بعد، أن التحصين الصحيح والوحيد لبلدهم يكمن في توافقهم على انقاذ بلدهم، توافق يرتكز على إيجاد منتصر واحد ووحيد وهو العراق نفسه.
2 ــ خارجياً: للعراق جوار معقّد، لا يقل تعقيداً عن داخله، بأبعاده التاريخية والروحية والعرقية، وكذلك انتماء العراق لمنطقة ذات أولوية للاقتصاد العالمي. وبالتالي، فإن اهتمامات الجوار والقوى الكبرى ومصالحها تتقاطع وتتضارب في حقول متعددة ومتداخلة، مثلما أن الابعاد الدولية لعلاقات الجوار تنعكس مباشرة وبشكل مؤثّر على الساحة العراقية، بل إن ما يزيد الوضع العراقي تعقيداً أن عدداً ليس بالهين من هذه القضايا أصبح ميدانها هو العراق، والاتجاه الذي أراه من الداخل هو المزيد من استعمال العراق ميداناً لعدد من المعارك ولأطراف متعددة تضم دولاً ومنظمات وحركات.
وأعتقد أن اهل العراق بمختلف اطيافهم يرتكبون خطأ قاتلاًَ اذا واصلوا محاولاتهم تحصين بلدهم من خلال تحالفات خارجية. وتبقى الحال الوحيدة والضامنة لربط ماضي العراق العريق بمستقبلة في تحصينه باتفاق أهله على مشروع وطني يضمن للجميع الحقوق المتساوية في المواطنية. وإنجاح ذلك من خلال دولة مؤسسات، بل إن من شأن ذلك عودة للدور التاريخي الرائد والمؤثر للعراق نموذجاً يقتدى به. ويجب على اهل العراق ان يتذكّروا أن ما وحّدهم في الماضي كان عاملاً أساسياً سمح لأجدادهم بأداء دور تاريخي ساهم في بناء الحضارة الانسانية.
ثانياً: قدمت إلى العراق منذ نحو سنة نتيجة قرار عربي بالمساهمة والسعي لتحقيق الوفاق العراقي وجعله حقيقة ثابتة، وبمتابعة للتطورات من الداخل وانعكاساتها الخارجية، وتوطدت قناعتي أن في نجاح العراق ومناعته مصلحة لأهله وجواره، بل للعالم، وفي انهياره وسقوطه كارثة على الجميع لما لذلك من تداعيات وتعقيدات دينية وطائفية وإثنية وقومية.
الشعب العراقي، الذي وجدته في العراق خلال هذه المهمة، مهدد في عمقه وجائع وغير آمن.
النظرات التي شهدتها في عيون اطفاله تفيض بتساؤلات عميقة غير قادرة على فهم ما يقع ولماذا يقع. باختصار شديد، ما كنت شاهداً عليه طوال هذه السنة الحزينة، وفي ظروف أقل ما يقال عنها إنها عبثية ولا تتناغم مع أية مقاييس عرفتها خلال 27 سنة موظفاً دولياً اتيحت له الفرصة في معايشة مناطق أزمة أخرى في العالم.
قد تكون أطياف الشعب العراقي وطوائفه شديدة القناعة بما عانته عبر تاريخها الطويل، وتفاوت هذه المعاناة في هذه المرحلة أو تلك، لكن لمست خلال هذه السنة أن هذه المعاناة لم تنل من عزة نفسه وشهامته وكرامته. واذا استطاع هذا الشعب أن يقف من جديد وحصّن أهله بلدهم بتوافقهم الداخلي، فلن يحتاج العراق لمساعدة احد لما وهبه الله من خيرات، ليست فقط مادية (نفط وماء) بل حضارية وروحية. وما أخشاه هو أن لا ينسى كيف تعامل معه الآخرون وهو يعاني محنة فريدة وشديدة تهز بنيانه وتضرب عمق مجتمعه وتدمّر فيسفيساءه.
ثالثاً: حاولت خلال هذه السنة جاهداً التواصل مع كل الاطراف العراقية من خلال تنمية علاقات صادقة وصارمة وغير مجاملة اتسمت بالجدية والمصارحة، وأستطيع القول والتأكيد أنه لا مشكلة لي مع أي طرف عراقي، بل كانت مشكلتي الوحيدة تكمن في علاقاتهم ببعضهم البعض وشعورهم القوي بأن كل طرف منهم ضحية الأطراف الأخرى. وقد يكون هذا هو العامل الوحيد المشترك بين أهل العراق في هذه المرحلة العصيبة.
رابعاً: اتخذ العرب في قمتهم الاخيرة في الخرطوم قراراً نصت إحدى فقراته (الفقرة الثامنة) على «التنفيذ الفوري لقرار فتح بعثة لجامعة الدول العربية في بغداد». وفتحت البعثة من دون اي امكانات مادية او امنية، لا داعي للدخول في سرد تفاصيلها والصعاب والمخاطر التي رافقتها، وفتحت البعثة خارج المنطقة الخضراء المحصنة لضمان تواصلها مع العراقيين كافة وتسهيله، وصمدت خلال هذه السنة لأن عراقيين كثيرين ساعدوها بمؤازرتهم ودعمهم نتيجة علاقات بنيت على الثقة وبهدف واحد هو مساعدة العراق للوقوف من جديد منارة اشعاع حضاري. وهؤلاء العراقيون منهم الكردي والعربي والتركماني والمسيحي والمسلم والشيعي والسني والصابئي والايزيدي والشبكي، والقائمة قد تطول.
ولا أخفي أنه لم تكن لدي اوهام حين اتخذ العرب قرارهم. وكما عهدوا في ادبياتهم الدبلوماسية ــ سهولة الاقرار وعدم التنفيذ ــ لكن ما دفعني لقبول المهمة هو التحدي والرغبة الشديدة في مساعدة اهل العراق مهما كانت ضآلة هذه المساهمة. قبلت المهمة ولم اتعامل معها في اية لحظة بصفتي ديبلوماسياً، بل تعاملت من قلبي وببساطة، باعتبار أن اهل العراق اهلي، وحرصت على أن تكون العلاقة متوازنة وبالمسافة نفسها مع كل الاطياف والاطراف، مركّزاً على تفعيل كل ما من شأنه التقريب بينهم من خلال توافقهم السياسي وتلاحمهم الوطني.
قدمت الى بغداد خلال فترة رأت فيها الامم المتحدة، بل العالم، بغداد أخطر منطقة في العالم، وحرصت في الشهور الاولى، وفي تواصلي، على ان اكون مستمعاً لرجال السياسة والدين والفكر والعشائر والمجتمع المدني.
قدمت من دون تقديم الدول التي اوفدتني الى بغداد اية مساعدة امنية او مادية، وهي الدول نفسها التي توجه دبلوماسييها المعتمدين لدى العراق للإقامة في عمان ولا تسمح لهم بالسفر الى بغداد بالرغم من امكاناتها المادية والامنية لحمايتهم. ولم يكن بإمكان البعثة التي فتحتها (وكلمة بعثة هنا مجازفة لأنها في حقيقة الامر شخصان فقط) أن تصمد طوال هذه السنة في ظروف يصعب وصفها لولا عاملا الايمان والتحدي.
خامساً: في غياب تام لأي رؤيا عربية متماسكة وجادة في معالجة الموضوع، بل انعدام حتى الوعي بضرورة تواجد هذه الرؤيا بأبعادها السياسية والامنية، وإعادة البناء والاكتفاء لدى البعض احياناً بالانجرار الى مواقف ترقيعية ومن منطلقات ضيقة لا تضع بالاساس ولا بالضرورة المصلحة العليا للشعب العراقي وإنهاء محنته بمساعدة اهله بتحصين بلدهم بتلاحمه الوطني وضمان ربط مستقبلهم بماضيهم المجيد والعريق. ولقناعتي بأن الثقة والصدقية وحدهما لم ولن يمكّنا من مساعدة اهل العراق، ولد في اعماقي شعور قوي بالإحباط والقهر امام المعاناة التي كنت شاهداً عليها طوال هذه السنة. وكذلك أحاسيس متناقضة بين ما يمكن المرء ان يتمناه للعراق وما يراه فعلياً على أرض الواقع.
والشعب العراقي اصبح في موقع لا يحتاج فيه الى مؤتمرات تصدر بيانات مهذبة وجميلة، سياسية كانت ام دينية، هي في نهاية المطاف عبارة عن مبادئ اخلاقية عامة ومتسامحة لا يختلف عليها اثنان، لكنها للأسف من دون اي اثر يذكر على الواقع اليومي الامني والمعيشي لهذا المواطن والذي يزداد سوءاً ورعباً.
اما الامور اللوجستية المتعلقة بهذه المهمة والمساومات التي طالتها، فقد اصبحت لا تستحق التعليق بل ولا حتى الاشارة اليها.
سادساً: امام هذا الواقع المر والمؤلم، وأمام استحالة انجاز اي شيء جدي وإيجابي، أجد نفسي مضطراً ومتألماً وحزيناً لإبلاغ معاليكم أني قررت الانسحاب من هذه المهمة بحلول نهاية شهر شباط 2007.
(الأخبار)