القاهرة - وائل عبد الفتاح
صعد الملف النووي المصري فجأة من أدراج الستينيات والسبعينيات إلى العلن، في ظل تفسيرات تتراوح بين «الاستغلال السياسي» عبر الدعاية النووية، والطوق للعودة إلى الصف الأول في المنطقة، فيما يصب المشروع المزمع في الحلم الشعبي لحيازة قنبلة تردع إسرائيل

غالباً، لم تخطر على البال أزمة الطاقة المقبلة حيث ينتهي احتياطي النفط في المنطقة بعد 12 عاماً (يقال إن الرقم بالنسبة إلى مصر 7 سنوات فقط) والغاز بعد 20 عاماً (بالنسبة إلى مصر 12 عاماً). فالتفكير كان في اتجاه إيران وإسرائيل. وإيران هي القوة الإقليمية التي ينقسم عليها الرأي بين التأييد على خلفية الاقتراب الإسلامي والخوف القديم من وجود «قنبلة شيعية» على ضفة المحيط السني، الأمر الذي قد ينظر إليه على أنه خطر «يهدد التوازن مع السنة وقوتهم العسكرية».
ورغم التأكيدات أن المحطات النووية المصرية ستكون لأغراض سلمية فقط، إلا أن المناقشات تقفز في اتجاه «القنبلة النووية» باعتبار أنها حلم مصري أُجهض أكثر من مرة ولأسباب سياسية.
فقد تزامنت بداية المشروع المصري مع المشروع الهندي. والآن الهند هي بين نادي الدول النووية، أما مصر فعادت للبحث، ومن نقطة الصفر، على مكان فى عالم المفاعلات النووية الغامض والمثير.
وبعد الفورة العاطفية الأولى، بدت الأسئلة كبيرة: هل هناك مشروع حقيقي أم أنه مجرد مشهد «مفبرك» فى سيناريو الطبعة الشعبية لجمال مبارك؟ هل القرار مرتبط بأزمة الطاقة، أم أنه في إطار تفكير أكبر «يتذاكى» على مراقبة الدول الكبرى ويطرح نفسه، بالتلميح والإشارة، في «الشرق الأوسط الجديد»؟ هذا السؤال مشروع ويذهب إلى أن الملف النووي المصري هو نقطة التقاء محتملة بين المجموعة المحيطة بجمال مبارك والمؤسسة العسكرية بطموحها التقليدي لوضع حدّ للقوة الإسرائيلية المفرطة، والتي لا تقبل بفكرة الأدوار الثانوية، بعدما كانت مصر على رأس الصف الأول فى سيناريوهات الشرق الأوسط.
1 ــ الإفلات من القبضة الأميركية
قبل أسابيع، طلب رجل أعمال من الرئيس المصري قطعة أرض على الساحل الشمالى ليقيم عليها مشروع منتجعات سياحية ينافس مشروع فازت به شركة «إعمار» الإماراتية، بينما خسرت شركة رجل الأعمال. قطعة الأرض التى طلبها الرجل كانت في منطقة «الضبعة»، وهي المنطقة التي خصصها قرار جمهوري أصدره الرئيس أنور السادات لبناء المفاعل النووي المصري في السبعينيات.
حدث هذا الأمر قبل أسابيع من «المبادرة المصرية» (كما تسمي الصحف الرسمية إعادة فتح الملف النووي). وكما روتها أسبوعية «الفجر»، فإن رئيس الحكومة الدكتور أحمد نظيف قال رداً على الطلب إن «الدراسات أثبتت أن الضبعة هي أفضل منطقة صالحة لإنشاء المفاعل». ولم يكن وقتها رجل الأعمال ولا غيره يعرف شيئاً عن «عودة الروح» للملف الذي أغلق تماماً بسبب «الخوف» من المفاعلات عقب انفجار مفاعل «تشرنوبيل» السوفياتي في أوكرانيا في العام 1986.
كانت الفكرة غريبة على رجال أعمال يتنافسون على أرض المفاعل. ويبدو أن هناك رغبة لتكون فكرة المحطات النووية «مفاجأة سياسية»، رغم أن لجنة الصناعة والطاقة في مجلس الشورى المصري أعدت تقريراً عن مصادر الطاقة البديلة ناقشته مع جمال مبارك قبل شهرين من مؤتمر الحزب الوطني. كما اتصل بعض أعضاء مجلس الشعب بالعالم المصري مدير الوكالة الدولية للطاقة الذرية الدكتور محمد البرادعي وحددوا موعداً معه في فيينا لمناقشة الملف.
لا تقتصر الفكرة السياسية فقط على النظرة الداخلية. هناك تكتم شديد على «الموديل» الذي ستختاره مصر لمفاعلاتها، والاتجاه الغالب هو الموافقة على العروض الصينية الأقل تكلفة والأكثر انتشاراً. وهو ما سيتم غالباً الاتفاق عليه مبدئياً خلال زيارة الرئيس مبارك قريباً إلى الصين. يأتي هذا في ظل موجة «الولع» بالصين الرائجة في النظام المصري. وهو ولع يفسر على أنه «براغماتي»، أي السير حسب اتجاه الاستثمارات، وهو ميزة حكومة رجال الأعمال. كما يفسر أيضاً على أنه سياسي يهدف إلى الإفلات من القبضة الأميركية.
2 ــ سباق مصري ــ إسرائيلي
السياسة هي قدر الملف النووي المصري. إسرائيل، «عدوتها» على الحدود، تلازم مشروع دولتها مع مشروعها النووي. ولم تحصل مصر على مفاعلها التجريبي الأول إلا في عام 1961، وهو «موديل» سوفياتي تبلغ طاقته 2 ميغاوات ويقع فى إنشاص شمال القاهرة، بينما حصلت إسرائيل على مفاعل تجريبي أميركى تبلغ طاقته 5 ميغاوات في العام 1955. وفي هذا السياق، يقول الصحافي مكرم محمد أحمد: «كان هذا إضافة إلى عدد من المنح الدراسية من لجنة الطاقة النووية الأميركية شملت أكثر من‏ 150 دارساً (إسرائيلياً) في كل مجالات الطاقة النووية بما في ذلك بحوث فصل البلوتونيوم في جامعة أرغون، التي كشف عنها مدير مؤسسة الطاقة النووية المصرية الأسبق الدكتور عزت عبد العزيز، الذي كان يدرس في الجامعة نفسها، عندما لاحظ سماح سلطات الجامعة لعالمين إسرائيليين شابين بدخول قسم البلوتونيوم الممنوع دخوله على الطلاب والأساتذه الأميركيين، ولأنه أدرك خطورة الأمر، أبلغ صديقه الديبلوماسي الشاب في السفارة المصرية في واشنطن أشرف غربال بأن شيئاً خطيراً يجري في إسرائيل يتطلب انــتباه مصــــر».
تأخرت بداية مصر نسبياً رغم أنها أقامت أول قسم للهندسة النووية فى جامعة الإسكندرية وبدأت مباحثاتها مع شركة «سيمنس» الألمانية لبناء محطة «سيدي كرير». كما خططت لإنشاء معمل حار يضاف إلى مركز أبحاث إنشاص، بالتعاون مع الاتحاد السوفياتي السابق، لإدارة النفايات النووية. واكتشفت أن كهوف الملح في سيناء هي المكان الملائم لدفن النفايات النووية من دون الخوف من تسرب إشعاعاتها الخطرة. كما تم إجراء مسح جيولوجى للبحث عن اليورانيوم. لكن كل هذا اصطدم بالحائط الصلب: هزيمة 1967.
3 ــ لعنة «الوستنغ هاوس»
قنبلة نووية «عربية» أو «إسلامية» صفتان لحلم دفع ثمنه مغامرون وخبراء أرادوا الخروج من صدمة الهزيمة، ودفعهم الانتصار في العام 1973 إلى السعي لامتلاك قوة مدهشة. ورغم غياب الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، كانت هناك إرادة سياسية بامتلاك القنبلة النووية التقت مع دعم مالي من ليبيا واستعانة بخبرة باكستانية (العالم عبد القدير خان، أبو القنبلة الباكستانية، والذي زار مصر، بحسب رواية الصحافي محمد حسنين هيكل، وتحمس لقنبلة مصرية).
وتشكل بالفعل مجلس ليبي ــ مصري، مثل ليبيا فيه عبد السلام جلود، الرجل الثاني وقتها. إلا أن الخلاف بين الرئيس الراحل أنور السادات والزعيم الليبي معمر القذافي فجر المشروع قبل أن يبدأ وأعاد الأمر إلى مبادرات أميركية أقواها جاءت خلال زيارة الرئيس الأميركي ريتشارد نيكسون في عام 1974، والذي وعد بمحطتين قوة كل منهما 600 ميغاوات. وأقيمت بالفعل مناقصة محدودة فازت بها شركة «وستينغ هاوس» الأميركية، لكن كان الشرط توقيع مصر على معاهدة «حظر الانتشار النووي». رفض السادات. ويبدو أن حلمه كان القنبلة، بينما كانت حكومته تسعى أساساً إلى إنشاء 8 محطات نووية بقدرة 8 آلاف ميغاوات تغطي 35 في المئة من احتياجات مصر من الكهرباء حتى العام ألفين.
ظهر على الخط مشروع آخر مصري ــ فرنسي يخطط لإنشاء محطتين نوويتين إضافة إلى معمل لدراسة إدارة النفايات النووية، ومفاعل تجريبي قدرته ‏11 ميغاوات. لكن تصميم السادات على عدم توقيع المعاهدة التي تشمل بقاء إسرائيل القوة النووية الوحيدة، حوَّل المشروع إلى لعنة، حتى أن المهندس أحمد سلطان وزير الكهرباء (أثناء المشروع الليبي) لفقت له قضية رشوة من شركة «وستينغ هاوس» برعاية من وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية.
وكان هناك ارتباط دائم بين دخول مصر إلى نادي الخبرة النووية وامتلاك قوة نووية خارج السيطرة المباشرة. وعندما فكرت مصر في مشروع منخفض القطارة لتوليد الطاقة من اندفاع مياه البحر وبخبرة ألمانية، لم تكن أصابع الـ «سي آي إيه» خافية، والتي أدت إلى تراجع الشركة المفاجئ. كما كانت هناك عمليات تصفية لعلماء مصريين من خريجي قسم الهندسة النووية الذي أنشاه الزعيم الراحل جمال عبد الناصر في بداية الحلم المصري، والذين ساهموا في مشروع المفاعل العراقي. وأولهم كان يحيى المشد، الذي قتل في حادث غامض في أحد فنادق باريس. واعترف جهاز «الموساد» بمسؤوليته عن هذا الأمر أكثر من مرة، آخرها في فيلم وثائقي بُثَّ قبل أسابيع على قناة «ديسكفري». كما كان آخر ضحايا «الحلم النووي العربي» محمد عبد المنعم الأزميرلي، الذي قتلته الاستخبارات الأميركية بعد فترة قصيرة من سقوط بغداد.
4 ــ القنبلة الشعبية
لم تطرد مصر اللعنة بتوقيعها المعاهدة أيام مبارك. وشكلّت مآساة «تشرنوبيل» «شماعة» الابتعاد عن التفكير فى المحطات النووية. ولم يعد هذا الأمر سراً. من الواضح الآن أن مصر «تلعب في الممنوع» بفتح الملف النووي، ولو حصلت على موافقة الولايات المتحدة وطمأنة إسرائيل. وحتى لو كانت الفكرة مجرد «بروباغاندا» إعلامية مصاحبة لمشروع التوريث. لكن المسألة أكبر قليلاً من الحماسة التي تخلط بين مشروع استخدام الطاقة النووية لأغراض سلمية وصناعة القنبلة النووية، رمز القوة في «الخيال» المصري المحارب لإسرائيل.
الأخطر فى إعادة فتح الملف النووي أنه يثير منطقة نائمة فى الإرادة السياسية، وهي القدرة على الدخول في أندية الكبار. و«النووي»، بالنسبة إلى شرائح كثيرة، هو أيقونة العضوية، إضافة إلى أنه أول مشروع كبير يحاول حل الأزمات قبل وقوعها.
من هنا، فالرغبة في تكملة المشروع خطر على الوضع السياسي، لأن المشروع يستلزم تطويراً في الإدارة والكفاءة وشحناً لخبرات قديمة وضعت في مخازن هيئة الطاقة النووية. وفي اجتماع عقد قبل أيام في مجلس الشورى، لم يكن الحوار بعيداً عن الخوف من تسلل أصابع أجنبية للشراكة في المشروع الجديد.
وحذَّر وزير الصناعة السابق الدكتور علي الصعيدي من الشركاء الأجانب، مطالباً أعضاء لجنة الصناعة بامتناع مصر عن توقيع البروتوكول الإضافي لمعاهدة «حظر الانتشار النووي». واقترح رئيس حكومة أسبق تمويل المشروع الجديد من عائدات التخصيص وعدم الاعتماد على تمويل أجنبي. وكان اقتراح مثير قد قال بفتح باب التبرع الشعبي. الإثارة أن صاحبه من الحزب الحاكم. وغالباً لو طرح المشروع للتبرع، سيتبرع المصريون لأنهم يعتقدون أنهم يساهمون في صناعة قنبلة نووية. فإدراك «المجاعة» المقبلة للطاقة لا يزال في حدود الخبراء، وأغلب ردود الفعل تحركها «هستيريا» البحث عن قوة لردع إسرائيل.
رئيس هيئة الطاقة النووية الدكتور على إسلام، بعدما كان مديراً في الظل، أصبح نجماً صحافياً، وتصريحاته تنقل عبر الهواء. وأخطر ما قاله هو أن «مصر تسير في برنامجها النووي السلمي بشفافية كاملة، والمحطة النووية المزمع إنشاؤها لا تستطيع إنتاج قنبلة ذرية».
وتبقى أسئلة عديدة: هل تشكِّل إعادة فتح الملف النووي دعاية مؤقتة أم «نوبة صحيان» مؤقتة لأصوات خافتة في مؤسسات الحكم في مصر؟ وهل يمكن لإدارة عاجزة عن إصلاح السكك الحديد ومعالجة إنفلونزا الطيور توفير الحد الأدنى من الأمان النووي؟
الإجابات أكبر من انتظار قرار جمهوري يخرج المشاريع النووية من الأدراج.

«عائلة مبارك تريد الاستمرار بالنووي». هكذا لخصت صحيفة «يديعوت أحرونوت» ما يقال عن إعادة فتح الملف النووي في مصر. فالخبر الذي أعلنه جمــال مبـــارك فـــي المؤتــمر الرابع لـ «الحزب الوطني» الحاكم جاء فى سياق طبعة شعبية جديدة لابن الرئيس الذي يواجه مشروع «توريثه» الرئاسة في مصر حالة غضب. يظهر إعلان الخبر كلعب على فكرة عاطفية تتمثل في «عودة مصر إلى قوتها الإقليمية»، وهو بمثابة التلميح بخطوة قد تؤدي إلى ندِّية غائبة، من وجهة النظر الشعبية، مع إسرائيل