بغداد ــ نصير النهر
تصاعدت في الآونة الأخيرة المناقشات بشأن تطبيق الفيدرالية في العراق، وخاصة بعد إقرار قانون «آليات وإجراءات تأليف الأقاليم». «الأخبار» تتناول موضوع الفيدرالية، عبر عرض مواقف القوى العراقية منه

عرف العراقيون مصطلح «الفيدرالية» في أواسط القرن الماضي، بعد ثورة 14 تموز 1958، التي اطاحت النظام الملكي، لكن الفيدرالية التي كان الشيوعيون من أول دعاتها، وأصبحوا «بيضة القبّان» عند إقرار قانون الأقاليم في البرلمان العراقي الأسبوع الماضي، لم تكن تخص العراق، بل جاءت ردّاً على المطالبات بالوحدة الفورية مع مصر وسوريا. وكان من ضمن المؤيدين للفيدرالية مع الدولتين الشقيقتين، الوطنيون الديمقراطيون و«القاسميون» والأكراد وغيرهم، أي أنها كانت دعوة إلى الاتحاد مع دول أخرى، لا إلى اتحاد العراق مع نفسه بعد اعادة صياغته.
الفيدرالية المطروحة اليوم تختلف عن تلك التي كانت أمس (قبل زهاء نصف قرن)، فهي تُطرح حالياً ردّ فعل على المركزية المفرطة، أي أنها ذات طابع انفعالي، كما كانت الدعوة إلى الوحدة الفورية ذات طابع انفعالي.
ولا بد من الردّ على المركزية المفرطة، لذا يجد مبدأ الفيدرالية قبولاً إلى حد ما، وربما إلى حد بعيد على المستوى النظري، لكنه يصطدم بالواقع على الأرض، كما تتنوع الأشكال المطروحة للبديل المركزي بين جهة وأخرى، أو فئة وأخرى. فما هو الشكل المطلوب للفيدرالية أو اللامركزية أو أقاليم الحكم الذاتي؟
أكثر من وجهتي نظر
يقول رئيس مجلس النواب محمود المشهداني لـ«الأخبار»، إن «الجميع متفق على مبدأ الفيدرالية، وإن ما تجري مناقشته هو آليات الفيدرالية وإجراءاتها لا تطبيقها، وهنالك تفعيل للمادة (42) التي تنص على تعديل الدستور، والتي ستبحث قريباً».
ويوضح المشهداني: «كان هناك مشروعان من جهتين مختلفتين، ثم تعدّدت المشاريع، وأعيدت صياغتها ودمج ما يمكن دمجه منها، واتفقنا على أن هنالك آليات عديدة لمعالجة المسائل الخلافية، وأن حلها ليس بالضرورة في مجلس النواب فقط»، مشيراً إلى «عدم وجود خلاف بين الكتل على المبادئ والأساسيات، لكن الخلافات تكمن في التفاصيل، وفي كيفية التطبيق».
لكن رئيس «جبهة التوافق العراقية»، عدنان الدليمي، يشدّد على أن «الجبهة لا تزال على موقفها الرافض قانون الفيدرالية في العراق، ولا تزال على موقفها المبدئي الثابت في رفض الفيدرالية جملة وتفصيلاً، باعتبارها خطوة أولى نحو تقسيم العراق ونهب ثرواته، فضلاً عن أن هذه الفيدرالية تقوم على الطائفية». وأضاف أن «جبهة التوافق تعتقد أن البديل هو إعطاء المحافظات صلاحيات واسعة». وتابع أن «جبهة التوافق عازمة على الاستمرار برفض مشروع الأقاليم، ومعها كل الأصوات الرافضة لهذا المشروع وفي المقدمة التيارات الرافضة في قائمة الائتلاف (الموحد)، وجبهة الحوار الوطني وعدد من أعضاء القائمة العراقية، وهذا يعني أن جبهة الرفض ليست طائفية، بل وطنية».
وفي هذا السياق، يقول النائب عن «جبهة التوافق العراقية» خلف العليان، لـ«الأخبار» إن الجبهة «لن تتنازل عن ثوابتها ومبادئها بشأن موضوع الأقاليم، ولن ترضى بتقسيم العراق». ويضيف أن «إقرار هذا المشروع من مجلس النواب لا يمكن العمل به إلا بعد سنة ونصف، وبعد تعديل الدستور، وهذا الموضوع لا يعني القبول بالفيدرالية، أي أن الموضوع الآن هو حبر على ورق».
الوقت غير مناسب
وقال عضو المكتب السياسي في «الحزب الشيوعي» العراقي مفيد الجزائري، لـ«الأخبار»، إن «القائمة العراقية الوطنية (التي يتزعمها رئيس الوزراء الأسبق اياد علاوي) تؤيد الفيدرالية، لكنها ترى أن الوقت غير مناسب في الوقت الحاضر». وأضاف: «لدينا اعتراض على مسألتين، أولاهما أن التوقيت غير مناسب لأننا نركّز جهودنا على المصالحة الوطنية، وهذا الموضوع قد يثير الإشكالات في الوقت الحاضر، وتمّت معاجة هذه النقطة بتأجيل الشروع بالتنفيذ 18 شهراً، والمسألة الثانية هي الطريقة التي طرح بها موضوع فيدرالية الاقاليم والإصرار على تطبيقها، وهو ما يجعلها تبدو كأنها أقاليم على اساس طائفي أو انفصالي، ونحن نرفض ذلك».
وفي السياق ذاته، أعلنت «القائمة العراقية الوطنية» أنها تؤيد مبدأ الفيدرالية، إلا أنها رأت أن الوقت ليس مناسباً. وقالت في بيان، إن «البرنامج الانتخابي للقائمة نص على العمل من أجل عراق ديموقراطي فيدرالي تعدّدي موحّد مستقل»، مشيرة إلى أن «البلد يعيش ظروفاً استثنائية عصيبة تفرض إعطاء الأولوية للأمن والاستقرار وإعادة الأوضاع الطبيعية».
لا مبرر لقيام الفيدرالية
وأكّد رئيس «الكتلة الصدرية» في مجلس النواب، فلاح حسن شنشل، رفض الكتلة لمبدأ الفيدرالية، معتبراً أن «الفيدرالية يقصد بها إيجاد فيدراليات متعددة في العراق مشابهة لفيدرالية كردستان، على أسس مذهبية واعتبارات أخرى ستودي بالعراق نحو التقسيم».
وقال شنشل «لا مبرر لقيام الفيدرالية، في وقت ندعم فيه النظام اللامركزي لكل محافظة ونزيد صلاحيات مجالس المحافظات بهدف إعطائها مزيداً من الصلاحيات، والابتعاد عن نظام الحكم المركزي». وشدّد على أن «مشروعنا وتوجّهنا متضامن مع توجّه حزب الفضيلة الإسلامي الرافض للفيدرالية»، مضيفاً أن «اتحاد أكثر من محافظة ضمن كيان إداري سيعطي نوعاً من التحالف على أساس معين يجعله مرفوضاً منا».
وكان «حزب الفضيلة» قد قدم إلى مجلس النواب مشروع قانون ينصّ على أن تكون كل محافظة من محافظات العراق إقليماً قائماً بذاته، وهو ما يتفق مع اعتقاد «الكتلة الصدرية».
وفي الاتجاه نفسه، قال النائب عن «حزب الفضيلة» كريم اليعقوبي إن مشرع قانون الأقاليم الذي تقدم به حزبه، سيطمئن كل الأطراف السياسية إلى وحدة العراق وعدم انجراره نحو التقسيم الطائفي، ويزيل القلق الإقليمي والدولي عن الفيدرالية».
وأوضح اليعقوبي في تصريح لـ«الأخبار»، أن «حزب الفضيلة قدم مشروع قانون عن الأقاليم، ينصّ على أن تكون كل محافظة من محافظات العراق إقليماً قائماً بذاته»، على أن المشروع «سيطمئن الأطراف السياسية المشتركة في الحكومة، وخاصة المعترضة على الفيدرالية، إلى وحدة العراق، وعدم انجراره نحو التقسيم الطائفي». وأضاف أن «مشروع حزب الفضيلة من شأنه أيضاً أن يزيل القلق الإقليمي والدولي، ولن يحقق العزل الاجتماعي بين العراقيين».
كما رأى النائب عن «حزب الفضيلة» جابر خليفة، أن «الحزب لا يرى التوقيت الحالي مناسباً لإقرار مبدأ الفيدرالية، رغم أنها حق من حقوق الشعب». وأضاف أنه «من السابق لأوانه الأخذ بهذا الخيار الذي يحتاج الى وعي وفهم وإدراك من عامة ابناء الشعب العراقي قبيل الشروع بتنفيذه». ولفت الى أن «حزب الفضيلة ماض في رفضه للمشروع في الوقت الحاضر، وهو بذلك يريد إنضاجه، لكنه مع تطبيقه لاحقاً».
الخوارج
غير أن رئيس «الجبهة العراقية للحوار الوطني» صالح المطلك رأى أن «أي محاولة لفرض فقرات معينة في الدستور العراقي حالياً تُعدّ خروجاً على المواثيق وعلى مبدأ المصالحة الوطنية»، ووصف من سمّاهم دعاة التجزئة بـ«الخوارج».
وقال المطلك لـ«الأخبار»، إن «كل الأطراف المشاركة في العملية السياسية اتفقت في اجتماعات القاهرة، في الخامس والعشرين من تموز الماضي في الجامعة العربية، على أن تعيد النظر بكل الفقرات المختلف عليها في الدستور، وكل الاطراف وقّعت على ذلك».
وأوضح المطلك أن «أي تطبيق لأي من الفقرات في الوقت الحاضر هو مخالف لـ(اتفاقات الشرف) السياسية التي وقعت عليها الأطراف في الجامعة العربية وأمام امينها العام السيد عمرو موسى».
لا مبرر للانقسامات
ورغم أن «حزب الدعوة» الذي ينتمي إليه رئيس الوزراء نوري المالكي، يظهر في الموقع المحايد، فإن الأمين العام «منظمة انصار الدعوة» في العراق مازن مكية، قال، لـ«الأخبار»: «لا داعي للتمسك الآن بموضوع فيدرالية الاقاليم ما دامت تثير حالة من التباعد بين اجزاء النسيج العراقي وتشيع جواً من التخوف من شبهات التقسيم».
وأشار مكية، وهو الرئيس السابق لمجلس محافظة بغداد، الى أن «من الأسباب التي يطرحها بعضهم لتمسكه بموضوع فيدرالية الأقاليم وإصراره عليه، تحقيق الحالة الديمقراطية وتحريك العملية السياسية في إطارها وضمان الخلاص من الديكتاتورية والمركزية». وأضاف أن «ذلك كله يمكن أن يتحقق من خلال فيدرالية المحافظات التي تضمن، على نحو واضح، الخلاص من الديكتاتورية، وتجسد السلوك الديموقراطي على أرض الواقع».
وأشار مكية الى أن «طرح الإقليم الكردي حجة لإقامة امثاله على المساحة العراقية، والجميع يعرف أن إقليم كردستان لم يتألف بإرادة دستورية أو بمشاركة سياسية عراقية كاملة، بل كان قراراً وأداء كردياً وخارجياً لم يعتمد الوجود العراقي أساساً لتأليفه من البداية، فهو يمثل حالة مفروضة توافرت لها ظروف خاصة».
الفيدرالية حقيقة دستورية
ومن جانب آخر، قال عمار الحكيم، القيادي البارز في «المجلس الأعلى للثورة الإسلامية» (الذي يتزعمه السيد عبد العزيز الحكيم) والأمين العام لمؤسسة «شهيد المحراب» التابعة للمجلس: «علينا دعم الحكومة لأنها تواجه ضغوطاً داخلية وخارجية كبرى». وأضاف «إننا نستغرب ممن يعيب علينا حديثنا عن الفيدرالية، فهي حقيقة دستورية أقرّها الدستور والبرنامج السياسي لحكومة الوحدة الوطنية».
وأضاف الحكيم: «عندما يطلق السجناء، وبعضهم متورط في عمليات ارهابية حسبما قال بعض المسؤولين، يقال إن ذلك من ضمن برنامج حكومة الوحدة الوطنية، لكن عندما نطالب بالفيدرالية يقال جمدوا هذا الأمر الآن وكأن إعطاء الحقوق لأبناء الوسط والجنوب يتناقض مع برنامج الحكومة الذي أقرّ ذلك». وتابع «إننا سنقف بقوة امام أي جهة تحاول المساس بوحدة العراق، فنحن لسنا من المطالبين بتقسيم العراق على الاطلاق، لكننا نقول: لماذا تهمل محافظات الوسط والجنوب؟».
وأشار القائد في «المجلس الأعلى» الى أن «هناك ملياري دولار صرفا على محطات الكهرباء في بيجي والدورة، وهم يعلمون أنها ستضرب، ولو أن هذا المبلغ صرف في الوسط والجنوب على الكهرباء لكانت الآن هناك طاقة تكفي ابن الوسط والجنوب وحتى المناطق الساخنة. لماذا يكون الأمن ذريعة لعدم الإعمار؟».
وتساءل الحكيم «إن مناطقنا آمنة فلماذا لا تعمّر؟ ولو طبقت الفيدرالية، ألا يمكن أن تعمّر مناطقنا المحرومة؟». وأوضح «إن هذه هي رؤيتنا وهذا ما سنظل نسعى اليه، فنحن نحترم وجهات النظر الأخرى، لكننا نرى الفيدرالية حقيقة دستورية لا بد من تحقيقها»، مشيراً إلى أنه «من يقبل بفيدرالية كردستان، عليه أن يقبل بفيدرالية الوسط والجنوب وبغداد، وباقي الأقاليم».
مخاوف الترسيم
ولا يخلو مشروع الفيدرالية من مخاوف اضافية، برغم إقراره بالنسبة البسيطة جداً؛ فقد قال الأمين العام لاتحاد البرلمانيين العراقيين منتصر الإمارة، إنه مع تطبيق الفيدرالية «لكونها تحلّ كثيراً من المشاكل العراقية، برغم أنها ستفرز مشاكل أخرى»، مضيفاً أنه يؤيد النظام الفيدرالي «شرط أن يحقق العدالة بين الأقاليم».
وأوضح الإمارة، وهو أيضاً عضو المجلس الوطني السابق عن قائمة «الائتلاف الموحد»: «من الممكن أن تفرز الفيدرالية مشاكل، منها ترسيم حدود الأقاليم». وأشار إلى أن «هناك من يدعو إلى إنشاء أقاليم تتكون من محافظة واحدة، وهناك من يدعو إلى أقاليم تتكون من ثلاث محافظات، وآخرون يدعون إلى تأليف أقاليم من تسع محافظات»، مضيفا أنه «مع الدعوات التي تنادي بثلاث محافظات».
ورداً على سؤال عن سبب مساندته للإقليم المكون من ثلاث محافظات، قال الإمارة «إذا ما فشلت هذه التجربة فلن تؤثر في المنطقة، وإذا نجحت، فإن نجاحها سيؤدي إلى تطورها، ثم توجد توازناً بين القوى السياسية».
المركزية تقسِّم العراق
من الجانب الكردي، قال رئيس «الكتلة الكردية» في البرلمان فؤاد معصوم، لـ«الاخبار»، إن «مسألة الفيدرالية محسومة من جانبنا. وأي رأي في العودة إلى المركزية يعني تفتيت العراق وتقسيمه».
وأوضح معصوم أن قانون الأقاليم يتضمن نقاط خلاف، لكن «ليس على تأليف الفيدرالية، بل على آلية تأليف الفيدرالية والأقاليم، لكون الفيدرالية أمراً مقرّراً في الدستور وانتهينا منه».
وقال النائب سعد البرزنجي، القائد في القائمة نفسها، إن «الادعاءات التي تقول إن الفيدرالية تُقسم العراق مردودة على أصحابها». وأضاف «على العكس من ذلك، إن التراجع عن موضوع الفيدرالية هو مشروع لتقسيم العراق، والذي يريد أن يضع العثرات أمام تطبيق الفيدرالية هو الذي يُتهم بأنه يريد تقسيم العراق، لا العكس».
ورأى النائب عن «التحالف الكردستاني» عبد الخالق زنكنة، أن «التحالف يرى الوقت مناسباً لإقرار مبدأ الفيدرالية في العراق، و يدعم فيدرالية الجنوب والوسط». وقال زنكنة: «نحن نعتقد أن إقرار فيدرالية الأقاليم هو المخرج الوحيد لما يمر به الشارع العراقي من تداعيات أمنية خطيرة، ونعتقد بأن إقرار الفيدرالية لا يتعارض مع مشروع المصالحة الذي طرحه المالكي». وأشار الى أن الأكراد «ماضون في دعم مبدأ فيدرالية الجنوب والوسط، وبالتالي، فإن النتائج محسومة لمصلحة إقرار المبدأ، لأن الكتلتين الرئيسيتين في البرلمان لديهما التوجه نفسه».
تسابق غير مبرر
وخارج الإطار البرلماني، قال رئيس «الحزب الوطني الديموقراطي» نصير الجادرجي، لـ«الأخبار»: «هذه التشنجات كلها غير مبررة، وكأن الجميع يتسابقون، لا للبناء، بل لتحقيق جدول أعمالهم الخاص، فمن قال إن الفيدرالية أمر سيئ؟، وما المبرر لكل هذه العجلة، وكأن القطار سيمر سريعاً ويترك المنتظرين؟».
ورأى الجادرجي أن «الفيدرالية نظام جيد معمول به في الكثير من دول العالم، وكذلك المركزية، لكن التساؤل الذي يطرح نفسه هو: ما الذي حققه الساسة للشعب لكي يشغلوا في امور هي ابعد ما تكون عن صلب المعاناة الحقيقية الرهيبة للعراقيين، ومن قال إن المركزية أو الفيدرالية إحداهما مناسبة للمجتمع العراقي أكثر من الاخرى؟ العبرة في التطبيق، ومَن هي الجهة التي تنفّذ؟ فإذا كان المقصود إنشاء اقاليم تتحكم بها اتجاهات او فئات معينة، فإننا نكون قد قسّمنا ديكتاتورية صدام الى ديكتاتوريات متعددة باسم الديموقراطية والفيدرالية».