باريس - بسّام الطيارة
من يتذكر في فرنسا ١١ أيلول لولا الضجة الإعلامية التي استعد الجميع لها؟ الصحف ستخصص ملفات، ووسائل الإعلام المرئي بدأت بالإعداد لـ«سهرات حول ١١ أيلول»، وأهل السياسة يستعدّون لاستعمال هذه الذكرى كل حسب مراده وأهدافه.
أحداث ١١ أيلول، على بشاعتها من الناحية الإنسانية، تسبب في فرنسا حرجاً سياسياً واجتماعياً إن لم نقل حرجاً.
فمن نافل القول ان الهجمة التي أودت بحياة ما يزيد على ثلاثة آلاف نفس في برجي مركز التجارة العالمي لم تثر رفضاً مبدئياً بين المواطنين الفرنسيين على مختلف توجهاتهم ومشاربهم وانتماءاتهم العرقية أو الطائفية.
إن تحويل «١١ أيلول» إلى معلم إعلامي سياسي ومنطلق لسياسة حملها الرئيس جورج بوش عشية الهجوم، هو ما يمكن أن يثير انقساماً في فرنسا، لا الحدث الدموي كما يحلو للبعض تصوّره أو التشديد عليه لانتقاص حق فرنسا بانتقاد السياسة الأميركية.
لا بد من أن الأميركيين قد نسوا، أو تناسوا، أن جاك شيراك «كان أول زعيم توجه إلى نيويورك عقب الفاجعة»، وكان أول من التقى جورج بوش للتعزية بالمصاب الذي ضرب الولايات المتحدة. ويذكّر الفرنسيون العاتبين من الأميركيين على «التباين القائم بين مواقف البلدين»، خصوصاً في مجال السياسة الخارجية، بأن باريس دعمت معظم طلبات واشنطن في تنظيم ما بدا أنه «استراتيجية الحرب العالمية على الإرهاب» وأرسلت جنودها إلى أفغانستان تحارب جنباً إلى جنب مع الجيش الأميركي، وقبلت بسَن قوانين عالمية لدعم حملة أميركا على الارهاب.
ويقول مقربون من أوساط جاك شيراك، إن موقف فرنسا القوي المناهض للإرهاب سمح لها، ولا يزال، بالوقوف أمام توجهات واشنطن المتطرفة ومنع تعميم سياسة «من ليس معي فهو ضدي». ويذكّر هؤلاء بأن فرنسا «تعرضت لموجة إرهابية في عام ١٩٨٦ عندما كان شيراك رئيس وزراء الرئيس فرنسوا ميتران، ولم يمنعها هذا من التمييز بين «إرهاب أعمى» وعنف له أصول سياسية أو اجتماعية.
ويرى عديد من الفرنسيين أن «المحافظين الجدد» (وهو مصطلح انطلق من فرنسا لوصف الاتجاه المتطرف في اليمين الأميركي المتحالف مع التطرف الكنسي المعمداني) أرادوا جعل «١١ أيلول» معلماً من معالم الحياة السياسية الكونية لأهداف سياسية أميركية بعيداً جداً عن «الألم الذي شاركت فيه فرنسا سكان نيويورك والولايات المتحدة».
وبعد «كلنا أميركيون» التي أطلقها رئيس تحرير جريدة الـ «لوموند» جان ماري كولمباني عنواناً لأول افتتاحية غداة الهجوم على واشنطن ونيويورك، عاد الفرنسيون وأفاقوا من سبات «موجة التضامن العمياء مع أميركا» على وقع تصريحات بوش المتطرفة التي قادت بعد أفغانستان إلى غزو العراق. وكان كولمباني نفسه أول المتراجعين عما كتبه عندما رأى أبعاد الاستعمال المنفعي «للتضامن الإنساني» الذي تتصرف به الإدارة الأميركية.
والواقع أن «التباين الفرنسي الأميركي» لا يتوقف على عتبة الحملة العالمية على الإرهاب التي انزلق لسان جورة بوش ووصفها بالصليبية.
ويتفق كثيرون على أن «ما تعدّه واشنطن سياسة خارجية هو بالنسبة إلى فرنسا سياسة داخلية». فالتاريخ مدّ خيوطاً عديدة بين ماضي فرنسا والكثير من الدول العربية وخصوصاً حول البحر المتوسط من المغرب العربي إلى عتبات الشرق الأدنى في لبنان وسوريا وفلسطين. ولدى فرنسا أقليات ينتمي معظمها إلى الطائفة المسلمة، منها المهاجرة القريبة ولكن أيضاً العديد منها بات فرنسي الأصل من الجيل الثاني والثالث الذي له ثقل في الدورة الاقتصادية وفي الحياة الاجتماعية عموماً.
ويعيد الزخم الإعلامي الذي يعطى لـ«١١ أيلول» هؤلاء «الفرنسيين العرب»، وخصوصاً ساكني الضواحي، إلى دائرة الضوء التي أنار بعض من توجهات السياسة الفرنسية في ظل «وجود ١١ يلول كمعلم مفروض».
ويرى البعض ان «١٢ أيلول»، وهو اليوم التالي للكارثة المأساة، يوم أعلن بوش «الحرب على محور الشر» مشيراً بطريقة غير مباشرة إلى الإسلام، هو أهم بكثير من «١١ أيلول» لأنه «تاريخ دخول جورج بوش في لعبة (أسامة) بن لادن ووقوعه في فخ القاعدة».
فنتائج وقوع بوش في فخ التطرف الإسلامي طاولت كثيراً الحياة اليومية في فرنسا كما يراها المهتمون بشؤون الجاليات المهاجرة وطوائف الأقليات. ومن أبرز هذه النتائج «الانكفاء على الذات» الذي صبغ التصرف الاجتماعي للأقليات، إلى جانب العودة إلى الأصول وخصوصاً انغماس الأقليات في الأصولية الدينية المنتمية لها. ورافق هذه العودة إلى الدين ردة فعل للأكثرية الكاثوليكية تمثلت باندفاع غفير إلى مسالك الكنائس في كبرى الدول الكاثوليكية التي تحوي أكبر تجمع مسلمين ويهود في أوروبا.
وتعدّ الضواحي الفرنسية «ميزان هذه التحول في المجتمع الفرنسي»، فسكانها من المسلمين مهاجرون جدد أو قدامى باتوا فرنسيين، إلى جانب عديد من الفرنسيين من أبناء الطائفة اليهودية الذين تركوا المغرب العربي مع انكفاء الاستعمار الفرنسي. وحتى «١١ أيلول»، وعلى رغم بعض التوتر الذي كان يقوم بين السكان بسبب الأزمات والتشنج في الشرق الأوسط وخصوصاً في فلسطين، فإن الحياة اليومية للسكان باعتراف الجميع كانت خالية من «التوتر الذي تشهده الضواحي اليوم».
ومع اعتراف البعض بوجود «أصوليين من الطرفين» (مؤيدو الليكود الإسرائيلي ومتعاطفون مع القاعدة) فإن الجميع يتفق على وضع بن لادن وبوش في معيار الشجب نفسه، وتحميلهما وزر التوتر والعنف في المدن وفي النفوس.
وهكذا ارتبط معلم «١١ أيلول» في فرنسا، كما هي الحال في الدول الأوروبية الأخرى، على عامل «وجود الغرباء» ناقلاً «الخوف من الآخر» من حقل «صراع الشرق والغرب» إلى حقول أكثر واقعية ومنها البطالة والمنافسة على فرص العمل، استطراداً نحو جعل الغريب، أي المهاجر المسلم، من أسباب تردي الوضع الاقتصادي عموماً.