«أمراء إسلاميون في محضر أمن الدولة». لكن الصورة اختلفت، بل انقلبت. فأمن الدولة يحضر، ليس للتحقيق أو الاعتقال، بل لحماية الإسلاميين، في سياق تفاهم قد يكون ناجماً عن الظروف، وربما عن صيرورة تاريخ النزاع الإسلامي ــ الأمني، وما نجم عنه من إفرازات فرضت نوعاً من التلاقي، أصبح واضحا، وإن كانت أسبابه الحقيقية غامضة، كغموض الوضع الإسلامي الحالي، في ظل أنباء عن تسلح "منهجي".
«أمير إسلامي» في حماية أمن الدولة

يحضر رجل إسلامي في غرفة التحكم فى قطاع الأخبار في التلفزيون، ليضفي ملامح غريبة على المكان الذي لم يعتد أن يظهر فيه.
إلى جانبه، ضابط أمن دولة، يحضر معه في برنامج «ضيف فوق العادة» على شاشة «القناة الاولى» المصرية.
رئيس مجلس شورى «الجماعة الإسلامية» كرم زهدي للمرة الأولى على تلفزيون الحكومة، وبرعاية جهاز أمن الدولة الذي عاش على مطاردة العناصر النشطة فى صناعة العنف المسلح في مصر. حدث خاص وتاريخي.
ماذا يعني أن يقف ضابط من أمن الدولة ليشرف على إخراج حوار مع «أمير من أمراء الإرهاب» كان في يوم من الأيام يخطط لخطف حكم مصر من طريق «ثورة مسلحة»؟!
بالطبع، ما تغير هو كرم زهدي، الذي أصبح ضد «العنف المقدس»، وظهوره على الشاشة هو رسالة تردّ على مفاجأة الرجل الثاني في تنظيم «القاعدة» أيمن الظواهري على قناة «الجزيرة» الفضائية.
الظواهري بشَّر الناس بانضمام «فرسان» من الجماعة الإسلامية إلى «القاعدة»، وفي الحال الطبيعي سيكون هذا الأمر مجرد انشقاق فى تنظيم يمرّ بمنعطف مهم. لكن الموضوع، كما يبدو من خلال الانزعاج الظاهر لدى أجهزة الأمن، أكبر من الانشقاق والصراع على الكوادر والقيادات. فهو يتمحور حول سؤال جوهري: هل هناك ميليشيات مسلحة نائمة فى مصر يوجه إليها الظواهري رسالة يقظة للخروج عن سيطرة كرم زهدي ومجموعته المتحمسة إلى «التوبة عن العنف» والاندماج في المجتمع السياسي؟! إعلان الظواهري كشف عن حقيقة مهمة وردت على لسان كرم زهدي عندما قال، في وقت سابق، إن «الجماعة الاسلامية تنظيم قوي ومتماسك، والظواهري كاذب».
يبدو التصريح «إعلان قوة» مثيراً للدهشة والتأمل،وخاصة أن كثيرين تعاملوا مع الجماعة الاسلامية على أنها اصبحت مجرد «تنظيم تاريخي» يسكن في متحف تنظيمات «العنف الاصولي». إلا أن «الحرب الفضائية» بين الظواهري وزهدي كشفت انه ما زال هناك جسم كبير للجماعة قوامه 30 الف عضو أفرجت أجهزة الأمن عنهم بعد «صفقة التوبة» التي تمت على مرحلتين: الاولى مبادرة وقف العنف المعلنة عام 1997، والثانية «هوجة» المراجعات الفكرية التي تركزت على فكرة اساسية، وهي ان الحرب على الحاكم يمكن ان ينتج منها فساد وفتنة لا إصلاح.
اين اختفى هذا الجسم الكبير؟ هل ذاب في المجتمع؟! هل أنهكته اتفاقيات الإفراج التي تجعل المعتقل يوقّع في قسم الشرطة التابع له كل يومين؟! ام ان هناك خطة منهجية للعودة الى الحياة السياسية؟
خطة العودة قد تأتي بتنسيق مع اجهزة الأمن لتكون «الجماعة الاسلامية» في مواجهة «الإخوان المسلمين»، حسب لعبة قديمة أنهك فيها «الإخوان» تنظيمات «اليسار». فدور «الجماعة» يتمثل بتحجيم سيطرة «الإخوان» على ساحة العمل الإسلامي.
«الجماعة» في مفترق طرق فعلاً، ويبدو أنها تعبر مرحلة انتقال تقليدية في عمر التنظيمات الاصولية، من «التطرف» الى «الاعتدال» كما حدث من قبل مع «الإخوان».
الانشقاق هو عارض طبيعي لعبور مرحلة «المراهقة التنظيمية». وكما كانت «الجماعة الاسلامية» انشقاقَ متطرفٍ عن تنظيم «الاخوان» المعتدل، فقد يكون شريط الظواهري، الذي اعلن فيه انشقاق بعض القيادات عن «الجماعة الاسلامية»، والتحاقهم بـ«القاعدة»، هو الطبعة المتطرفة الرافضة للخروج من مرحلة العنف.
وهنا يكمن سر صناعة نجم جديد فى عالم العنف المسلح اسمه محمد الحكايمة، الذي ظهر في شريط الظواهري على قناة «الجزيرة».

«إنه نكرة»... قال كرم زهدي عن الحكايمة.
اسمه بالكامل هو محمد خليل حسن الحكايمة، ولم يكن معروفاً كقائد في «الجماعة الاسلامية». لكنه ظهر في شريط الظواهري، بأحدث موديل من موديلات أمراء العنف (جلباب أفغاني وعمامة أفغانية ولحية وخلفية من نخيل، وجبال تبدو مصنوعة على الكمبيوتر بتقنيات الغرافيك، ويحيط به مسلحون أخفت الكاميرات صورتهم).
هي رسالة واضحة: هذا نجم جديد يبشر باستمرار حمل السلاح ضد نظام الحكم في مصر، نجم تصنعه أشرطة الفضائيات والمواقع الالكترونية. يعرف الحكايمة جيداً، وكما تعلَّم من أستاذه الظواهري، صياغة رسالة إعلامية متكاملة. فظهر على «الجزيرة» وقدَّم نفسه في صورة المتمرد على وقف العنف، ليبعث الحياة في ميليشيات نائمة تحت سطوة أجهزة الأمن.
هكذا ظهر الحكايمة ـ «نجم» صناعة الخارج ومعارك الجهاد ضد السوفيات أولاً ثم الأميركيين ثانياً ـ في مواجهة قيادة تاريخية دخلت مرحلة «الاعتدال» وأصبحت من وجهة نظر خصومها مستأنسة.
وبالنسبة لـ«الجماعة الاسلامية»، الحكايمة هو «أخ لا نعرفه ولم يشغل يوماً موقعاً قيادياً في الجماعة الاسلامية ولا يمثل انضمامه للقاعدة سوى موقف شخصي»، كما جاء في بيان وقّع عليه كرم زهدي وناجح ابراهيم وأسامة حافظ وفؤاد الدواليبي وعلي الشريف وعاصم عبد الماجد وحمدي عبد الرحمن، وهم جميعاً من ضمن «القيادة التاريخية» للجماعة، المؤمنة بفكرة المراجعات والمتحمسة للاندماج في المجتمع، وتبحث حالياً عن صيغة عمل سياسي بلا سلاح.
الحكايمة يحاول حالياً صناعة مجده عبر رفض خط «التوبة عن العنف». عمره 45 سنة، أي أنه من جيل الوسط ومستواه العلمي بين المتوسط والعالي (خريج معهد الخدمة الاجتماعية). انتقل في مرحلة «الجهاد الأممي» من السعودية الى أفغانستان ثم إلى إيران حيث ألقي القبض على ابنه خلال محاولة لاعتقاله.
الحكايمة خطف بعض الأضواء في لحظات تتجمع فيها اهتمامات الناس وحواسهم لمتابعة الحرب في لبنان. وقبل ظهوره بأيام قليلة، اتصل بمحامي الجماعات الاسلامية منتصر الزيات ثم أرسل له رسالة بالبريد الالكترونى تحمل نسخة من كتابه «أسطورة الوهم» الذي يتناول علاقة الاستخبارات الأميركية بالجماعات الاسلامية. ونشر الكتاب على الانترنت بعد نشر ثلاث حلقات منه في صحيفة مصرية يومية. وكأن الصورة التي تريد أن تثبت في الذهن هي أن هناك نجوماً مصريين في عالم العنف المسلح.
حسن نصر الله (الأمين العام لحزب الله) ليس وحده، «نحن هنا»... في هذا السياق ظهر الحكايمة، في فيلم من إخراج الظواهري، موجّه إلى أعضاء الجماعة الاسلامية. رسالة كأنها اعلان بالرموز عن عملية مقبلة كما حدث من قبل عندما أعلنت «الجبهة العالمية لجهاد اليهود والصليبيين» في شباط 1998 وبعدها بأقل من ستة أشهر (في آب) وقعت تفجيرات السفارات الأميركية في نيروبي وغيرها.
الجبهة أعلنت من قبل أيمن الظواهري وأسامة بن لادن، أي بين أهم «أمراء جماعة الجهاد» المصرية والأمير السعودي الذي تحوّل من وريث عائلة الأغنياء إلى درويش في ملاعب العنف الأصولي.
تنظيم «الجهاد» كان مخنوقاً في مصر، والظواهرى المنظِّر والفيلسوف والمفكر أراد أن ينقله من المحلية الى الأممية، واختار أمير الدراويش والتقط من «الجماعة الاسلامية» رفاعي طه، وهو «أمير» غير متحمس لمبادرة وقف العنف التي تلت مذبحة الأقصر 1996، وأعلنت فيها «الجماعة الاسلامية» توقفها عن مقاومة النظام الحاكم بالسلاح.
اختار الظواهري رفاعي طه ليجدد دماء التنظيم الذي كان يكبر، وتكبر معه العمليات والأعداء، من نظام الرئيس حسني مبارك في مصر الى «الطاغوت الأكبر» في العالم: أميركا وإسرائيل.
وبالتالي، راحت تولد القيادات الجديدة من حضانة عسكرية تتفاعل فيها قيادات الفصائل المختلفة وتنصهر الجماعات القديمة في جماعة جديدة أكثر عنفاً ودموية وقدرة على تغيير العالم بالقوة.
رفاعي طه انسحب من جبهة الظواهري وبن لادن قبل تفجير السفارات بعشرة أيام. التفسير الشائع وقتها كان أن «الجماعة الاسلامية» تنظيم هرمي يلتزم فيه الأعضاء بالطاعة الكاملة لقائد واحد على عكس تنظيم «الجهاد» العنقودي.
لكن التفسير الذي قاله أسامة بن لادن خلال عشاء في قندهار مع قيادات الجبهة هو أن طه انسحب حتى لا يفسد مبادرة وقف العنف.
انسحب طه، لكن محمد شوقي الاسلامبولي، شقيق خالد الاسلامبولى قاتل الرئيس المصري الأسبق أنور السادات، حافظ على حالة «البين بين». الجميع يعرف أنه متمرد، وربما هو الآن بين قيادات «القاعدة». لكنه لا يعلن سوى للمقربين غضبه من «المراجعات» ومن إعلان كرم زهدي وإخوته أن السادات «مات شهيداً».
لكن عندما نشر في «الأهرام» نعي والده المستشار شوقي الاسلامبولى في اليوم التالي لإعلان الانشقاق، وصف النعي خالد بأنه المرحوم، أما محمد فاكتفى النعي بالإشارة الى أنه «في الخارج». وهي حالة من التسامح غريبة على صحف الحكومة التي كانت تعتبر أن ذكر «أمراء» العنف المسلح لا تصح إلا وهي مصحوبة باللعنات.
لكن هناك أشياء تتغير كثيراً، أكثر من مجرد انشقاق الجماعة الإسلامية أو ضخ دماء جديدة فى «القاعدة». إنه قبول أكثر بمشروعية التمرد على النظام، واختيار طريق العنف والدماء ربما تكون اسلوباً اضطرارياً في مواجهة ظلم الحاكم وجبروت الدولة.
هذه هي الفكرة الخطيرة: «عنف الميليشيات المسلحة المتمردة على السلطة» لم يعد عملاً منبوذاً، بل يتخذ طريقه الى الشرعية، ربما بسبب الكفر بالأنظمة والاختناق من فكرة الدولة الحديثة التي لا ترتفع درجة حداثتها إلا في الفساد والسطو على عقول الناس وحريتهم. الناس أصبحت تكره الحداثة لأنها مقابلة للضعف والمهانة والعجز. فالأنظمة تتحكم في شعوبها عبر أجهزة حديثة وتشتري أسلحة بالمليارات لتتركها في المخازن، بينما السيد حسن نصر الله ينتصر بأسلحة بسيطة وأرواح قوية.
إنها انتفاضة عاجزين فى مواجهة أنظمة عاجزة مستسلمة أمام الخارج و«مستأسدة» على شعوبها. وهكذا بعد «انتصار» صيغة نصر الله على العدو الخارجى، ينتظر الناس من ينتصر لهم على العدو الداخلي. وهذه هي لعبة مرشد «الاخوان المسلمين» في مصر مهدي عاكف.
مهدي عاكف هو خريج «الجهاز الخاص».
قبل 50 سنة أقسم عاكف على البيعة في غرفة شبه مظلمة. القسم لم يكن على المصحف فقط، بل كان مصحوباً بمسدس محشو بالرصاص وأمام رجل ملثم كان في الغالب عبد الرحمن السندي، أول زعيم لهذا الجناح العسكري، الذي فوضه الإمام حسن البنا ليتلقى البيعة عنه.
المرشد الحالي مهدي عاكف هو ابن هذه العقلية التي ترى أن الطريق الى الحكم تمر عبر القوة المسلحة.
فهو ترك الدراسة فى كلية الطب ودرس «الألعاب» بناء على تعليمات المرشد الأول حسن البنا. ومكانه فى الجماعة كان محجوزاً منذ اليوم الأول بسبب قوته البدنية.
البنا رأى أن جسد عاكف قوي ويصلح لمهام معينة «في الجهاز الخاص»، وهو الجناح العسكري لـ«الإخوان المسلمين»، والذي عادت سيرته بقوة عندما تحدث عن عشرة آلاف متطوع للجهاد من «الإخوان» جاهزين ومدربين.
فهل يملك «الإخوان» ميليشيا مسلحة سرية يمكن أن تتحرك في لحظة معينة؟! بمعنى آخر، هل أعاد «الإخوان»، في السرّ، تأسيس الجناح العسكري الذي عرف باسم «الجهاز الخاص» وقرر مؤسس الجماعة حسن البنا تصفيته في عام 1948.
لكن الجهاز اتهم سنة 1954 بمحاولة اغتيال الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر، وكانت محاكمة سيد قطب العام 1965 آخر قضية يرتبط فيها «الإخوان» بفكرة التنظيم المسلح؟! واقتصرت التهم في القضايا في ما بعد على ما يدور في معسكرات الجماعة الصيفية من تدريبات بدنية عنيفة تقترب من الطبيعة العسكرية.
وفي آخر قضية، قبل أقل من عام، كانت التهمة «إعداد كوادر لتسفيرها إلى مناطق مشتعلة مثل الشيشان والعراق وفلسطين».
«الإخوان» تنظيم بلا سلاح، ويريد الاندماج مع المزاج المدني، كما تقول الأجيال الجديدة من قياداته التي ربما تحدثت عن الرغبة في تكوين حزب سياسي. لكن يبدو أن فكرة التسلّح لم تمت عند الاخوان، واستعاد المرشد الأحلام القديمة في لحظة فوران سياسي إبان العدوان الإسرائيلي على لبنان.
على الأرجح، لم تكن تصريحات المرشد مجرد «بروباغاندا» أو رغبات مستترة، لكنها إعلان عن «ميليشيات نائمة» قد تكون غير مسلحة، لكنها مدربة تدريباً قتالياً ينقصه السلاح، وتعدّ نفسها عبر أسلوب المعسكرات الذي كان متبعاً فقط في «الجهاز الخاص».
لا احد يستطيع الجزم بمعلومات نهائية، لكن المعطيات تشير الى وجود «ميليشيات نائمة»، إن لم تكن في الواقع، فهي فى الذهن على الأقل.


«الجهاز الخاص»
الإمام حسن البنا رأى أن جسد مهدي عاكف قوي ويصلح لمهمات معينة في «الجهاز الخاص"، وهو الجناح العسكرى لـ«الإخوان المسلمين»، الذي عادت سيرته بقوة عندما تحدث عاكف عن عشرة آلاف متطوع للجهاد من «الإخوان» جاهزين ومدربين. فهل يملك «الإخوان» ميليشيا مسلحة سرية يمكن أن تتحرك فى لحظة معينة؟! بمعنى آخر، هل أعاد «الإخوان»، في السرّ، تشكيل «الجهاز الخاص»؟