إنّها مزحة سمجة جداً تتردّد على مرّ السنين. مزحة تسمعها من المسؤولين الأوروبيين في أروقة مؤسساتهم في بروكسل، تقرأها في التحاليل المعمقة عن فاعلية الاتحاد، الذي يجمع 28 بلداً، وبالتأكيد تُزعج 350 مليون ناخب أوروبي ييدأون اليوم وعلى مدى الأيام الثلاثة المقبلة بالاقتراع لاختيار برلمان القارة العجوز.
النكتة هي أنّه كلّ شهر ينتقل جميع النواب الأوروبيين مع عديدهم وعتادهم من مقرّهم في بروكسل إلى ستراسبورغ، حيث يقضون أربعة أيام ينفذون خلالها أعمالاً اعتيادية.
لا منطق وراء هذا النزوح سوى أنّه مُدرج في الاتفاقية الأوروبية، وأن فرنسا تريد الحفاظ على التقليد، مستفيدة مادياً وسياسياً منه؛ المينى الخاص للاجتماعات في ستراسبورغ يبقى فارغاً لـ317 يوماً في السنة.
خلال السنوات الست المقبلة، ستفوق الكلفة المتراكمة لهذه الرحلات، وفقاً لدراسة أعدها البرلمان نفسه أخيراً، 1.5 مليار دولار.
إذا كانت المعايير الأوروبية التقليدية قابلة للهضم هنا حفاظاً على رضى فرنسا، التي تُعد عصباً أساسياً لوحدة أوروبا منذ أيام اتحاد الحديد والفحم عام 1952، ومن بعده المجموعة الاقتصادية عام 1957 وصولاً إلى الصيغة النهائية عام 1992، فإنّ المعيار البيئي حساس جداً. فكلّ رحلة ذهاب وإياب يجريها نواب الاتحاد تفوق مسافتها 700 كيلومتر، وتولّد ما يقارب 20 ألف طن من غاز ثاني أوكسيد الكربون.

يقر المسؤولون
أن بروكسل منفصلة كلياً عن واقع الأوروبيين
سيُفكّر الناخبون الأوروبيون في هذا المعطى أيضاً، وخصوصاً أنّ الاتحاد الذي يجمعهم يئن من فاتورة طاقوية تبلغ 400 مليار دولار، ويئنّ أيضاً في تحديد أسلوب تعاطيه مع روسيا، التي يرتهن لها في إمدادات الغاز في إطار علاقة مليئة بالتناقضات تُحرجه على أكثر من صعيد، لكن الرحلة الشهرية ليست سوى القشة التي تقصم ظهر سمعة أوروبا بوصفها جسماً سياسياً مترهلاً.
أوروبا مريضة فعلاً، أبرز مؤشر على ذلك وجود 26 مليون عاطل من العمل في تأثير مستمر لأزمة اقتصادية انفجرت في وجهها، واستمرت في الانفجار برغم أن الولايات المتّحدة تمكنت من الخروج منها. المشكلة الأكبر هي أنّ البطالة في أوساط الشباب في بلدان مثل إسبانيا واليونان تبقى عند مستويات مخيفة.
أمام هذا المرض يتراجع الإيمان بقدرة برلمان الاتحاد الأوروبي، الذي يضم 751 نائباً ينتمون إلى مجموعات سياسية – اقتصادية – اجتماعية تتخطّى الانتماءات الوطنية، على أداء دور فاعل على مستوى السياسات الأوروبية الموحدة. هناك من يصف الحالة بأنها «عجز ديموقراطي».
للنواب حجة قوية يرفعونها في وجه المنتقدين. أساسها أن لا صلاحيات فعلية لمؤسستهم، كما للمفوضية، لإحداث تغيير فعلي يُغير حياة الأوروبيين انطلاقاً من المؤسسات التي توحدهم ديموقراطياً، والتي أضحت منذ عام 1979 تقوم على الانتخابات المباشرة، بعدما كان النواب الأوروبيون يُعيّنون بتوصيات وطنية.
لكن في الوقت نفسه لا احد يستطيع الدفاع عن بيروقراطية تبدو فعلياً من العالم الثالث. يصف المعلقون السياسيون المخضرمون في الشؤون الأوروبية الاتحاد، وتحديداً عاصمته السياسية بروكسل، بأنه عبارة عن كوكب خاص لا يمت إلى الواقع بصلة.
يعكس تقرير معمق أعده برونو واترفيلد عن أحوال أوروبا نشر أخيراً في صحيفة «تلغراف» هذه الصورة.
في بروكسل اليوم أكثر من 6200 موظف عام، و1525 مساعدا خاصا لنواب الأمة الأوروبية. الراتب الخاص بكلّ مساعد (ة) لنائب أوروبي يصل إلى 131 ألف دولار أميركي؛ وهو أعلى راتب لوظيفة كهذه في العالم.

النظام الحاكم
لمصاريف النواب مليء بالفضائح والرقابة منخفضة
كلّ نائب يقبض ما يصل إلى 153 ألف دولار سنوياً عبارة عن «بدلات يومية» و«مصاريف عامة» تُنفق من دون رقابة. سنوياً يحصل على 355 ألف دولار لكي يوزعها على فريقه الخاص.
ينقل الصحافي البريطاني عن أحد كبار المسؤولين الأوروبيين، الذي يتمتع بخبرة تفوق 30 عاماً، اعترافه بأنّ «بروكسل تعيش في فقاعة منفصلة كلياً عن الواقع الحياتي اليومي لمعظم الأوروبيين».
أكثر من ذلك، تفيد مجلة «إيكونومست» بأنّ «النظام الذي يحكم مصاريف النواب الأوروبيين مليء بالفضائح: ليس هناك حاجة لتقديم الفواتير، الرقابة هي عند مستويات منخفضة، وتوظيف الأقرباء شائع».
تقول المجلة إنّ الانتخابات المرتقبة لن تؤمن صدقية جديدة للبرلمان الأوروبي، كذلك لن تُعطي الاتحاد الأوروبي شرعية ديموقراطية أوسع.
هذه الأصوات هي جزء من حملة تكتسب زخماً في أوروبا لتحديد مصير هذا الكيان الهجين، الذي رفض أخيراً دستوراً موحداً وحتّى اتفاقية حول سياسته الخارجية، تمثل مرجعاً سياسياً لأممه المختلفة.
يعود النقاش هنا إلى مربع الجدال العقيم حول الوحدة الاقتصادية والنقدية التي انطلقت مع اتفاقية ماستريخت بداية التسعينيات من دون أفق واضح، لتطوير وحدة سياسية. فبعد أكثر من 60 عاما على وضع الحجر الأساس للوحدة الأوروبية، لا يزال الإنسان الأوروبي مفقوداً؛ اليوم يخشى البريطاني من نزوح البلغاري للإفادة من الإعانات الاجتماعية، والأخطر هو ازدهار الأحزاب ذات الدعوات العنصرية في مختلف البلدان.
أحزاب متطرفة وانفصالية مثل الجبهة القومية بقيادة مارين لوبن في فرنسا، ومثل حزب الحرية الهولندي الذي يديره غييرت ويلدرز، يُرتقب أن تُحقّق حوالى ربع المقاعد في البرلمان الأوروبي. هكذا تُصبح المزحة سمجة أكثر: برلمان لتوحيد أوروبا الصوت الأقوى فيه لأحزاب عنصرية لا تؤمن بقيم أوروبا!




لا حماسة للمجلس الموحد

تُظهر استطلاعات الرأي التي يجريها البرلمان الأوروبي نفسه، أنّ الثقة به تراجعت على نحو واضح على مرّ السنين. كان معدّل انعدام الثقة بهذه المؤسسة عند 25% في منتصف التسعينيات، أما اليوم، فهو يقارب 55%. كذلك هوى معدّل الحماسة بين أبناء أوروبا لاختيار ممثليهم في مجلسهم الموحد؛ في الانتخابات الأخيرة التي نُظّمت قبل خمس سنوات كان مستوى المشاركة دون 45%، وذلك بعدما كان فوق 60% في نهاية السبعينيات. وفقاً لاستطلاع للرأي أجري في آذار الماضي، تبين أنّ وحدها السعودية، كوريا الشمالية وإيران تتفوّق على البرلمان الأوروبي ونوابه لناحية الكره الذي يكنّه البريطاني إزاء المؤسسات الأجنبية أو البلدان.