يُمثّل سكّان بريطانيا 12.5% من الكتلة البشرية الإجمالية في الاتحاد الأوروبي، ولكن القلق الذي يولّدونه لقادة هذه الوحدة وشعبها الذي يفوق تعداده 500 مليون نسمة، أكثر من ذلك بكثير. إذا كانت مشاكل الاقتصاد والمال والبطالة تُشكّل الخطر الرقم واحد على الاتحاد، فإن تطلّعات المملكة، وتحديداً محافظيها، تعدّ الخطر الرقم اثنين. فمع تزايد مصاعب الاتحاد الذي يضمّ 27 بلداً _ وعلى وجه الخصوص وحدته النقدية التي تكتفي حالياً بـ 17 عضواً _ تتصاعد الأصوات من المملكة _ الجزيرة بضرورة الانعتاق من تجبّر بروكسل (عاصمة حكم الاتحاد)، ومن بيروقراطيتها بل حتّى من ترهّلها.
بنظر المشكّكين بالوحدة الأوروبيّة، أضحى الانتماء إلى الهوية الأوروبية بهذا المعنى عبئاً كبيراً يُرتّب التزامات تنظر إليها لندن على أنّها من «العالم القديم». هو العالم نفسه الذي جرى الحديث عنه خلال إعلان الحرب على الإرهاب في عهد الرئيس جورج بوش الابن.
ولكن إذا كان حينها متعلّقاً بالنظرة إلى العالم والمصالح في أصقاعه المختلفة، وتحديداً المتخلّفة منها، هو اليوم يرتبط إلى حدود بعيدة بإرث أوروبا الاجتماعي. على سبيل المثال، تُركّز بروكسل اليوم على موضوع الوحدة المصرفية؛ وهي عبارة عن مظلّة لقوننة عمل المؤسسات المالية في الاتحاد واحتواء تدهور مؤشراتها وعدم الانزلاق أكثر في مستنقع الأزمة الاقتصادية. غير أنّ المملكة ترى في اتحاد كهذا تعدياً على سلطتها الوطنية المقدسة. كما ترى في اتفاقية التعاون المالي حول فرض الضرائب على الرساميل المتنقلة بين حدود بلدان الاتحاد سلطة غير مستحقّة لبروكسل.
العديد من المشككين البريطانيين بالوحدة الأوروبية حالياً، كانوا مشككين منذ البداية، وتحديداً لدى توقيع اتفاقية ماستريخت في عام 1992 (ودخلت حيز التنفيذ في العام اللاحق). حينها اتفق قادة أوروبا على الركائز الثلاث لنهوض الاتحاد الأوروبي وحتّى الوحدة النقدية _ «منطقة اليورو» _ كما نعهدهما اليوم.
الركيزة الأولى هي تلك التي تحوي المؤسسات الرئيسية للاتحاد الأوروبي، وعبرها تنبعث السلطة التي منحها الأعضاء لقيادة الاتحاد: المفوضية، البرلمان ومحكمة العدل الأوروبيّة. الركيزة الثانية هي تلك الخاصة بالسياسة الموحدة في الشؤون الخارجية والأمن. أمّا الركيزة الثالثة فتتعلّق بالقضاء والشؤون الوطنية. (والركيزتان الأخيرتان لا تمسّان السيادة فعلاً بل تُتخذ القرارات فيهما عبر لجان تشكلها حكومات الأعضاء).
نظر المشككون إلى تلك الاتفاقية بالريبة والاستياء، بينهم من كان في الحكومة حتّى. وضع دفع رئيسها المحافظ، جون مايجور، إلى وصفهم بأنّهم «أوغاد». ديفيد كاميرون هو محافظ أيضاً، غير أنّه لا يستطيع احتواء الغضب المتزايد من سلب بريطانيا سلطاتها السيادية كما فعل مايجور.
يتحدّث المحللون في بريطانيا عن أنّ كاميرون سيُقدّم في خطابه اليوم مقاربة تقوم على مرحلتين لإعادة التفاوض في العلاقة مع الاتحاد الأوروبي. في المدى القريب، من المتوقع أن يطرح المواضيع التي لا تتطلب البحث جدياً في الاتفاقيات الموقعة المؤسسة للاتحاد. تلك المسائل ترتبط مثلاً بحماية المملكة من أي انعكاسات سلبية لتأسيس الاتحاد المصرفي الذي يجري التخطيط له بين بلدان الوحدة. وبينها أيضاً تفضيل عدم خوض غمار التعاون المشترك في مجال عمل الشرطة والعدالة.
أما المرحلة الثانية فتتحقّق في حال قرر قادة القارة إطلاق مؤتمر حكومي شامل يبحث هيكلية الوحدة. هي خطوة من غير المتوقع حدوثها قبل عام 2015، ولكن حتى اليوم يؤكّد العديد من هؤلاء القادة عدم الحاجة إلى مؤتمر كهذا.
كاميرون سيتحدّث عن أهمية البقاء في الاتحاد الأوروبي، ولكن في الوقت نفسه عن ضرورة إعادة التفاوض حول الشروط التي تحكم عضوية بريطانيا فيه. وبحسب الخطوط العريضة التي سُرّبت من الخطاب، الذي كان يُفترض تقديمه في هولندا الأسبوع الماضي، يُشدّد رئيس الحكومة المحافظ على ضرورة تحديد «رؤية إيجابية» للاتحاد الأوروبي. ولكن في الوقت نفسه يؤكّد أن على أوروبا أن تُعالج التحديات الماثلة أمامها وضمنها «أسئلة صعبة» حول أزمة منطقة اليورو _ التي تتصدرها بلدان مثل اليونان وإسبانيا _ حول معدّل تنافسية أوروبا في اقتصاد العولمة، وصولاً إلى نقص المحاسبة الديموقراطية في آليات الحوكمة. ووفقاً لمسوّدة عن الخطاب، كان كاميرون سيقول: «إذا لم نُعالج تلك التحديات فإنّ الخطر يتمثّل في فشل أوروبا وفي توجّه الشعب البريطاني نحو الانسحاب» من الاتحاد الأوروبي.
وبالفعل، فإنّ مسألة الاستفتاء الشعبي على بقاء بريطانيا أو خروجها من الاتحاد تحوّل إلى مادّة سياسية حقيقية، الى درجة أنّ الحديث عن خروج اليونان من الاتحاد بسبب أزمتها (أو ما سُمّي «Grexit») تحوّل إلى حديث عن خروج بريطانيا بسبب تكبّرها؛ ويُمكن أن نسمّيه «Brexit»!