«أن تكون مستشاراً اقتصادياً لهنري كيسنجر هو تماماً كأن تكون مستشاراً عسكرياً للبابا»، أي من دون أي فائدة فعلية نظراً لحنكة وزير الخارجية الأميركي الاسبق في مختلف الشؤون العامة.
هكذا يحاول فريد بيرغستين إحاطة نفسه بهالة من التواضع بعد تقديم فخم. هو في نهاية المطاف أحد أبرز الفاعلين على مستوى السياسة الاقتصادية والنقدية دولياً؛ نصح كيسنجر وأسس معهد بيترسن للاقتصاد الدولي عام 1981 وأداره فترة تفوق ثلاثين عاماً.
غير أنّ تواضع بيرغستين هو تحديداً لإثبات تفوّق البلد الذي يُمثّله في العولمة. منذ فترة طويلة يناصر هذا الاقتصادي المحنّك قضية محورية للولايات المتّحدة. يقول إنّ التلاعب بالعملات وأسعار الصرف هو أكبر تحدّ يواجه النظام الاقتصادي العالمي، ويكلف الولايات المتّحدة وباقي البلدان المتأذية منه ملايين الوظائف، لذا «يجدر بنا إنشاء ائتلاف من الراغبين لشن حرب على حرب العملات».
خلال حوار استضافه المركز الدولي للحوكمة والابتكار في كندا أخيراً، حول كيفية إصلاح النظام النقدي العالمي، واحتواء تداعيات الحروب التي تجري في إطاره، انطلق فريد بيرغستان من القضية الأكثر حماوة لأميركا حالياً: الخلل الذي يسود آليات الحكم والسياسة الأميركية، ويُترجم في عدم إقرار الموازنة وشلل الحكومة؛ يستخدم هذا المثال ليؤكّد أنه رغم كل الخلافات في الكونغرس، يتفق السياسيون في واشنطن على ضرورة اعتماد إجراءات سريعة لمواجهة حرب العملات التي تشنها البلدان الصاعدة.
يُشير إلى أنّ 67 سيناتوراً فرضوا على الرئيس باراك أوباما ضرورة التحرك على هذا المستوى، في مقابل تمرير اتفاقية التجارة الحرة مع أوروبا، التي تُعدّ البطاقة الرابحة لركني العولمة العجوزين مستقبلاً. «تأتي هذه الرسالة التي رفعها الشيوخ بعد رسالة مشابهة مماثلة رفعها 230 نائباً».
للتوضيح، حرب العملات هي مجموعة ممارسات عدائية في النظام النقدي العالمي، حيث يعمد بلد ما إلى التدخل في سوق القطع (سوق الصرف) بائعاً عملته بهدف خفض سعرها وجعل سلعه ـــ التي تُصبح بطبيعة الحال أرخص ـــ أكثر تنافسية عالمياً؛ هكذا يزيد صادراته ويراكم العملات الأجنبية وبالتالي النفوذ.
الصين هي أكبر المتهمين بهذا التلاعب، حيث تُفيد التقديرات بأنّ اليوان مثلاً مقوّم دون سعره الحقيقي بنسبة تفوق 30%.
يستند فريد بيرغستين إلى الأبحاث العلمية التي أجراها «واعتمد عليها الكونغرس في الضغط على الإدارة (أي الرئاسة)». يقول إنّ 20 بلدا تتلاعب بعملاتها عبر تدخّل هائل في سوق القطع لشراء الدولار واليورو بقيمة تريليون دولار سنوياً. «تقود الصين مجموعة المتلاعبين هذه التي تُعدّ مسؤولة عن ثلث الاقتصاد العالمي».
وتتمثّل التأثيرات الاقتصادية في زيادة فوائض الحسابات الجارية للبلدان المتلاعبة بواقع نصف تريليون دولار سنوياً، ويقابل هذا الرقم عجز في البلدان المتأذية.
«الخاسر الأكبر في هذه اللعبة هو الولايات المتّحدة، التي فقدت بين مليون وخمسة ملايين وظيفة من جراء تلاعب البلدان الصاعدة». أما الخاسر الثاني، فهو الاتحاد الأوروبي «وفعلياً، كان التلاعب بالعملات أحد أسباب الأزمة التي عصفت ببلدان منطقة اليورو أخيراً».
يرتكز بحث برغستين على فكرة اختلال التوازنات الدولية ـــ أي تراكم الفوائض لدى أقطاب محددة مقابل عجوزات كبيرة في مراكز أخرى. يقول إن تلك الاختلالات وصلت إلى الأوج في منتصف العقد الماضي، حيث عمدت البلدان التي تحقق فوائض إلى الاستثمار في الولايات المتّحدة، مكبّلة السياسة النقدية للاحتياطي الفدرالي.
«حسناً لقد تصرفت المصارف على نحو غبي في إدارة الرهون العقارية، لكن السبب الرئيسي للأزمة هو التلاعب بالعملات».
وليست البلدان الناشئة بالضرورة أعظم المتدخلين في سوق القطع. «في عام 2012 كانت سويسرا أكبر المتلاعبين بعملتها، بعدما أطلقت اليابان الموجة. وحتى فرنسا تريد فرصة للتلاعب باليورو»، لتحفيز التنافسية. كذلك فإنّ التلاعب ليس ممارسة اقتصادية حديثة، ويعود الداعية الاقتصادي إلى ثلاثينيات القرن الماضي، ليجزم بأنّ الكساد الكبير كان أيضاً نتيجة التلاعب والاختلالات. بعد هذه الأزمة دخل العالم حربه الثانية، وبعدها صاغ اتفاقية «بريتون وودز» لإدارة المعادلات النقدية والمالية. «صحيح أن هذا الاتفاق كان واضحاً، إلا أنه افتقد آليات التنفيذ المناسبة. وفشِل النظام النقدي الدولي في كبح التلاعب، ما أدّى ولا يزال إلى نفاد المتلاعبين من دون عقاب».
من بين الأسباب التي أدت ولا تزال إلى فشل هذا النظام الأسباب السياسية بامتياز. «أي منظومة اقتصادية قائمة على قواعد محددة تحتاج إلى قائد نهائي وحاسم». بالعودة إلى الربع الأول من القرن العشرين، «لم يعد باستطاعة بريطانيا أداء دور القائد، فيما الولايات المتحدة، التي كانت القوة الصاعدة، لم تكن مستعدة بعد».
اليوم يتكرر السيناريو: الولايات المتحدة تشهد تراجعاً، فيما القوى الصاعدة غير مستعدة بعد، ما يخلق فراغاً سلطوياً كونياً. «صحيح أنها مسألة وقت وتصبح الصين أكبر اقتصاد في العالم، غير أنه لا يُمكنها أداء دور القائد بعد لأنها ليست اقتصاداً حديثاً».
هكذا تعلق الولايات المتحدة بين حدّي مقصّ: من جهة يزداد اعتمادها على العولمة (فعلياً بواقع أربعة أضعاف ما كان عليه قبل 50 عاماً)، ومن جهة اخرى، تتقلّص حصّتها من هذا الاقتصاد.
يؤكّد فريد بيرغستين أن مجلس الشيوخ يفهم هذه القضية؛ يوضح أنّ تردّد إدارة باراك أوباما في المبادرة إلى المواجهة يعود إلى «تخوفها من ردود فعل البلدان التي تستهدفها... فالعديد من شركاتنا أضحى رهينة لدى الصين».
حسناً هناك حاجة إلى شن حرب على الحرب، وإلى إبقاء سيطرة أميركا على العالم حتى يظهر بديل واضح، لكن ماذا تعني كل هذه الدعوات عملياً؟
«صندوق النقد الدولي هو المؤهل لكي يفرض الاستقرار، ويعاقب المتلاعبين بعملاتهم» يجيب بيرغستين. «يجب اعتماد نظام المعاقبة القائم على عكس مفعول التلاعب، أي أن تتدخل الولايات المتحدة في السوق وتضخ الدولارات التي يشتريها البلد المتلاعب». في رأيه، إذا عمدت واشنطن إلى هذا الإجراء لثلاث أو أربع مرات «فستكبح التلاعب وتؤسس نظاماً جديداً يكون صندوق النقد الدولي حكماً».
«لقد فشل آباء بريتون وودز في خلق آلية تفرض توازناً. والآن هو وقت التصرّف، وستكون الولايات المتّحدة وأوروبا أكبر المستفيدين، وعلى المدى الطويل سيكون النظام أكثر استقراراً وقوّة» يجزم برغستين.
لكن تبدو القضية التي يناصرها بشغف فريد بيرغستين ـــ أي الحرب على حرب العملات ـــ كمحاولة ملاكم هرم في معركة أخيرة لاستعادة الحزام الذهبي، إذ رغم كل المعادلات العلمية التي يعتمد عليها ينسى معادلة أساسية: ليس هناك ثابت، كل شيء في تغير مستمر، ومنه النفوذ الدولي.
عملياً، تبرز في وجه نظرية بيرغستين وجهات نظر مختلفة، منها أن عدداً لا بأس به من البلدان الناشئة يُصنّف اليوم على أنه متلاعب، فيما فعلياً يسعى إلى مراكمة العملات الأجنبية لحماية نفسه من أزمات مشابهة لتلك التي ضربت نمور آسيا عام 1997 وبعدها روسيا، وهناك بلدان أخرى تتعظ أيضاً من هذه التجربة، وهي أساساً لا تثق بالولايات المتحدة.
كذلك فإنّ ملايين الوظائف التي تخسرها أميركا ـــ وينتحب عليها التيار المصر على أن القيادة حق مقدّس للولايات المتّحدة ـــ لن تعود بالضرورة إلى أميركا، بمجرّد أن يُكبح المتلاعبون بالعملات.