في ٢٨ و٢٩ من تشرين الثاني الحالي تعقد قمة الشراكة الشرقية في فيلنيوس، عاصمة أستونيا على بحر البلطيق، بمشاركة كل من أوكرانيا وبيلاروسيا (روسيا البيضاء) وأرمينيا وآذربيجان وجورجيا ومولدافيا، في وقت تُصادف فيه ذكرى مرور عشر سنوات على قمة ٢٠٠٤ التي تقرر فيها قبول عضوية عشر دول أوروبية شرقية في الاتحاد الأوروبي. في الظاهر يعدّ مشروع الشراكة الشرقية بمثابة منتدى يهدف إلى تحسين العلاقات السياسية والتجارية بين تلك الدول والاتحاد. لكن المشككين يرون فيه وسيلة أخرى من وسائل الاستقطاب على طريقة العلاقة الخاصة بعيداً عن الروابط الأسرية والعقود الملزمة.
فالمنطقة الممتدة من بيلاروسيا إلى جورجيا تتمتع بموقع استراتيجي لا تستطيع أوروبا تركه للتحالفات المتشكلة على الجانب الآسيوي من العالم، لا سيما منظمة شنغهاي التي تجمع روسيا والصين. فذلك يهدد بنشوء اتحاد أكبر من السوفياتي وأشد تأثيراً على الصعد الجيوسياسية، خاصة بعد خطوات التصاهر بين القوة العسكرية الروسية مع السطوة الاقتصادية الصينية.
بيلاروسيا وأوكرانيا وآذربيجان وأرمينيا ومولدافيا وجورجيا جميعها لا تلبي الشروط الأساسية للمبادئ التي يقول الاتحاد الأوروبي إنه يشترطها من أجل الشراكة.
هذه الدول تتعرض لنقد شديد من قبل منظمات حقوق الإنسان الغربية، وعلى رأسها «هيومان رايتس ووتش» ومنظمة العفو الدولية ومجلس حقوق الإنسان والجمعية العامة للأمم المتحدة.
في المقلب الآخر، يبرر المحبذون للشراكة بأنها في النهاية ستخدم قيام مؤسسات ديموقراطية في هذه الدول التي يتعين عليها أن تلتزم ضمن جدول زمني، يطول أو يقصر، بمعايير محددة تجعلها تقترب من المعايير المُتّبعة في دول الاتحاد الأوروبي الثماني والعشرين.
وهناك مغريات للشعوب في هذه الدول الست التي تضم ٧٦ مليون نسمة. أهمها التمهيد بالتدريج لإنشاء منطقة تجارة حرة تنعش الصادرات إلى دول الاتحاد الأوروبي، كما تفتح الباب لدخول سكان هذه الدول إلى أوروبا من دون تأشيرة.
لكن هذا سيبقى رهن مرحلة تأسيس الاستقرار والشراكة مع الاتحاد الأوروبي على الطريقة المتبعة مع دول البلقان التي خرجت من الاتحاد اليوغوسلافي، أو تلك التي غادرت حلف وارسو، مثل بلغاريا ورومانيا وبولندا وجمهورية التشيك وغيرها.
هذه المرحلة ستخضع للتطورات والضرورات؛ آذربيجان باشرت قبل وقت طويل التمهيد لمثل هذه الشراكة من خلال الالتحاق شبه التام بسياسات الاتحاد الأوروبي الخارجية وبتحالفات عسكرية عابرة للأقاليم، وكذلك فعلت جورجيا الوطيدة الصلة بحلف شمالي الأطلسي. لكنّ الدولتين بقيتا بعيدتين عن تلبية معايير أساسية تتعلق بالعدالة والديموقراطية وحقوق الإنسان.
وكان الهدف بعد دخول روسيا المباشر على الخط في جورجيا عبر أبخازيا وأوسيتيا الجنوبية في حرب آب ٢٠٠٨، جذب أوكرانيا التي تضم أكثر من ٤٥ مليون نسمة وبيلا روسيا وأرمينيا بالطريقة نفسها التي تم فيها جذب دول من البلقان.
هناك تقارير سنوية ستُرفع حول تلبية الشروط. وهذا في حدّ ذاته سيشكل ضغطاً سياسياً ونفسياً على الناخب في الدول المستهدفة في مشروع الشراكة، كما كانت الحال بالنسبة إلى الناخب التركي على مدى عدة عقود.
ويُنتَظر أن توقّع جورجيا في القمة، بالأحرف الأولى، على اتفاقيات مع الاتحاد الأوروبي، علماً بأن تبليسي تعرضت لانتقاد شديد من قبل تقارير المنظمات الحقوقية لعدم استقلال جهازها القضائي وممارسة العدالة الانتقائية، وطولبت بزيادة الشفافية في مؤسساتها التي تشكو من فساد مستشر.
أما أرمينيا، الأكثر ارتباطاً بروسيا الاتحادية، فلا يتوقع منها أن توقّع على أي اتفاقات خلال القمة، عقب إعلان رئيسها سيرج ساركيسيان، في أيلول الماضي، التوقيع على الوحدة الجمركية مع «يوراسيا»، الكتلة الاقتصادية التي تقودها روسيا. وربما وقّعت أرمينيا بياناً يدعو إلى التعاون مع الاتحاد الأوروبي في عدة مجالات، وليس بنحو شامل.
بيلاروسيا تعرضت لعقوبات أوروبية منذ عقد تقريباً بسبب سجّلها في مجال الحقوق السياسية وصلت إلى حد منع السفر وتجميد أصول مالية لـ٢٣٢ مسؤولاً، و٢٥ مؤسسة توصف بأنها على صلة بالقمع الممارس.
لكن الاتحاد الأوروبي خفّف أخيراً العقوبات بحق وزير الخارجية لكي يستطيع مقابلة المسؤولين من الاتحاد. وأقرّ الشهر الماضي تمديد العقوبات على البقية حتى تشرين الأول ٢٠١٤. وطالبت منظمات حقوق الإنسان الغربية إبقاء العقوبات حتى يتم الإفراج عن السجناء السياسيين.
والدول الأوروبية الغربية ليست متفقة جميعها على ضم الدول الست إليها قريباً؛ هناك فرنسا التي تعارض دخول أوكرانيا بعدد سكانها الكبير إلى الاتحاد ولو بعد حين، في المقابل ترى بولندا عكس ذلك، بل تحبّذ التقارب حتى مع بيلاروسيا أيضاً، باعتبار أن هذه الشعوب تتشابه مع أوضاعها السابقة، في حاجة إلى رعاية.
لكن الكل متفق على أن الحسابات في النهاية ستُقام على أسس اقتصادية وسياسية وعسكرية أكثر منها على مبادئ ومثل وأخلاق.
جورجيا مهمة للغاية من الناحية العسكرية لحلف الأطلسي. وآذربيجان بالأهمية نفسها من حيث مخزونها من الطاقة أو من موقعها المتاخم لإيران والعلاقات التي تربطها بإسرائيل وبتركيا في هذا المجال.
كذلك فإن أوكرانيا المتاخمة لألمانيا والمطلة على البحر الأسود تشكل منطقة عزل لروسيا، ولن يكف التحالف الغربي عن محاولات إلحاقها، رغم الخلافات.
إضافة إلى ذلك، هناك علاقات عرقية وإثنية تتحكم في الوضع العام وعلاقته بالاتحاد الأوروبي.
وفي التجربة البلقانية، استطاعت أوروبا الغربية اللعب على كل التناقضات والاستفادة منها، فجمعت الضحية والجلاد؛ الألباني والبوسني والصربي والكرواتي والسلوفيني بعد تفكيك الاتحاد.
لكن في منطقتي البحر الأسود وبحر قزوين تبدو الأمور أكثر تعقيداً لكونها تمسّ أوتاراً حساسة لدى الروس وغير الروس. لذلك قد تمهد قمة فيلنيوس لتقديم الكثير من المغريات للدول الست على طريق تغيير قد يمتد لسنوات أو عقود.
تغيير يخطط لمسألتين رئيستين، مترابطتين: محاصرة روسيا وأصدقائها، وإبعادهما عن الشرق الأوسط. لكن تحقيقهما يتوقف كثيراً على النجاح في سوريا. وهذا لا يلوح في الأفق.