باريس ــ أخذ الرئيس نيكولا ساركوزي بالقول الفرنسي «أن تأتي متأخّراً أفضل من أن لا تأتي»، وصدر عن قصر الإليزيه بيان يؤكد أنه «أُخذت الاحتياطات اللازمة لتجميد إداري لحركة الأموال التونسية المشبوهة طبقاً للقوانين المرعية»، مضيفاً إنّ «باريس تضع نفسها بتصرف السلطات الدستورية لتلبية أيّ طلب يتعلق بالممتلكات التونسية في فرنسا». ويأتي هذا الموقف، الذي أعلن أن «فرنسا تقف إلى جانب الشعب التونسي في هذه المرحلة الحاسمة» بعد فترة تردد طويلة انتقدتها كل الأحزاب الفرنسية، وجاء أيضاً بعد مسيرات عمّت جميع المدن الفرنسية «فخراً بثورة الياسمين». ولم تخف حدة الانتقادات التي ارتفعت، بعدما عرضت وزيرة الخارجية الفرنسية ميشال أليو ـــــ ماري على نظام بن علي يوم الثلاثاء الماضي «خبرة الشرطة الفرنسية» في قمع الاضطرابات، ما سبّب عدداً من التظاهرات أمام الكي دورسيه. انتقادات طاولت الحكومة الفرنسية في الصحافة، حيث وصفت «ليبراسيون» صمت ساركوزي بأنه «عار»، كما في الأوساط السياسية، إذ طالب زعيم الحزب اليساري المعادي للرأسمالية أوليفيه بزانسونو أليو ـــــ ماري بالاعتذار من الشعب التونسي أو الاستقالة. وبالطبع حالما تأكّد «هروب الديكتاتور» حتى انقلب الموقف الرسمي، بدءاً من رفض استقبال بن علي عندما انطلقت طائرته بسبب «الإشكالات القضائية والأمنية»، وخصوصاً في ظل وجود جالية تونسية كبيرة (٦٠٠ ألف). وتسارعت الأمور لدرجة بات فيها وجود «أفراد من عائلة بن علي» غير مرحّب به على الأرض الفرنسية»، حسب قول وزير الخزانة فرانسوا باروان.
بالطبع رافقت «إعادة تموضع الدبلوماسية الفرنسية» تظاهرات فرحة في الشوارع الفرنسية يوم السبت: التجمع الأول في باريس كان في ساحة ريبوبليك (الجمهورية)، ساحة المناسبات الكبرى. تحت تمثال يحمل شعار الثورة الفرنسية «حرية عدالة أخوة»، رُفع العلم التونسي وخرج النشيد الوطني من مكبّرات الصوت «حماة الحمى… نموت نموت ويحيا الوطن… إذا الشعب أراد الحياة فلا بد أن يستجيب القدر». تصرخ مادين الفرنسية، مع أمها التونسية، تكملة البيت الذي أضيف إلى النشيد «لا بد لليل أن ينجلي ولا بد للقيد أن ينكسر».
حمزة يقف مع والده على طرف الساحة والدموع تنهمر من مقلتيه، الوالد يبدو مشدوهاً كأنه خرج من كابوس ويتمتم بكلمات غير مفهومة. ليلى جزائرية ترافق صديقتها دنيا التونسية وتبكي معها. الاثنتان تحملان على ساركوزي الذي «لم يصدق أننا سوف ننتصر». يتدخل شكري في الحديث «لولا دعم الأوساط الفرنسية لنظام بن علي البوليسي لكان قد سقط منذ سنين». بلغ عدد الذن توافدوا إلى تجمّع باريس حسب بعض المنظمات ٨ آلاف، وكذلك فإن مشاركة أبناء الجاليات العربية في فرنسا، «الفخورين بالثورة»، كانت ظاهرة في كبرى المدن الفرنسية في الجنوب في مرسيليا وبوردو وتولود وليون، إضافةً إلى عدد من السياسيين من اليسار والخضر، وفي بعض الأحيان من اليمين.
رابطة حقوق الإنسان الفرنسية نددت بـ«الصمت المطبق» الذي كان سائداً لدى السلطات الفرنسية، وأشارت في بيان لها إلى أن هذا الموقف، في إشارة إلى التصريحات الرسمية التي سبقت «ساعة الهروب»، «لا يعبّر عن استنكار المجتمع الفرنسي لنظام كان يطلق النار على أبنائه». ويضيف البيان «الآن سقط القناع وبان الوجه الحقيقي للديكتاتورية».
وكان الناطق باسم الحزب الاشتراكي، توريا أميرشاهي، قد وصف موقف الحكومة الفرنسية السابق بأنه «معيب»، وطالب أيضاً باستقالة أليو ـــــ ماري. النائب اليميني ديديه جوليا من حزب ساركوزي «تجمّع الأكثرية الشعبية» يطالب بلجنة تحقيق برلمانية «لمعرفة ما حصل… ولاستخلاص العبر من سياسة بلادنا وعلاقاته السابقة مع تونس».
إلا أنّ السجال بشأن «العلاقات التونسية الفرنسية» لن يقف عند الفاصل السياسي، إذ يتوقّع عدد من المراقبين أن يطاول «السجل القضائي»، وبدأت أسماء «العائلة»، وهو التعبير الذي يشير إلى «المستفيدين من نظام بن علي والمقربين منه»، بالخروج إلى العلن، وخصوصاً بعد إعلان مقتل عماد الطرابلسي في المستشفى العسكري، نتيجة طعنة سكين من أحد موظفيه. وكان عماد معروفاً في باريس باسم «مدلّع ليلى»، ودفعت به «ليُنتخب» رئيساً لبلدية «لاغوليت» في شمال العاصمة، رغم أنّه «مطلوب من جانب القضاء الفرنسي» بموجب مذكّرة صادرة في أيار ٢٠٠٧، بعدما سرق بمشاركة أخيه معز طرابلسي «يخت مدير مصرف لازار»، برونو روجيه المقرّب من جاك شيراك وساركوزي.
ومن المنتظر أن يعاد فتح ملف منصف بن علي، الشقيق الأكبر للديكتاتور، الذي توفّي عام ١٩٩٦ وهو مطلوب للقضاء الفرنسي بتهمة تهريب المخدرات والمتاجرة بالبشر وفتح منازل هوى، وجعل أحد أحياء باريس (بيل فيل) «مركزاً لأعماله». وقد رفضت أيضاً السلطات التونسية تسليمه للقضاء الفرنسي وبلغت المهزلة حد «إنكار صلة القربى» بين الرئيس وشقيقه. وقد سبب هذا الملف توتراً للعلاقات بين فرنسا وتونس إلى أن «وُجد منصف مقتولاً في شقته عام ١٩٩٦ في ظروف غامضة».
وبالطبع عاد سير الأعمال بين باريس وتونس كأنّ شيئاً لم يكن، وعادت برمجة زيارات الرؤساء. ويذكر اليوم تونسيو فرنسا أنّ ساركوزي ذكر في حديث لصحيفة «الشروق» أنه «يكنّ الاحترام والدعم لبن علي». بن علي ذهب والتصريحات بقيت.