باريس| أقر الرئيس الفرنسي، نيكولا ساركوزي، في إطار تبرير التردّد الذي ساد الدبلوماسية الفرنسية مع انطلاقة الثورة التونسية، بأن فرنسا «قللت من شأن التطورات التي أدت إلى رحيل زين العابدين بن علي». لكنّه أكد أن بلاده بوصفها مستعمراً سابقاً لم يكن بوسعها تجاهل وزن التاريخ، ولا التدخل بإطلاق أحكام على شأن داخلي. وبعد تشديده على أن فرنسا ساعدت المعارضين السياسيين اللاجئين، أشار ساركوزي إلى إطلاق عملية تدقيق منهجية في الثروات التونسية، وسارع إلى تعيين السفير بوريس بوايون المستعرب والمقرب جداً من الإليزيه بعد نقله من بغداد.
ومع ذلك ظهر هذا الموقف الفرنسي متأخراً خصوصاً بعد تصريحات وزيرة خارجيته ميشال إليو ـــــ ماري بشأن استعداد باريس لتقديم خبرة قوات الشرطة الفرنسية للسيطرة على حشود المتظاهرين.
إلا أنه قبل أن يستفيق المراقبون من صدمة «تبدل الخطاب الفرنسي»، كانت شرارة الثورة تنطلق في بلاد النيل، ومع ذلك ظلت باريس في موقع متراجع سمّاه البعض «موقفاً انتظارياً»، لاحظ الجميع أنه كان دائماً مضبوطاً على الإيقاع مع المواقف الأميركية. فبيانات الإليزيه بدت كأنها تستنير بأضواء تصريحات باراك أوباما.
ورأى البعض أن «مرارة التجربة التونسية» فعلت فعلها في إخفاق الدبلوماسية الفرنسية مرة ثانية في استشعار الزلزال المصري، رغم عدم وجود أي ثقل تاريخي استعماري، بل علاقات شخصية كثيفة شخصنت دبلوماسية باريس مع بلاد الفراعنة، وكان أقل وصف لمبارك «الحكيم أو العاقل».
في البداية، كانت الخطابات تأخذ منحىً أخلاقياً وإنسانياً، ثم تحولت النداءات الدبلوماسية إلى خطابات تباكي ودعوات عارضة إلى الحوار، مع شعب نزل إلى الساحات وفي لاشعوره مثال الثورة الفرنسية.
ولإدراك سبب هذا التردّد الذي يرتقي إلى مستوى الإخفاق، يجب العودة إلى «رعب باريس من عهد (جاك) شيراك»، بالعودة إلى ملف الشرق الأوسط عبر البوابة المصرية. كرّت سُبحة القمم بين العاصمتين، ويكفي أن نلاحظ أن مبارك زار العام الماضي باريس 4 مرات، في حين أن ساركوزي لم يطأ أرض النيل إلا في مناسبة العدوان على غزة. وبالطبع كبّل ساركوزي أدوات الدبلوماسية الفرنسية، ومنها السفير جان فيليكس باغانو المشهور بمعرفته العميقة بالعالم العربي، وذلك بتقديم الرئاسة المزدوجة للاتحاد من أجل المتوسط على طبق من فضة. ولم يُخف على المراقبين أن اتفاقية السلام مع إسرائيل كانت وحدها وراء فرض نصف رئاسة دائمة لمصر في تقليد مضحك لنمط الرئاسات الأزلية.
وفي الواقع، فإن مصر ليست أكثر من وجهة سياحية بالنسبة إلى الاقتصاد الفرنسي. فعدد الشركات الضخمة العاملة على الأرض المصرية لا يتجاوز خمس عشرة، بينما العقود العسكرية شبه معدومة منذ توقيع اتفاقية كامب دايفيد وربط المساعدات الأميركية بشراء معدات أميركية.
إلا أنّه لم يغب عن الفرنسيين أن مصر لاعب رئيسي في الملف الفلسطيني، ليس فقط بسبب وجودها على مدخل غزة، حيث تسهم إسهاماً أساسياً في الحصار، بل لكونها الرافعة السياسية للقطب السعودي الذي يمثّل مع مصر ثنائي الاعتدال العربي.
إلا أن بعض السياسيين المغمورين استبقوا مواقف دوائر القرار، ومنهم سكرتيرة الدولة لشؤون الشباب، جانيت بوغراب، وهي من أصل جزائري بربري، التي خرجت بتصريح تدعو فيه إلى «ضرورة خروج مبارك من السلطة»، ما أدى إلى استدعائها إلى رئاسة الوزارة.
أما وزيرة الخارجية الفرنسية، فقد رأت أن الوضع في مصر يختلف عنه في تونس، وفسّرت بعد جهد الماء بالماء، فقالت إن «الأوضاع تختلف في كل دولة من الدول»، مشيرةً إلى أن هناك في مصر تطلعاً مزدوجاً من الرفاهية ومن الحرية في مجالات مختلفة، من دون أن تشير إلى «ديكتاتورية السلطة القائمة منذ 30 عاماً». لكنها شدّدت على أن السياسة الفرنسية تدعو إلى مزيد من الديموقراطية في جميع الدول، مضيفةً أنّه يتعين السماح بالتظاهر دون أن تكون هناك أعمال عنف، وبالطبع لم تذكر أي «عرض خدمات كما فعلت مع تونس».
وفي ظل تطور الموقف على الساحة المصرية والتونسية، أقرّ رئيس الوزراء الفرنسي فرانسوا فييون في رسالة إلى رئيس الكتلة البرلمانية الاشتراكية جان مارك إيرور بمنح تصاريح بتصدير قنابل غاز مسيّل للدموع تستعمل لتفريق المتظاهرين في ١٢ كانون الثاني، وذلك قبل يومين من فرار الديكتاتور زين العابدين بن علي، وهو اليوم الذي اختارته إليو ـــــ ماري للتصريح الذي استفز يومها التونسيين والفرنسيين وعدداً من السياسيين الذين لم يتردّدوا بالمطالبة باستقالتها.
وجاء في رسالة فييون أنه بُدئ بدراسة وثائق التصدير في ١٤ كانون الثاني، وهو ما أدى إلى وقف شحنة كانت في طريقها إلى تونس. إلا أن هذا التوضيح لم يوقف الاعتراضات والانتقادات على سياسة دعم النظام التونسي البائد، فيما كان المتظاهرون يقتلون في الشوارع على يد رجال الأمن.
وبالطبع لم تهدأ العاصفة بوجه إليو ـــــ ماري بعدما اعترفت بأنها قضت عطلة نهاية العام في تونس «عندما كانت تجري الاحتجاجات». وقالت إن ما فعلته هو مثل ما يفعله «مليون فرنسي كل عام»، لا بل إن العاصفة ستزداد قوة بعدما كشفت صحيفة «لوكنار أنشينيه» أن الوزيرة كانت قد استعانت بخدمات رجل الأعمال المتورط مع عائلة بن علي، عزيز ميلاد، والمقرب جداً من بلحسن طرابلسي، المطلوب من القضاء التونسي بتهم عديدة منذ سقوط بن علي.
ولم ينف مكتب إليو ـــــ ماري أنها قبلت أن تستقل وزوجها الوزير أيضاً في الحكومة، باتريك أوليه، طائرة تابعة لشركة «نوفيل إير» يملكها ميلاد الذي وصفه مكتب الوزيرة بأنه «صديق قديم»، مع التشديد على أن رابط العلاقة بين عزيز ميلاد وآل طرابلسي ليس قوياً.
وبحسب أكثر من مصدر، فإن الوزيرة وزوجها، المسؤول عن العلاقات مع البرلمان، وعدداً من أفراد عائلتهم، وصلوا إلى مطار تونس بطائرة خطوط جوية تجارية ونقلتهم طائرة خاصة إلى طبرقة. ونفى المكتب أن يكون ميلاد مقرباً من عائلة طرابلسي. ودافع عن ميلاد وقال إن طرابلسي «وضع يده على ٢٠ في المئة من الشركة وترأس مجلس إدارتها». رغم هذا، فإن عزيز ميلاد موجود على لائحة سويسرا للأشخاص الذين جمدت أموالهم. ويذكر بعض الصحافيين أن ميلاد كان قد «نشر دعوة مفتوحة لبن علي كي ترشح لدورة الرئاسة المقبلة». وذكر صديق مقرب من الوزير أوليه لـ«الأخبار» أن هذا الأخير أكد له «أنهم دفعوا لميلاد كامل مصاريف الفندق»، وأنه «يمكن إبراز الفواتير»، وكانت إليو ـــــ ماري قد أقرّت بأنها توجهت إلى تونس في أواسط شهر كانون الأول بعد انطلاق الثورة التونسية.



سياحة بدل السلام


يرى بعض المراقبين أن عودة «ملف سياحة وزيرة الخارجية ميشيل إليو ـــــ ماري في تونس إلى الواجهة الإعلامية بعدما اعتقدت أن الصحافة تناستها، قد يقود إلى تأجيج المطالبات باستقالتها، وخصوصاً بعدما تعثرت خطواتها في عدد من الملفات، أبرزها الملف الفلسطيني حين وقعت بـ«فخ نصبته لها إذاعة اسرائيل» التي نسبت إليها تصريحات عن احتجاز الجندي الأسير لدى حركة المقاومة، جلعاد شاليط، رغم أنها صدرت عن والدي الجندي. ووصفت عمل حركة «حماس» بأنه «جريمة حرب»، ما دفع الفلسطينيين إلى الاحتجاج بقوة لدى زيارتاها غزة، حيث رشقوا سيارتها بالحجارة والأحذية والبيض، وحملوا لافتات تقول: «هناك جلعاد شاليط، ولكن هناك أيضاً 7000 أسير فلسطيني في السجون الإسرائيلية». وقد استطاعت حينها إليو ـــــ ماري تجنب الإصابة بالمقذوفات، إلا أن حذاءً أصاب فاليري هوفنبرغ ممثلة فرنسا لعملية السلام في الشرق الأوسط وعضو الوفد.