رحل أسامة بن لادن، لكن كيفيّة مقتله والوصول إليه يبقيان لغزاً محيّراً ينتظر إجابات واضحة من الإدارة الأميركية واستخباراتها، بعد الرواية المُثيرة للشبهات التي تبدّلت بين ليلة وضحاها. وريثما تتضح الصورة أكثر، انبرت الصحف الأميركية والغربية على حلّ اللغز، ملتقطةً إشارات من التصاريح الأميركية التي أعقبت الاغتيال، وما نشرته برقيات «ويكيليكس» بشأن التحقيقات مع معتقلين قياديين لتنظيم «القاعدة» في غوانتنامو للوصول الى اسمين: عبد القدير خان والشيخ أبو أحمد الكويتي، يعتقد أنهما أو أحدهما كان الرسول الذي تعقّبته سي آي إيه للوصول الى زعيم «القاعدة».لكن في كل رواية حيكت، ظلّت فيها حلقة مفقودة فجرت مجموعة من السجالات والتساؤلات عن دور الرسول والتشكيك به وهويته؛ عن مساكني الزعيم وهويتهم وجثث الذين قتلوا، ومصير الذين اعتقلوا؛ عن مخاطر العملية وكيفية تنفيذها؟
وأول ما يثير الشكوك، التصريحات المتناقضة التي أعطاها المسؤولون عن حيثيات العملية. في البداية، قيل إن بن لادن قاوم واحتمى بامرأة جعل منها درعاً بشريةً، ليُروى بعدها أنه لم يكن مسلّحاً ولم يقاوم ولم يحتمِ بامرأة يعتقد أنها زوجته. كما كشفت «نيويورك تايمز» أنّ الإدارة الأميركية لم تكن حتى متأكدة مئة في المئة بأنّ بن لادن موجود داخل المجمع.
إضافة الى ذلك، فإن المنزل الذي سكنه بن لادن والأفراد الذين عاشوا معه يبقى محيّراً. جالت «نيويورك تايمز» على جيرانه لتستقي الحكاية.
فكانت الأجوبة أن رجلين هما إرشاد خان وشقيقه أو ابن عمه طارق خان وامرأتيهما وسبعة أطفال. أرشاد لديه ثلاثة أطفال وطارق أربعة. لكن السلطات الباكستانية قالت إنها اعتقلت 9 أطفال وثلاث نساء، واحدة منهنّ عربية؛ المرأة والطفلان الإضافيان يبدو أنهما لبن لادن.
يقول الجيران إن الرجلين كانا مسلمين من البشتون من شارساد. لكن أرشاد لم يكن الاسم الحقيقي للقاطن في المجمع الأبيض، وأنهما انتقلا إلى أبوت آباد قبل سبع سنوات. لم يسبّبا أي متاعب لأحد وكانا يحيّيان الناس بلطف في الشارع ويتنزهان مع أطفالهما حول المنزل. فوجئ الجيران بوجود شخص مهم في المنزل، فهم لم يروه، أو يروا غير أطفال ونساء الرجلين خان.
الرجلان ثريان مقارنة بالسكان. كانا كريمين، إذ كانا يدفعان للعمال في منزلهما حوالى دولارين ونصف يومياً، أي ضعف الأجر اليومي في باكستان، وقدّما تبرعات لبناء مسجد في الحي. لم يُعرف إن كان العمال قد رأوا يوماً بن لادن أو زوجته أو أطفاله. وكأنّ عائلة بن لادن برمّتها كانت غائبة عن المنزل وفجأة ظهرت.
أما هوية الرسولين، أي الرجلين اللذين ساكنا بن لادن، واللذين لم تكشف هويتهما السلطات، فكانت مدار سجال واسع في الصحافة الغربية، منطلقاً من تصريحات لمسؤولين استخباريين ورسميين واعترافات معتقلين في غوانتنامو. قالت الاستخبارات «رسول واحد على وجه التحديد لفت انتباهنا. المعتقلون أعطونا اسمه الحركي أو لقبه، وعرفوه بأنه ربيب خالد الشيخ، ومساعد موثوق به لأبو فرج الليبي». حدّدت موقع الرسول، وبدأت بتعقب اتصالاته التي انتهت الى بن لادن.
قالت صحيفة «تليغراف» إن الرسول الذي قاد القوات الأميركية الى بن لادن هو خبير كومبيوتر ساعد فريق 11 أيلول، مستندةً على برقيات لـ«ويكيليكس»، تشير الى أن الاستخبارات الأميركية تراقب الرسول المعروف باسم أبو أحمد الكويتي منذ 4 سنوات.
وكانت المكالمة الهاتفية التي أجراها الكويتي من أبوت آباد في 2010، الخيط الذي تعقّبه الأميركيون وأوصلهم الى باب منزل بن لادن.
واستناداً لبرقيات «ويكيليكس» (30 تشرين الأول 2008)، المتعلقة باعترافات المعتقل محمد ماني القحطاني (أحد مدبري هجمات 11 أيلول)، فإن الكويتي قد يكون مرافقاً لبن لادن منذ أن اختفى في تورا بورا 2001. أعطى القحطاني كومبيوتر من أجل تنفيذ عملية 11 أيلول ودرّبه على إرسال البريد الإلكتروني في مقهى للإنترنت.
وتقول البرقيات إن أبو أحمد الكويتي مسؤول رفيع في «القاعدة»، ومنسّق مع خالد شيخ محمد، وعمل في المكتب الإعلامي التابع للتنظيم في قندهار، الذي كان يديره خالد الشيخ، وعمل كرسول.
وبحسب التقارير الأميركية، فإن الولايات المتحدة علمت هوية الرسول من خلال مصدر أساسي آخر هو حسن غول الذي اعتقل في العراق عام 2004 واستجوبته «سي آي إيه». وغول لم يعتقل في غوانتنامو، لكن يعتقد أن يكون داخل سجن في باكستان.
وأخبر غول الأميركيّين بأن الكويتي سافر مع بن لادن «وشوهد مع بن لادن في تورا بورا، ومن الممكن أن يكون الكويتي أحد الأفراد الذين قال القحطاني إنهم رافقوا بن لادن في تورا بورا قبل اختفائه».
ويعتقد أن الكويتي هو من حافظ على سرية بن لادن وأمنه طوال 10 سنوات. وحصلت «سي آي إيه» على معلومات عن دور الكويتي من خلال اعترافات خالد الشيخ وأبو فرج الليبي.
ووصفه المعتقلون بأنه مساعد متوسط المستوى في القيادة، ساعد عناصر «القاعدة» وعائلاتهم على تأمين ملاذات آمنة. ولكن بقي مكانه لغزاً كبيراً لـ«سي آي إيه»، بسبب قلة الاتصالات، إذ إن بن لادن كان يصرّ على عدم إجراء أي اتصالات هاتفية أو بالشبكة العنكبوتية بالقرب منه، الى أن كان الاتصال المفصلي في 2010.
«نيويورك تايمز» تقول إن المحقّقين علموا بداية بأمر الكويتي ما بين 2002 و2003، بعد تعريض المعتقلين تباعاً (خالد الشيخ والليبي الذي اعتقل في 2005 وحسن غول الذي اعتقل في 2002 في العراق) لأساليب التحقيق القاسية، ومن ضمنها الإيهام بالغرق.
لكن في ملفات الليبي (10 أيلول 2008)، هناك إشارة الى رسول شخصي آخر لبن لادن تقول إن الليبي كان يعيش في أبوت آباد. هرب الى بيشاور وعاش هناك في 2003 وأصبح بعدها رسولاً لبن لادن «تلقّى في تموز 2003 رسالة من رسول بن لادن (عبد الخليق خان) تطلب منه أخذ مسوؤلية جمع التبرعات وترتيب السفريات وتوزيع الأموال على العائلات في باكستان.
وفي 2003، انتقل الليبي مع عائلته الى أبوت آباد وعمل ما بين بيشاور وأبوت آباد».
مجلة «ويكلي ستاندرد» تتساءل عن الدور الذي قام به عبد الخليق خان في قتل بن لادن، عبر ربط مجموعة من الخيطان بعضها ببعض. تقول إن الليبي انتقل مع عائلته الى أبوت آباد في 2003، وأنه تولى نشاطات التنظيم في المناطق المستقرة، واعتقل فيما كان ينتظر أن يلتقي عبد الخليق. فهو حاول أن يلتقي عبد الخليق في منتصف نيسان 2005، وفي بداية أيار حين انقضّت عليه القوات الباكستانية الخاصة واعتقلته.
وتخلص إلى أنه «إذا كان مولوي عبد الخليق لا يزال الرسول الأكثر ثقة لبن لادن، فإنه دفع عن غير قصد الى اعتقال الليبي وقتل سيده».



المجمع الأبيض

عاش أسامة بن لادن أكثر من سبع سنوات، بحسب الروايات الأميركية، في منزل أبيض عادي مؤلف من ثلاث طبقات، لكن ما ميّزه أن مساحة الأرض التي بُني عليها كانت أكبر بثلاث مرات من معدل المنازل في الحيّ، وجدرانه ارتفعت لأربعة أمتار وسُيجت بأسلاك شائكة.
يقع عند تخوم حقول، وهذه التحصينات لم تكن مفاجئة. كما لم يكن في داخله أي تحصينات أو قبو أو مكان آخر يمكن بن لادن أن يختبئ فيه.
كان الأميركيون يرجّحون دائماً أن يكون في المناطق القبلية الباكستانية، ويدّعون بأن قادة «القاعدة»، ومن ضمنهم بن لادن والرجل الثاني أيمن الظواهري، كانوا يعيشون في كهوف ويتنقلون بين المناطق الحدودية الأفغانية الباكستانية، وصفتها التقارير بالجنات الآمنة. وأغفلت دوماً عن قصد أو غيره فرضية أن يكون الزعيم يقطن في منزل عادي، رغم أنها زعمت في العام الماضي أن الاستخبارات الباكستانية عمدت الى تهريب القادة المتمرّدين الى الداخل باتجاه إسلام آباد. لكن الصحافي بيتر برغن، وهو أول من حاور بن لادن في 1997، يستغرب الاعتقاد بأن بن لان كان يعيش في كهف «هذه الفكرة لم تكن منطقية. إذا رأيت التسجيل الأخير في 2007، تلاحظ أن ثيابه حسنة. ولم يظهر أي شيء في التسجيلات يشير الى أنه كان يعيش في كهف».