ابتداءً من اليوم، سيكون لتركيا وللعالم نسخة جديدة من رجب طيب أردوغان. هي نسخة ثالثة للرجل الذي عادل الرقم القياسي الذي سجّله عدنان مندريس من حيث فوز حزبه بثلاثة انتخابات متتالية. مندريس وحزبه «الديموقراطي» تولّيا الحكم بين 1950 و1960، بعدما فازا بثلاث دورات انتخابية متتالية في 1950 و1954 و1957 التي لم يكملها مندريس نتيجة الانقلاب العسكري الذي أطاحه وأُعدم على أثره. أما أردوغان، فيبدأ حزبه ولاية ثالثة يرأس حكومتها «الفتى الشجاع» نفسه (معنى كلمة أردوغان بالتركية) في سياق سياسي داخلي وإقليمي ودولي شديد التعقيد، بما أنّ تركيا «الجديدة» في الداخل وفي الخارج ستستكمل فصول ولادتها في هذه الولاية الحكومية بالتحديد. أردوغان، الذي بدأ عمله السياسي إسلامياً متشدِّداً، قبل أن يعي أخطاء حقبة نجم الدين أربكان وينطلق في رحلة سياسية جديدة عناوينها العمل بذكاء وبهدوء وبمهادنة وبـ «تقيّة»، تفوّق على معلّمه ـــــ الرمز أربكان، ليقضي على الحزب الأخير للخوجا أربكان (السعادة) على نحو مأساوي، وليضع اسمه في مصاف القادة والزعماء العالميين في القرن الـ21. أردوغان ما بعد انتخابات 12 حزيران لن يكون مثلما كان قبل هذا التاريخ، لأنّه أدرك أنّ زمن الحصاد قد حان بالفعل. فالولاية الحكومية الأولى لحزبه «العدالة والتنمية» (2002 حتى 2007) خُصِّصَت لكسر الممنوعات السياسية لتركيا القديمة من عقول المواطنين الأتراك على نحو تدريجي للغاية وبطيء جداً، ليصبح المراقب التركي وغير التركي اليوم قادرين على الجزم بأنّ طيف الانقلابات العسكرية ولّى إلى غير رجعة. أما الولاية الثانية (2007 حتى 2011)، فكان شعارها تهيئة النفوس والنصوص للعيش في كنف «تركيا الجديدة»، تلك المتحررة من عقد الماضي، المتصالحة مع هويتها وتاريخها الإسلاميين، وهو ما يضعه المعارضون في خانة أسلمة تركيا. تركيا الجديدة الموعودة متصالحة مع جيرانها، وحرّة من قيود الجيش ومن طيف مصطفى كمال واللغة الخشبيّة التي تُعرّض من يتكلم بالكردية لأقصى العقوبات.
طوال ولايتين حكوميتين، وبعيداً عن الاستفزاز والتحدّي، كسر أردوغان وحزبه حاجز الخوف في مملكة الخوف لإفهام مواطنيه أن إدارة الجيش للحياة السياسية التركية ليست مصيراً محتوماً، ويمكن كسرها في يوم من الأيام. نجحت «القوة الناعمة» التي انتهجت التقيّة السياسية حيناً، والمواربة والمساومات أحياناً، بعيداً عن أسلوب التحدّي والمشاكسة الذي أرساه أربكان، وتمكّن أردوغان بنتيجته من سماع 58 في المئة من الأتراك يقولون نعم لتعديل الدستور في 12 أيلول 2010، ولا لدور الجيش في السياسة، ولا لوصاية القضاء على المؤسسات التركية المنتخَبة (بما أن الرئيس صار منصباً ينتخبه الشعب بموجب التعديل الدستوري في 2007)، كذلك في مفهوم علمانية الدولة والحريات الدينية التي خصّص لها أردوغان وحزبه حيزاً كبيراً من عملهما في ولايتيهما تحت شعار «كل ما نريده هو ليس حتى إعطاء الحق لنسائنا بارتداء الحجاب الإسلامي، بل مجرد أن يتمتع المسلم التركي بالحقوق نفسها التي يتمتع بها التركي غير المسلم». الحال نفسها كانت في موضوع تعزيز الحقوق الديموقراطية بحجّة تلبية شروط الانتساب إلى الاتحاد الأوروبي. أما في ما يتعلق بالأزمة الأكبر والأقدم والأصعب، أي المشكلة الكردية، فلا يزال سلوك أردوغان أبطأ من المطلوب، وأقل «هجومية» بحسب خصومه، ربما لعلمه، وفق أنصاره، بأنّ العمل بالتدرُّج وبالتقسيط هو السبيل الوحيد لتغيير عقلية جزء كبير من الأتراك، غير المستعدّين بعد لتقبُّل الاعتراف بلغة كردية رسمية، ولاستيعاب دستور جديد ديموقراطي غير قائم على تمجيد القومية التركية الحصرية.
أردوغان الثالث هو الذي لا ينوي خوض انتخابات نيابية رابعة مبدئياً، لأنّ الرجل كشف، قبل أكثر من عام، أنه يطمح للانتقال بتركيا القوية إلى نظام رئاسي «على الطريقة الأميركية»، حيث لا يكفي أن يكون الرئيس منتخَباً من الشعب (وهو ما سيحصل في الدورة الانتخابية الرئاسية المقبلة في 2012 أو 2014)، بل يجب أن يكون رئيساً قوياً بصلاحيات تسمح له بترجمة وزن تركيا في المحافل الإقليمية والدولية. أردوغان الثالث، البالغ 57 عاماً، يحلم بأن يصبح رئيساً للجمهورية بعدما قاد الحزب والحكومة سنوات طويلة، لكنّ الأمر ليس محسوماً بعد، بما أنّ معارضة تحويل تركيا من نظام برلماني إلى رئاسي تسلّلت سريعاً إلى داخل صفوف حزبه حتى، لا بل إن الرئيس عبد الله غول، ورئيس البرلمان محمد علي شاهين، الرفيقين التاريخيين لأردوغان الثاني والأول، لا يحبّذان بدورهما النظام الرئاسي لأسباب عديدة، قد يكون أبسطها علمهما بأنّ 70 في المئة من مناصري «العدالة والتنمية» يصوّتون اليوم لهذا الحزب كرمى لعينَي أردوغان نفسه، لا للكاريزما التي يتمتع بها فحسب، بل أيضاً لعينَي الرجل الذي نهض بالاقتصاد الوطني لتركيا نهوضاً مذهلاً، وللرجل الذي باتت صوَره ترتفع في المدن العربية مطبوعة على أعلام تركيا الجديدة كنموذج وقدوة للعالم العربي، وللرجل الذي لا يخجل من القول إنّ مشروعه يقوم على جعل تركيا دولة عظمى حقاً، لا لسبب إلّا لأنّ موقعها الجغرافي وميزاته، وقوتها الاقتصادية، وتعدُّد هوياتها، وقدراتها العسكرية، وغنى تاريخها، وذكاء قادتها... لأنّ كل ذلك يسمح لها بأن تكون رقماً عالمياً صعباً.
أردوغان الثالث سجّل اسمه أمس إلى جانب الزعماء الأتراك التاريخيين الذين أقيمَت لهم أنصاب تذكارية، وحلمه الرئاسي يختصر طموحه بالوصول إلى عام 2023 (ذكرى مئوية تأسيس الجمهورية) ولسان حال شعبه يقول بات لنا رمزان: مصطفى كمال ورجب طيب أردوغان.