خمسة أيام لا أكثر باتت تفصل السودان عن موعد انفصال جنوبه، في حدث لن يكون بمنأى عن المشاكل في ظل تنقل التوترات الأمنية من منطقة إلى أخرى، مدفوعة بتعثر شريكي الحكم، في التوصل إلى حلول جذرية لعدد كبير من القضايا العالقة بين الشمال والجنوب. ورغم أن اتفاقية السلام الشامل الموقعة عام 2005، نصت على إعطاء حزب المؤتمر الوطني والحركة الشعبية لتحرير السودان مهلة ستة أشهر، في حال إقرار الانفصال، كفترة انتقالية تسمح بإنجاز أي ترتيبات قبل الإعلان الرسمي عن ولادة دولة جنوب السودان، شارفت المهلة على نهايتها، ولا تزال معظم القضايا العالقة على حالها، من مسألة تقاسم المياه، مروراً بتوزيع عائدات النفط والترتيبات الأمنية، وصولاً إلى ترسيم الحدود التي تعد الأخطر. وتكتسب الحدود أهمية مضاعفة بسبب التداخل السكاني بين الشمال والجنوب
، ما سمح بالحديث عن «جنوب جديد» سيتحتّم على حكومة الشمال مواجهته، وتحديداً في منطقة جنوب كردفان، ذات التعددية القبلية والإثنية، بما في ذلك سكان جبال النوبة، الذين يعدّون أنفسهم الخاسر الأكبر من انفصال جنوب السودان. والنوبيون الذين انحازوا في معظمهم خلال سنوات الحرب الأهلية إلى المتمردين الجنوبيين، وقاتلوا إلى جانبهم متأثرين بأفكار زعيم الحركة الشعبية، جون قرنق، وتحديداً مشروعه للسودان الموحد ضمن شعار «السودان الجديد»، جاء التوقيع على اتفاقية نيفاشا للسلام عام 2005 ليمثّل نقطة تحول في مصيرهم، وذلك بعدما نصت الاتفاقية على منح الجنوب حق اختيار مصيره بين البقاء ضمن الدولة الواحدة، أو الانفصال، فيما مَنحت ولايتي جنوب كردفان والنيل الأزرق، الواقعتين على الحدود بين الشمال والجنوب، حق المشورة الشعبية.
وإدراكاً منهم أن الانفصال لن يكون لمصلحتهم، وخصوصاً في ظل الخشية من تعرضهم لاستهداف السلطات في الشمال، سعى أبناء النوبة إلى محاولة ثني الحركة الشعبية عن موقفها المنحاز للانفصال، قبل أن تبوء محاولاتهم بالفشل، لتأتي الاشتباكات الأخيرة في ولاية جنوب كردفان لتعيد تسليط الضوء على قضيتهم.
وفي السياق، تحدث رئيس حزب العدالة السوداني، مكي بلايل، وهو من قادة النوبة أمس، لـ «الأخبار» عن التطورات التي تشهدها منطقة جنوب كردفان، مرجعاً سببها إلى غياب الثقة بين شريكي الحكم واتفاقية السلام الشامل التي فشلت في معالجة كافة القضايا بطريقة تلبي المطالب الشعبية.
ووفقاً لبلايل تراكمت المشاكل إلى أن حانت الساعة الصفر لتنفجر خلال الانتخابات التي شهدتها المنطقة في شهر أيار، قبل أن تتطور إلى معارك عسكرية الشهر الماضي، وما زالت الأطراف السياسية حتى اللحظة تعجز عن احتوائها، رغم توقيع حزب المؤتمر الوطني والحركة الشعبية اتفاق إطار في إثيوبيا الأسبوع الماضي، قضى بوقف إطلاق النار في المنطقة.
والاتفاق الذي لم يجد طريقه للتنفيذ حتّى الآن، تزايدت الشكوك في إمكان تطبيقه بعد تأكيد الرئيس السوداني، عمر البشير، أن الجيش السوداني سيواصل حملته في الولاية، معطياً أوامره للقوات العسكرية «بتنظيف المنطقة من المتمردين». أما عن الخطوات المطلوبة للتغلب على ما يجري، فشدد بلايل على ضرورة أن يجري وقف إطلاق النار أولاً، وخصوصاً في ظل تردي الأوضاع الإنسانية، لكي تمهد الطريق أمام الأرضية السياسية للحوار بين جميع القوى السياسية والمكونات الاجتماعية للمنطقة. كذلك أكد بلايل ضرورة أن يجري التوصل إلى اتفاق نهائي يضمن استيعاب أبناء جبال النوبة، في القوات النظامية الشمالية، متحدثاً عن وجود اتفاق مبدئي على هذا الأمر، لكنه لم يتبلور على نحو نهائي، في اشارة إلى المباحثات التي جرت بين المؤتمر الوطني والحركة الشعبية بهدف دراسة أوضاع المقاتلين، الذين تراوح التقديرات بشأن أعدادهم بين 35 و40 ألفاً، وتحديد من منهم يصلح للخدمة العسكرية لكي يُستوعَب في صفوف القوات المسلحة السودانية، على أن تدفع الحركة الشعبية مستحقات نهاية الخدمة لهم بعد تسريحهم من جيشها، علها تستطيع احتواء الانتقادات المتزايدة التي بات المقاتلون يوجّهونها إليها.
وفي السياق، أوضح بلايل أن أبناء جبال النوبة لطالما كانوا منقسمين في مواقفهم تجاه الحركة الشعبية. فمنهم من لا يزال حتى اللحظة يؤيدها، ومنهم من أيدوها في السنوات السابقة، اقتناعاً بشعار السودان الجديد، الذي رفعته قبل أن يتحولوا إلى معارضين لها بعد عجزها عن الوفاء بالشعارات التي رفعتها، واقتناعهم بأن الحركة خانتهم، وهو ما انعكس بشكل أو بآخر من خلال تمرد بعض القادة العسكريين المنتمين إلى أبناء النوبة عن الجيش الجنوبي، وبينهم تلفون كوكو.
أما المجموعة الأخيرة من أبناء جبال النوبة، فيوضح بلايل أنها لطالما وقفت في وجه الحركة الشعبية، بسبب خلاف أيديولوجي معها، بعدما رأت فيها حركة دكتاتورية وعنصرية تعادي مكونات أساسية في المجتمع السوداني.
من جهة ثانية، لفت بلايل إلى ضرورة إنفاذ المشورة الشعبية التي تؤكد على ضرورة الأخذ بوجهة نظر سكان ولاية جنوب كردفان، بشأن مدى تحقيق اتفاقية السلام الشامل لتطلعاتهم، مؤكداً أن التأخير الذي طرأ على موعد إجراء المشورة لم يكن في مصلحة الولاية.
كذلك دعا إلى ضرورة التوصل إلى اتفاق على إطار للحكم في الولاية يضمن تمثيل مختلف الأطياف الموجودة فيها، بما في ذلك تأليف حكومة قومية في المنطقة، وخصوصاً أن الانتخابات الأخيرة لم تؤد إلى فوز حاسم لأي من القوى، في انعكاس واضح لتقاسم المؤتمر الوطني والحركة الشعبية لتحرير السودان التأييد الشعبي في جنوب كردفان.
ورغم أن بلايل يبدو مطمئناً إلى أن شعار تقرير المصير لن يجد تأييداً واسعاً لدى أبناء جبال النوبة، التي تقدر مساحتها بحوالى 48 ألف كيلومتر مربع إذا أعيد طرحه على نحو جدي بعد انفصال الجنوب، فإن هذا الخيار يبقى وارداً في أذهان الكثيرين رغم الصعوبات المنتظر أن يواجهها، وخصوصاً أن الحكومة السودانية لن تسمح تحت أي ظرف بتكرار سيناريو جنوب السودان.