هي ليست الفضيحة الأولى التي تطال صحيفة «نيوز أوف ذي وورلد» البريطانية، لكنها القاضية. فضائح تنصّت صحافيي الجريدة الأسبوعية على هواتف السياسيين والمشاهير والعموم والكشف عن الرشى التي دفعت للشرطة، مقابل التكتم عن تجاوزات المطبوعة طوال سنوات عديدة، أدّت أخيراً الى إيقاف صدورها وإلى سقوط بعض الرؤوس معها. تلك نهاية منطقية لمؤسسة أمعنت في المخالفات، لكن «نيوز أوف ذي وورلد» ليست أي مؤسسة، فهي الحجر الأساس الذي بنى عليه روبرت موردوخ إمبرطوريته الإعلامية (منذ عام 1968) وهي المطبوعة الأكثر توزيعاً (أكثر من مليونين وست مئة ألف نسخة يومياً) والأكثر مبيعاً في المملكة وفي مجموعة «نيوز إنترناشيونال» الناشرة التابعة لـ«نيوز كوربوريشن». كيف انتهت مسيرة مطبوعة إنكليزية عمرها 168 عاماً؟ ولماذا لم يستطع موردوخ هذه المرّة شراء «براءته» والإفلات من المحاسبة؟ وهل سيخلخل سقوط الحجر الأساس فروع الإمبراطورية كلها؟
القصة بدأت منذ سنتين تماماً، حيث نشرت صحيفة «ذي غارديان» في 8 تموز 2009 مقالاً لنيك دايفس، يتهم فيه مجموعة موردوخ الإعلامية بدفع رشى بقيمة مليون جنيه استرليني للشرطة البريطانية بغية التكتم عن مخالفات قانونية يرتكبها صحافيو المجموعة. ويشرح المقال أن بعض الصحافيين وظفوا تحريين خاصين بغية قرصنة رسائل الهواتف المحمولة لبعض المشاهير من سياسيين ونجوم ورياضيين والوصول بطريقة غير قانونية الى ملفاتهم الشخصية، مثل سجلات حساباتهم المصرفية والضرائبية وضمانهم الاجتماعي وفواتير هواتفهم المحمولة، مع العلم بأن صحافياً من المجموعة الإعلامية ذاتها كان قد أدين وسجن عام 2007 بتهمة التجسس على هواتف ثلاثة من أفراد العائلة الملكية، وحينها نفى مسؤولو المجموعة علمهم بالأمر وبأي مخالفة أخرى من هذا النوع في مؤسساتهم.
لكن التحقيقات الرسمية والصحافية استمرت، وفي نيسان الماضي اعترفت شركة «نيوز أنترناشونال» بأن هناك ما لا يقل عن ثماني ضحايا لفضيحة التنصت وأعلنت عن تعويضات مالية، كما قدّمت «نيوز أوف ذي وورلد» اعتذاراً للمعنيين. لكن يبدو أن حجم المخالفات المرتكبة من قبل العاملين في مجموعة موردوخ هي بحجم إمبراطوريته، لذا لم يعد بالإمكان التستر عنها. وها هي التحقيقات المستكملة تكشف مئات أرقام الهواتف التي تمّ التجسس عليها من قبل صحافيي «نيوز أوف ذي وورلد» على مدى سنوات. لذا، انتقلت القضية الى مجلس النواب البريطاني (بدأت الجلسات منذ 3 أيام) حيث «اضطرّ» رئيس الوزراء جايمس كاميرون الى إدانتها بشدّة، وهو المعروف بصلاته المتينة مع آل موردوخ.
أما ما هزّ الرأي العام وما زاد من الضغوط على مسؤولي «نيوز انترناشيونال» و«نيوز أوف ذي وورلد» فهو الكشف أول من أمس عن أن لائحة التنصّت شملت أيضاً هواتف عائلات بعض ضحايا الجرائم الجنائية وهواتف بعض ذوي الجنود الذين قتلوا في حربي أفغانستان والعراق، الأمر الذي اعتبره الرأي العالم «غير إنساني» و«مريض»، إضافة الى صفته الجرمية التي يعاقب عليها القانون البريطاني. وعلى الفور، سحبت معظم الشركات الكبرى إعلاناتها من الصحيفة وأعلنت بعض مكاتب البيع والتوزيع مقاطعتها للمطبوعة. وما هي إلا ساعات حتى أعلنت إدارة «نيوز أنترناشيونال»، برئاسة جايمس موردوج ابن روبرت، وقف إصدار «نيوز أوف ذي وورلد»، ليكون عدد الغد آخر أعدادها. وهذا لم يكن سوى أوّل الغيث، إذ أوقفت الشرطة البريطانية صباح أمس أندي كولسن رئيس التحرير السابق لـ«نيوز أوف ذي وورلد» (من عام 2003 حتى عام 2007) بتهمة الفساد والتجسس على الهواتف. وكولسن هو الذي عيّنه رئيس الوزراء البريطاني مديراً للتنسيق الإعلامي في داوننغ ستريت بعد استقالته من الصحيفة (عام 2007) مع بداية انكشاف فضيحة التنصت، الأمر الذي أثار جدلاً كبيراً في الأوساط السياسية والإعلامية حينها. لكن كولسن عاد واستقال من منصبه الحكومي في كانون الثاني من العام الجاري بعد تفاقم تداعيات قضية التنصت واستمرار التحقيقات في الموضوع. جايمس كاميرون تحمّل كامل المسؤولية عن تعيين كولسن في منصب حكومي، خلال مؤتمر صحافي عقده أمس، من دون أن يعتذر عن قرار تعيينه ذاك.
القضية الفضائحية التي تستمر «مفاجآتها» ومفاعيلها حتى اللحظة، سلّطت الضوء أيضاً على صفقة جديدة كان موردوخ بصدد إتمامها وهي شراء شركة البث الفضائية «بريتيش سكاي برودكاستينغ»، وقد علت الأصوات الداعية إلى وقف هذه الصفقة في الأيام الماضية، فيما أعلن وزير الثقافة البريطاني أمس تأجيل موعد بتّها.
أما مصير ابن موردوخ، جايمس، المسؤول عن «نيوز انترناشيونال» و«نيوز أوف ذي وورلد» فيبقى مجهولاً: هل توقفه الشرطة؟ هل يحاكمه القضاء البريطاني؟ الجواب الأكيد الصادح لغاية الآن جاء على لسان بعض الصحافيين البريطانيين: «أخيراً، تحررنا من هيمنة موردوخ على السياسة والإعلام»!