عدد لا بأس به من سفراء وضباط متقاعدين وإعلاميين ومهتمين بالشأن العام حضروا ندوة «مركز عصام فارس» في بيروت أول من أمس، بما أن الضيف لم يكن سوى السفير التركي لدى لبنان، إينان أوزيلديز، وبالتالي هناك عدد كبير من الاستفسارات والاستفزازات المطلوب توجيهها إلى الرجل، بما أن بلاده تطرح نفسها قوةً لا حدود لنفوذها. عنوان الندوة، «سياسة تصفير المشاكل التركية»، يبدو متأخراً عاماً كاملاً بحسب تعليق أحد الخبثاء. شعار ليس سوى ترجمة لنظرية ملهم الدبلوماسية التركية المعاصرة أحمد داوود أوغلو الذي انتزع النظرية من كتابه «العمق الاستراتيجي» ليحاول تطبيقها في عالم الواقع، لكنه بات ينتمي إلى زمن ولّى، بما أن تركيا اليوم لديها مشاكل جدية مع 6 دول على الأقل، هي سوريا والعراق وإسرائيل واليونان وقبرص (اليونانية) وأرمينيا، لذا اقتضى تعديل عنوان الندوة ليصبح «تحديات سياسة تصفير المشاكل». يقرأ أوزيلديز نصاً مكتوباً ليفتح الباب أمام أسئلة الحاضرين. كان لافتاً تعمُّد البعض، وخصوصاً من الصحافيين اللبنانيين، عدم طرح أسئلتهم، إما لتجنُّب إحراج أنفسهم وإحراج السفير لكونهم يعارضون المواقف التركية الأخيرة وخصوصاً إزاء سوريا، وإما لسبب تقني لكون النقاش اقتصر على اللغة الإنكليزية. كلمة أوزيلديز التي تلت تقديم السفير عبد الله بو حبيب اقتصرت على العموميات، فهذه هي طبيعة العمل العلني للسفراء على الأقل. من بين ما قاله الرجل: «التطورات العاصفة في المنطقة لم تؤثر على سياسة تصفير المشاكل مع الجميع. الثورات العربية هي عربية جداً (أي إنها ليست اختراعاً من القوى الأجنبية). سنواصل العمل على إنشاء مجالس تعاون استراتيجية مع الدول الصديقة، من بينها لبنان. نفضّل أن نكون مصدر إلهام للدول العربية بدل نقل التجربة التركية بحذافيرها إلى أهل لغة الضاد. فوجئنا كغيرنا بالثورات العربية، لكن لا تنسوا أن أنقرة تطالب الدول العربية بالإصلاح والديموقراطية منذ 10 سنوات. لا نسعى إلى منافسة إيران على دورها في المنطقة. موجة الديموقراطية لا يمكن إيقافها، حتى في سوريا. من الضروري احترام حقوق الأقليات في الأنظمة العربية». هنا يتساءل «الخبيث» ثانيةً: حقوق أقليات؟ وماذا عن حقوق أكراد تركيا؟ تبدأ الأسئلة ومعها تعليقات السفير. طبعاً لا يبدو مسروراً من المداخلات المتعلقة بالاعتذار التركي عن المجزرة الأرمنية، ولا عن حقوق الأقليات الكردية، ولا عن النقص في الحريات الدينية في تركيا، ولا عن الخوف العربي العام من عودة «العثمانية الجديدة». أصلاً، بحسب تعابير السفير، «ليس كل تاريخ السلطنة العثمانية بغيضاً، إذ توجد جوانب مضيئة فيها» من دون أن يعني ذلك أن أنقرة اليوم تريد استعادة أمجاد الآستانة. في كل الأحوال، يبدو الضيف التركي بعيداً عن الإرث العثماني، إذ أمكن الوقوع على استشهادين أو ثلاثة خلال كلام الرجل لمصطفى كمال الذي «لا يزال إرثه السياسي حياً في المبادئ العامة (العلمانية) للجمهورية التركية». انزعاج أوزيلديز حيال الأسئلة «البغيضة» تُرجم بوضوح إما في تحاشيه الإجابة، وإما من خلال الاكتفاء بنفي الاتهامات والانتقال إلى سؤال آخر بسرعة. أكثر ما يثير رغبته في الكلام كان حديث الساعة: سوريا. هي سوريا الرسمية التي بات الرجل لا يحبها بعدما كانت قيادته واقعة في غرامها قبل 6 أشهر فقط. سوريا الرسمية تلك «تشنّ حملة ضد تركيا ولا يمكننا الرد يومياً عليهم في الإعلام، وما نريده هو انتقال سلمي للسلطة فيها». ولما كثرت الأسئلة عن تركيا والثورات العربية، كان لا بد من اعتراف صغير للسفير: «تحمّلنا انتقادات كثيرة على خلفية علاقاتنا مع الأنظمة العربية المتسلّطة كليبيا وسوريا، ثمّ سمعنا صوت الشعوب وغيّرنا موقفنا ودعمنا الحركات التغييرية». اعتراف علّق الخبيث مجدداً عليه بالقول «كأن السفير يقول للشعوب العربية سامحونا على موافقة رجب طيب أردوغان على تسلم جائزة معمر القذافي لحقوق الإنسان». عودة إلى سوريا طبعاً، سؤال من «الأخبار» عن مدى احتمال موافقة تركيا على قيادة تدخل عسكري أجنبي فقط في حالة تلاعب سوريا بورقة حزب العمال الكردستاني ضد تركيا. الجواب واضح وليس بحاجة إلى التفكير ملياً بالنسبة إلى السفير، بعدما يستغرب سبب طرح سؤال عن احتمال التدخل العسكري الأجنبي: «سوريا لا تملك ورقة كردية ولا ورقة حزب العمال الكردستاني، لأنها عاجزة عن التأثير في هذا الحزب، بدليل أننا ظللنا (خلال شهور العسل التركية ــــ السورية) نتفاوض طويلاً مع دمشق بشأن قضايا الإرهاب (يقصد حزب العمال الكردستاني) وكانت النتيجة سلبية، لأنهم عاجزون عن التأثير على هذا الحزب، تماماً كما أن العراق عاجز (باستثناء شمال العراق قليلاً). وفي جميع الأحوال، لن نغيّر سياساتنا الخارجية بسبب القصة الكردية».
بعض الحضور سأل عن نقطة تشغل بال كثر خصوصاً في العالم العربي: تهددون إسرائيل ولا تفعلون شيئاً في النهاية سوى الكلام. تهددون سوريا وقبرص والعراق... أيضاً بلا أفعال. أوزيلديز دبلوماسي عتيق وعمل في واشنطن وفي باريس، ويعرف أنّ السخرية قد تكون ميزة دبلوماسية أيضاً، فما كان منه إلا أن أجاب ضاحكاً: «وماذا تريد منّا، أن نشنّ حروباً لأسباب مماثلة (غزة وقبرص وسوريا)... كلا لن نشنّ الحروب».