روّج الاقتصاديون غير التقليديّين لـ«الأموَلة» بوصفها سبباً لانتشار التفاوت والإخفاقات في الاقتصادات الرأسمالية الحديثة. أمّا اليوم فتُطرح نظرية جديدة تتمحور حول «السعي إلى الريع». ففي مقالة مطوّلة في «فايننشل تايمز»، قدّم مارتن وولف، الكاتب الاقتصادي المعروف، هذا المفهوم لتفسير النموّ المنخفض للإنتاجية وزيادة التفاوت وتراكم الديون في الاقتصادات الكبرى. يعتبر وولف أنّ الرأسمالية تعرّضت لـ«التلاعب» على أيدي قوى الاحتكار الاقتصادية. يتساءل: «لماذا لا يحقّق الاقتصاد أيّ نتائج؟»، ويقدّم جواباً يكمن في جزء كبير منه في «صعود الرأسمالية الريعية». يعني «الريع»، في هذه الحالة، المكاسب التي تزيد على المكاسب المطلوبة لتحفيز العرض المطلوب من السلع أو الخدمات أو الأرض أو العمالة. وتعني «الرأسمالية الريعية» اقتصاداً حيث سلطة السوق والسلطة السياسية تسمحان لأشخاص وشركات محظيّين بسحب جزء كبير من هذا الريع من الآخرين. ويُعتبر القطاع المالي جزءاً مهمّاً من هذا التطوّر الاحتكاري، حيث مكّنت «الأموَلة» القطاعات الاحتكارية من خلق أرباحها الخاصّة (ولو كانت غالباً وهمية) والتسبّب بأزمات مالية، ولكن هذه النظرية ترى أنّ العدو الحقيقي للرأسمالية الناجحة هو «تراجع المنافسة». ويعدّد وولف لاحقاً أدلّة واقعية تجريبية على الريعية الرأسمالية، مثل: تركيز السوق وارتفاع هوامش الأرباح الاحتكارية الإضافية وتحقيق الشركات العملاقة «أرباحاً احتكارية»، كشركات التكنولوجيا المعروفة اختصاراً بـFAANGS والمتمثّلة بفايسبوك وأمازون وآبل ونتفلكس وغوغل.
ولكن هل تصحّ هذه النظرية كسبب رئيسي لضعف النموّ الاقتصادي وازدياد التفاوت والأزمات المالية؟ هل الرأسمالية القائمة على الاحتكار هي السبب أم التناقض في الرأسمالية ككلّ؟

التناقضات في تراكم رأس المال
يبدو ضعف نموّ الإنتاجية مرتبطاً ارتباطاً وثيقاً بضعف الاستثمار، وهو ما ينعكس ضعفاً في الربحية وليس في الاحتكار. والتراجع الأكبر في نموّ الإنتاجيّة بدأ في الولايات المتّحدة بعد العام 2000، مع انخفاض الاستثمار في القطاعات والأنشطة الإنتاجية. في الواقع، إنّ الانخفاض في الربحية العامّة للرأسمال الأميركي هو الذي يحرّك الأمور وليس أي تغيير على مستوى احتكار «القوّة السوقيّة». مجدّداً (مثلاً) تظهر الأدلّة أنّ الساعين إلى الريع لم يقوموا على ما يبدو بأي دور في انخفاض معدّل الاستثمار في منطقة اليورو: الأمر مرتبط فقط بانخفاض الربحية هناك. ولكن مثل هذه الأدلّة لا تبدو مناسبة لأنها تشير إلى أن سبب ضعف نموّ الإنتاجية هو التناقضات في تراكم رأس المال. ولذلك، المشجّع أكثر هو المحاججة في أنّه إذا كانت الربحية مرتفعة، فإنّ «القوة الاحتكارية» هي التي سبّبتها وليس استغلال العمالة في النمط الرأسمالي للإنتاج. فالقوّة الاحتكارية هي التي تبقي نموّ الاستثمار منخفضاً، وليس انخفاض الربحية الإجمالية.


نشر بريت كريستوفرز من جامعة آبسالا في السويد مقالة مهمّة عن الريعية (سوف يليها كتاب)، يرفض فيها مصطلح «الأموَلة» كسبب لضعف النموّ الرأسمالي. والمالية أيضاً ليست سبباً لأنّه يتمّ سحب الريوع في الكثير من القطاعات الأخرى كالقطاع العقاري. ويحاجج كريستوفرز بأن «النزعة الريعية في تجليّاتها المختلفة هي ديناميّة مهمّة، لا بل مُهيمنة، على عكس الفترة التي سبقت التحوّل الليبرالي». ويعتبر أنّ الاقتصاد البريطاني «سيطر عليه النمط الريعي إلى حدّ كبير». ويقدّم ما يصفه بتعريف هجين للرّيع يحاول الجمع بين وجهة نظر ماركس حول الريع الآتي من الملكية الاحتكارية للأصول غير المُنتَجة (الأراضي والمعادن وما إلى ذلك) مع وجهة النظر السائدة التي تفضّل «فائض الدفع» على كفاءة الإنتاج، أي الدفع على «الإنتاجية الحدّية للعمل أو رأس المال».
لست واثقاً من أنّ هذا التعريف الهجين مفيد. فهو يبدو أنّه يدمج بين المسألة الرئيسية التي يراها ماركس في كيفية ولادة الريعية: الاستحواذ على فائض القيمة الناتج عن استغلال العمّال في إنتاج السلع. بالنسبة لماركس يأتي الريع من قدرة أصحاب الأصول غير المُنتَجة الاحتكاريين على منع اندماج فائض القيمة مع العملية التنافسية لتدفّقات رأس المال. بالنسبة إلى ماركس، يُجبر «الرأسماليون المنتجون»، كمستحوذين على فائض القيمة من استغلال العمّالة، على مشاركة بعض هذا الفائض مع أصحاب موارد غير مُنتَجة (الريع) والتمويل (الفائدة). والريع والفائدة هما جزء من إجمالي فائض القيمة المتأتّي عن إنتاج السلع. يجب أوّلاً خلق القيمة وفائض القيمة عبر استغلال القوة العاملة. ثم يُعاد توزيع قيمة الفائض، ويمكن لمن لديهم بعض القوّة الاحتكارية سحب جزء من هذه القيمة الفائضة كريع.

عالم آبل لن يدوم إلى الأبد
يعني تفضيل «فائض الدفع» على «الكفاءة»، أنّ الرأسماليين يحصلون على دفعة مقبولة لاستغلال القوة العاملة لصالح الإنتاجية، وبالتالي يتجاهل هذا التفضيل العلاقات الطبقية. ويعتبر ماركس أنّ ثمّة شكلين من الريع يمكن أن يظهرا في اقتصاد رأسمالي. الأوّل هو «الريع المطلق» حيث احتكار ملكية الأصل (الأرض) يمكن أن تعني استخراج حصّة من فائض القيمة من العملية الرأسمالية من دون الاستثمار في اليد العاملة والآلات لإنتاج السلع. والشكل الثاني يسمّيه «الريع التفاضلي»، وهو ينتج عن قدرة بعض المنتجين الرأسماليين على البيع بسعر أدنى من منتجين أقل كفاءة، وبالتالي امتصاص فائض الربح. وهذا الأخير يمكن أن يتحوّل إلى ريع حين يتمكّن هؤلاء المنتجون بسعر منخفض من إيقاف الآخرين عن اعتماد تقنيات بسعر منخفض أكثر من خلال منع دخولهم السوق، واستخدام وفورات الإنتاج الكبير في التمويل والتحكّم في براءات الاختراع وعقد صفقات احتكارية. ويمكن تحقيق هذا الريع التفاضلي في الزراعة من خلال تحسين إنتاجية الأرض (الطبيعة)، ولكن في الرأسمالية الحديثة، يمكن تحقيقها عبر شكل من «الريع التكنولوجي» أي احتكار الابتكار التقني.

أنقر على الرسم البياني لتكبيره

لا شكّ في أن معظم الأرباح الضخمة لأمثال آبل ومايكروسوفت ونتفلكس وأمازون وفايسبوك ناجمة عن تحكّمها في براءات الاختراع والقوّة التمويلية (ائتمان رخيص) وشرائها لأي منافسين محتملين. غير أن تفسير الريعية يذهب بعيداً جدّاً. فالابتكارات التكنولوجية تفسّر أيضاً نجاح هذه الشركات الكبرى وليس فقط قوّتها الاحتكارية. إضافة إلى ذلك، لا يمكن للرأسمالية بطبيعتها، والتي تقوم على تنافس رساميل عديدة بعضها مع بعض، أن تسمح بأي احتكار «أبدي» أي فائض ربح «دائم» مخصوم من مجموع الأرباح مقسّم وموزّع على الطبقة الرأسمالية ككلّ. والمعركة بين الرأسماليين الأفراد من أجل زيادة أرباحهم وحصصهم في السوق تعني أن القوى الاحتكارية تبقى دائماً في خطر من خصوم جدد وتقنيات جديدة ومنافسين دوليين. لنأخذ العناصر الأساسية لمؤشّر S&P 500 . فالشركات الـ500 الكبرى لم تبقَ كما هي، إذ برزت قطاعات وصناعات جديدة، فيما ذبلت شركات كانت مهيمنة في السابق.
إن تاريخ الرأسمالية هو تاريخ يزداد فيه تركيز رأس المال ومركزيته، ولكن المنافسة تواصل الدفع نحو تنقّل فائض القيمة بين رؤوس الأموال (داخل الاقتصاد الوطني والعالمي). ومن شأن حلول المنتجات الجديدة مكان المنتجات القديمة أن يؤدّي على المدى البعيد إلى التقليل أو القضاء على ميزة الاحتكار. فالعالم الاحتكاري لشركة جنرال إلكتريك ومصنّعي السيّارات في الستينيّات والتسعينيّات من القرن الماضي لم يصمد بمجرّد أن ولّدت تكنولوجيات جديدة قطاعات جديدة لتراكم رأس المال. وبالتالي فعالم آبل لن يدوم إلى الأبد.

ريوع القلّة تخصم من أرباح الكثرة
قد تكون قوّة السوق أعطت ريوعاً لبعض الشركات العملاقة في الولايات المتّحدة، غير أن قانون الربحية الذي وضعه ماركس لا يزال صالحاً لتفسير عملية مراكمة رأس المال. فالريوع التي تحصل عليها القلّة تخصم من الأرباح التي تحقّقها الكثرة. والقوى الاحتكارية تعيد توزيع الربح على نفسها على شكل ريع، ولكنها لا تحقّق الربح. ولكن الأرباح ليست نتيجة درجة الاحتكار أو السعي إلى الريع، كما تحاجج النظريات النيوكلاسيكية والكينزية والكاليكيّة، بل نتيجة استغلال العمالة. إضافة إلى ذلك، لا تتجاوز الريوع 20% من القيمة المضافة في أي من الاقتصادات الكبرى، والأرباح المالية أدنى من ذلك حتى. كما أن صعود الريعية في الفترة الأخيرة هو بالفعل عامل معاكس لتراجع ربحية رأس المال المنتج.
ثمّة تعريف آخر صائب للاقتصاد الريعي يقوم على تفسير ماركس لتقسيم فائض القيمة إلى أرباح وريع وفوائد. فهناك اقتصادات وطنية حيث القطاع الرأسمالي يستحوذ على معظم فائض القيمة على شكل فوائد وحصص وأرباح من خلال خدمات مثل التمويل والتأمين وما يسمّى خدمات الشركات. ومن بين هذه الاقتصادات الريعية بريطانيا وسويسرا، والاثنتان تعتمدان على الريع أكثر من ألمانيا أو اليابان أو حتّى الولايات المتحدة حيث الاستحواذ على فائض القيمة لا يزال يحصل بشكل رئيسي عبر الاستغلال المباشر للقوّة العاملة (على المستوى المحلّي وفي الخارج). وكما قال الناطق باسم مدينة لندن مؤخّراً «لندن هي عاصمة رأس المال». فلندن تمدّ الاقتصاد البريطاني بتدفّق مهمّ من الدخل عبر الخدمات المالية التي تبيعها والفوائد البنكية والأرباح وخدمات الأعمال. ويسهم القطاع المالي البريطاني والقطاع العقاري أيضاً (النخبة الحاكمة تريد أن تعيش في لندن) وغيرهما بنسبة أكبر بكثير من الناتج المحلّي وتدفّقات الدخل العابرة للحدود في ميزان المدفوعات مقارنة بمعظم الاقتصادات الكبرى.
مكّنت «الأموَلة» القطاعات الاحتكارية من خلق أرباحها الخاصّة، ولو كانت غالباً وهمية، والتسبّب في أزمات مالية


بدوره طوّر توني نورفيلد مؤشّر القوة للاقتصادات الإمبريالية والذي تتصدّره الولايات المتّحدة ولكن تليها المملكة المتّحدة. ولكن إذا أقصينا الجيش والناتج المحلّي من المؤشّر، تكون بريطانيا متقدّمة كثيراً كاقتصاد ريعي (على الأقل بالقيمة المطلقة للدولار). وقد أجريت تحليلاً صغيراً من أرقام منظّمة التجارة العالمية حول صادرات الخدمات التجارية لدول مختلفة. فيمكنكم إذا أردتم اعتبار تصدير الخدمات المالية والتأمينية وغيرها من الخدمات التجارية وكذلك الرسوم المحصّلة مقياساً لصادرات الرّيع. بناءً على ذلك، بلغ إجمالي الصادرات الريعية العالمية تريليوني دولار في عام 2013. وحصلت الولايات المتّحدة على دخل من الصادرات بقيمة 365 مليار دولار، أي 18% من الدخل الريعي العالمي؛ وحصلت المملكة المتّحدة على 180 مليار دولار أي 9% في حين حصلت اليابان على 78 مليار دولار أي 4%، ولم يكن لدى ألمانيا دخل ريعي عابر للحدود على الإطلاق. وفي عام 2013، بلغ الناتج المحلّي الإجمالي الأميركي 16.7 تريليون دولار، والبريطاني 2.7 تريليون دولار. وهكذا تكون المملكة المتّحدة حصلت على دخل من الصادرات الريعية يعادل 7% من ناتجها المحلّي الإجمالي، بينما حصلت الولايات المتّحدة على 2% فقط من ناتجها المحلّي الإجمالي من الصادرات الريعية. بهذا المعنى، يمكننا الحديث عن اقتصاد ريعي وعن بريطانيا كواجهة له. ولكن ذلك يجعلها عرضة بشكل خاصّ للأزمات المالية.

الرأسمالية السيّئة في مواجهة الرأسمالية الجيّدة
يشير جوزيف ستيغليتز ومارتن وولف إلى أنّ الخلل الذي وقع في الرأسمالية هو أنّ الأمولة والمصالح الريعية الاحتكارية دمّرت خصائصها التقدّمية، لا سيّما قدرتها على توسيع قوى الإنتاج بشكل متناسق. وبتعبير وولف: «نحتاج إلى اقتصاد رأسمالي ديناميكي يمنح الجميع إيماناً مبرّراً بأنهم سيتحصّلون على حصص من المنافع. ولكن ما يبدو أننا نملكه بدلاً من ذلك هو اقتصاد ريعي غير مستقرّ ومنافسة ضعيفة وإنتاجية قليلة النموّ وتفاوت مرتفع، وليس من قبيل الصدفة: ديموقراطية متدهورة. وتسوية ذلك هو تحدّ لنا جميعاً، ولكن بشكل خاص بالنسبة إلى أولئك الذين يديرون أهمّ الشركات في العالم. يجب تغيير الطريقة التي تعمل بها أنظمتنا الاقتصادية والسياسية وإلّا فستواجه الهلاك».

يُجبر «الرأسماليون المنتجون»، كمستحوذين على فائض القيمة من استغلال العمّالة، على مشاركة بعض هذا الفائض مع أصحاب موارد غير مُنتَجة


ولكن البروفيسور جيروم روس أشار بشكل صائب في المجلة اليسارية البريطانية «نيو ستايتسمان» إلى أنّه «من خلال وضع الرأسمالية السيّئة للريعية غير المُنتجة في مواجهة الرأسمالية الجيدة للمؤسّسة المُنتجة، يتجاهل الخطاب الليبرالي التقليدي حقيقة أنّ الإثنتين متشابكتين. يقوم مثل هذا التفكير على نسخة مثالية ولكن نظرية تماماً لرأسمالية نقيّة وغير فاسدة وحميدة أكثر ممّا هي عليه أو ممّا كانت على الإطلاق أو ممّا قد تصبح عليه. والحقيقة هي أنّ تركيز الثروة والسلطة في أيدي قلّة من المحظيين الساعين وراء الريع ليس انحرافاً عن المنافسة الرأسمالية، بل هو نتيجة منطقية ومنظّمة لها. من الناحية النظرية، يمكننا التمييز بين الشخص غير المُنتج الذي يحقّق الريع والرأسمالي المُنتج. ولكن لا يوجد ما يمنع رجل الأعمال المُنتج الذي يفترض أنه يتمتّع بالمسؤولية من أن يصبح مالكاً غائباً أو مساهماً عن بُعد، وهذا ما يحدث غالباً. فالطبقة الساعية وراء الريع ليست انحرافاً بل تكرار سائد يميل إلى مواكبة فترات التدهور الاقتصادي المطوّلة (برأيي)».
في الماضي، نشرت في مدوّنتي أدلّة واقعية مهمّة على أنّ المفتاح لفهم الاتجاه في الاستثمار المُنتج يبقى في الربحية الكامنة لرأس المال وليس في استخراج الريع على يد بعض قادة السوق كما يعتبر وولف وآخرون. إن صحّ ذلك، فإن الحل الكينزي التقليدي لتنظيم السوق و/أو كسر الاحتكارات (حتى لو كان ممكناً سياسياً) لن يحلّ الأزمات المنتظمة والمتكرّرة في الإنتاج والاستثمار أو توقّف التفاوت المتنامي في الثروة والدخل.

* Michael Roberts Blog
* ترجمة: لمياء الساحلي