ما هو دور الإعلام في الاحتجاجات الأميركية؟ ينقسم الإعلام في الولايات المتحدة إلى قسمين: إعلام الشركات أو المهيمن (mainstream corporate media)، والإعلام البديل (alternative media) أو الموازي. الأول تملكه الشركات بينما الثاني مملوك من الجمهور العريض سواء كان منظّماً أو مستقلاً وهو يشبه إلى حد كبير وسائل التواصل الاجتماعي. والإعلام الموازي مليء بالمواقع الالكترونية والمدوّنات الصوتية أو المرئية (podcast) والصحف الإلكترونية وما يمكن أن يصدر عبر الانترنت.كان واضحاً في الإعلام الأميركي وتغطيته للاحتجاجات، تغييب البعد الاجتماعي والاقتصادي للاحتجاجات. حتى في موضوع العنصرية اكتفت هذه الوسائل بالتنديد من دون مقاربة جدّية عن جذورها التاريخية وأثرها على سلوك المجتمع الأميركي. ربما مقاربة الجذور تُحرج النخب الحاكمة والشركات التي نمت على أنقاض الشعوب الأصلية التي جرت إبادتها والثقافة الدينية العنصرية التي دمغت النخب الحاكمة، وعلى استيراد الرقيق من أفريقيا. الاحتجاجات في وعي هذه الشركات، هي فرصة لمزيد من الثراء، واستمرارها برعايتها قد يصيب عصفورين بحجر واحد؛ السيطرة على السردية وعدم تخطّي الخطوط الحمراء، والاستفادة المادية بطرق متعدّدة منها تلميع صورتها الاجتماعية عبر الدعم اللفظي للاحتجاجات ومنها الاستفادة المباشرة من التخريب الذي سيليه «إعمار» و«برامج اجتماعية» تحتاج إلى استثمارات مدعومة. هذه هي نظرية «رأسمالية الصدمة» (shock capitalism) التي أطلقتها نعومي كلاين.
في سياق تطوّر مسار الاحتجاجات، برزت ظاهرة عند النخب الحاكمة متصلة بالتعرض للرموز التاريخية لملكية الرقيق من دون أن ترد كلمة واحدة تندّد بإبادة الشعوب الأصلية. سبق أن برزت ظواهر مماثلة في القرن التاسع عشر إثر خلع تماثيل القيادات العسكرية والسياسية لدول الكونفدرالية في الحرب الأهلية الأميركية. يومها أُنزلت أعلام الكونفدرالية من الولايات الجنوبية التي اشتركت في الحرب الأهلية، إلا أن الأمر لم يقف عند هذا الحدّ، بل امتدّ ليشمل حقبة تأسيس الولايات المتحدة والتنديد بالرموز المؤسّسة للولايات المتحدة كجورج واشنطن وتوماس جيفرسون بحجة ملكيتهما للرقيق. كذلك نَمَت دعوات لمراجعة كل ما نتج من فكر وعمل الآباء المؤسسين لجهة المؤسسات التي كوّنت الولايات المتحدة على أساس تلوّثها بحقبة الاستعباد والرقيق.
هذه الرؤية التي تبنّاها بعض المحتجّين لم تأخذ في الاعتبار التراكم التاريخي والتغيّر في الظروف والمفاهيم والقيم. لذا يصعب تقييم حقبات تاريخية سابقة بمعايير اليوم. كما أن الثغرات الأخلاقية التي وقعت بها البلاد في مرحلة ما قد تتحوّل إلى حوافز للتعلّم من الأخطاء، لأن الحفاظ على الذاكرة ضرورة للحاضر كما للمستقبل. في المحصلة، ثمة شيء انكسر وتغيّر في أميركا.
اللافت في هذا الإعلام هو تلازم جائحة «كورونا» وإجراءات مكافحتها التي أدّت إلى إيقاف العجلة الاقتصادي، مع الحركة الاحتجاجية ضد العنصرية من ربط تداعيات كورونا الاقتصادية والاجتماعية بالاحتجاجات. هذا الأمر ليس غريباً على الإعلام الشركاتي المهيمن، الذي طالما حرص على تجنّب ما قد يثير أي جدل أو مراجعة في بنية النظام الاقتصادي والسياسي وخصوصاً لجهة الفجوات الاقتصادية بين مكوّنات الشعب الأميركي. يكتفي هذا الإعلام بالتركيز على البعد الثقافي للاحتجاجات تجنّباً للبحث في البُعد الطبقي. حتى علم الاجتماع في الجامعات الأميركية، ينظر إلى المجتمع كالحشرات من دون الإشارة إلى البعد الاقتصادي والسياسي. حتى الاقتصاد لم يعد يُدرّس كاقتصاد سياسي بل كاقتصاد مبني على المعادلات الرياضية المعقّدة والنماذج الاقتصادية القياسية (econometrics) من دون الأخذ في الاعتبار أنه يصعب تجسيد سلوك الناس والبيئة والرموز الثقافية التي تتفاعل معها، بمعادلات رياضية.
الإعلام الشركاتي المهيمن الذي تملكه ست شركات عملاقة لا يمكنه أن يتحدّى ركائز النظام الاقتصادي. فالمقاربات الجدّية غير موجودة في ذلك الإعلام بينما المقاربات الأكثر جدّية توجد في الإعلام الموازي. هناك تقارير عدّة تفيد بأن وسائل الإعلام المهيمن لم تكن صديقة للحركات الاحتجاجية في مطالبها الاقتصادية والاجتماعية، بل ركّزت على «التخريب» الذي نتج عن الاحتجاجات، كما حصل عند تغطية حركة «احتلال وال ستريت» وحركة «الواحد بالمائة» منذ 10 سنوات. ففي 24 حزيران 2020 أعدّت كندرا بيار لويس على موقع «نيمان لاب» تقريراً عن الإعلام المهيمن الذي يقف دائماً مع الأمر الواقع ولا يدفع نحو التغيير.
هناك تقارير عدّة تفيد بأن وسائل الإعلام المهيمن لم تكن صديقة للحركات الاحتجاجية في مطالبها الاقتصادية والاجتماعية، بل ركّزت على «التخريب» الذي نتج عن الاحتجاجات


الإعلام المهيمن الشركاتي في بعده المرئي يركّز على الإثارة سواء عبر نقل المواجهات بين الشرطة والمحتجين أو على حرق الأبنية وأعمال الشغب. الصورة هي الوسيلة الأكثر تأثيراً في الوعي الأميركي، لأن نمط حياته لا يسمح له بالقراءة والتفكير. يتسم المجتمع الأميركي بالحذر من الفكر (anti-intellectual)، وبالتالي الخطاب الشعبوي يستهوي شرائح واسعة منه. لذا نجح ترامب في استقطاب شرائح البيض الغاضبة من واقعها الاقتصادي الذي تمّ تحميل مسؤوليته للأقلّيات الملوّنة التي تزاحمها في لقمة العيش والخدمات الاجتماعية. ففي زمن البحبوحة الاقتصادية لم تكن تلك الأمور تحصل على أهمية في الخطاب السياسي، لكن في زمن القلّة يصبح الموضوع الأساسي كما يقال في المثل العام: «القلّة بتولّد النقار»!
أمر آخر لافت في التغطية الإعلامية للإعلام الشركاتي المهيمن؛ الانتقائية في التركيز على رموز الاستعباد للأفارقة. لم يخش الإعلام الإشارة إلى الآباء المؤسسين للدولة الأميركية كواشنطن وجيفرسون (مثلاً)، لكنه لم يدل بإشارة واحدة إلى كبار مستوردي الرقيق كيهوذا بنيامين (Judah Benjamin) في القرن التاسع عشر. كما أن ضريحه لم يتعرّض لأي هجوم وتخريب بينما تماثيل رموز الولايات المتحدة تمّ تشويهها أو حرقها أو تنزيلها. فهل انتماؤه إلى الديانة اليهودية خط أحمر في ذلك الإعلام كما أشار المحلّل فيليب جيرالدي في موقع «أونز ريفيو»؟
من ضمن الشعارات التي رفعتها بعض الفئات المحتجّة في التظاهرات ضد العنصرية «تقويض الشرطة» وحتى «عدم تمويل الشرطة» (defund the police). الإعلام المهيمن نقل تلك الهتافات والشعارات كأنه يؤيّدها، ما يعيد طرح السؤال عما إذا كان المقصود خصخصة الأمن عبر الشركات الأمنية الخاصة؟ هذا هدف يُسعد الشركات الكبرى التي تريد نظاماً أمنياً يعمل لحسابها فقط لا غير وغير خاضع لاعتبارات كالعدل وحماية المواطنين...
في المقابل، يحتوي الإعلام الموازي على مروحة واسعة من المواقف من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار. مروحة تنطوي على مقاربات جديّة لقضايا العنصرية في الولايات المتحدة. لكن هذا الإعلام لا يؤيّد بالمطلق الاحتجاجات، بل يأخذ عليها عدم جدّية الشعارات المرفوعة بلا برامج أو أهداف محدّدة، ما يثير الاستغراب لجهة ارتباط رموز الحراك بأجندات سياسية وخصوصاً بالشركات الكبرى ومراكز الضغط. لعلّ حركة «ب أم أل» حصلت على النصيب الأكبر من النقد بسبب ارتباطاتها بمؤسسة «فورد» والتمويل الذي نالته من مؤسسات جورج سوروس ومن شركات كبرى مثل «نايك» للملبوسات الرياضية مثلاً.

* كاتب وباحث اقتصادي سياسي والأمين العام السابق للمؤتمر القومي العربي



حاول الرئيس الأميركي زجّ المؤسسة العسكرية في الحراك لقمع التظاهر والتلويح بأحكام عرفية. غير أن إرباكاً كبيراً طرأ على قيادة هذه المؤسسة من وزير الدفاع إلى رئيس هيئة الأركان المشتركة. في المرحلة الأولى وافقت القيادة على أوامر الرئيس، ثم بدأ التراجع من وزير الدفاع ثم تلاه رئيس هيئة الأركان. لم تتضح حتى الآن تفاصيل تقلبات الموقف ومَن وراءها، إلا أنه بات واضحاً بأن المؤسسة العسكرية منقسمة بين مؤيّد ومتحفّظ تجاه أوامر البيت الأبيض الذي تراجع بدوره حفظاً لماء وجه المؤسسة العسكرية وجنّبها ظاهرة التمرّد البالغة الخطورة. الجدال لم يحسم بعد وستكون الفترة المقبلة حبلى بالتطوّرات الخطيرة التي قد تزجّ المؤسسة العسكرية في الصراع القائم.
وتحظى الولايات بقوّاتها الذاتية الرديفة لقوّات الجيش الأميركي، وهي الحرس الوطني الذي يشبه مؤسسة الدرك في لبنان ولكن بسلاح أكثر تطوّراً بما في ذلك طيرانه الحربي. الرئيس بوش الابن نفّذ «خدمته العسكرية» في ذلك السلاح تجنّباً للتجنيد في حرب فيتنام! فالحرس الوطني لا يحارب بل هو قوّة احتياط للشرطة في الولايات لحفظ الأمن في حال وقوع كوارث طبيعية أو حوادث شغب لا تستطيع أجهزة الشرطة مواجهتها. بعض الولايات لجأت إلى الحرس الوطني لكن لم تُعمّم تلك الإجراءات في جميع الولايات.
* الإعلام المهيمن، أي الصحف والمجلات الكبيرة، ومحطات التلفزيون والراديو وحتى استديوهات السينما مملوكة بنسبة 90% أو أكثر، من خمس شركات هي: تايم وارنر، فياكوم، نيوزكورب التي يملكها روبرت مردوخ، ديزني وكومكاست. وهناك خمس صحف كبرى خارج هذه المجموعة هي: نيويورك تايمز، واشنطن بوس، شيكاغو تريبون، لوس انجلس تايمز، وسان فرانسيسكو كرونيكل. وتضاف إلى هذه اللائحة مجموعة ردستون التي تملك ألعاب الفيديو أو تسيطر عليها.
وهذا القسم من الإعلام قام بتغطية الاحتجاجات منذ اللحظات الأولى وشجّع على التظاهر من أجل السيطرة على السردية التي تلازم الاحتجاج، وتوظيف هذه الاحتجاجات في الحملة القائمة ضدّ الرئيس الأميركي دونالد ترامب منذ اللحظات التي تلت انتخابه.
* تنقسم فئة الإعلام المهيمن إلى قسمين: قسم يدعم التظاهرات الاحتجاجية وتوظيفها ضد الإدارة الأميركية، وقسم ثان يندّد بالتظاهرات وبالعنف وبأعمال الشغب التي تدمّر الممتلكات وتعتدي على المواطنين. القسم الأول يمكن تسميته بالإعلام الليبرالي ورمزه محطّة سي أن أن، بينما الثاني هو الإعلام المحافظ ورمزه محطّة فوكس. إلا أنه تاريخياً تجمع بين هذين القسمين قواسم مشتركة تصبّ في تهميش القضايا الجوهرية التي تهمّ الأميركيين، وترويج سرديّة موازية تحوّل الانتباه إلى قضايا أكثر إثارة من دون أن تمسّ بجوهر بنية النظام. لذا لم يغطّ الإعلام المهيمن البعد الطبقي والاجتماعي للحركة الاحتجاجية إلاّ بمقدار ما كان ممكناً لتوظيفه لخدمة الأجندات السياسية. فعلى سبيل المثال كان التركيز في الإعلام الليبرالي على هجوم رجال الشرطة على المحتجّين، بينما ركّز الإعلام المحافظ على الخراب الناتج عن الاحتجاجات. والإعلام الليبرالي روّج لسردية العنصرية المتفشّية في أجهزة قوى الأمن وربطها بتصريحات الرئيس ترامب التي تؤجّج النعرات الطائفية، بينما الإعلام المحافظ ربط أعمال العنف بالجريمة والحركات اليسارية المتطرّفة. الإعلام الليبرالي لم يشر إلى تواطؤ بعض المسؤولين الأمنيين في حرق الأبنية بينما الإعلام اليميني ركّز عليها، لذا ليست هناك صورة واحدة في تغطية الاحتجاجات.