ضمن سياق تفكّك الامبراطورية المغولية في القرن الرابع عشر، أسقطت سلالة «مينغ» في عام 1368 الحكم المغولي في الصين. ومع انقطاع الصين عن الممرات الشمالية لطريق الحرير، وجّهت امبراطورية «مينغ» الفتيّة اهتمامها نحو الممرات البحرية التي تربط الصين بالمحيط الهندي، حيث أطلق ثالث أباطرتها برنامجاً للاستكشاف البحري بين عامي 1405 و1433. وتألّف البرنامج من سبع بعثات بقيادة «تشنغ خه»، فكانت الهدايا توزّع على الحكّام المحليين في كل مرفأ تحطّ فيه، لتظهر «عظمة الصين» وتثبّت مواطئ قدم في المجتمعات المحليّة. ووصل الصينيون إلى المرافئ التي كانت تشكّل البنية التحتية للجزء البحري من الممرات الجنوبية لطريق الحرير. كما وصلت الأساطيل الصينية إلى مقديشو في شرق القارة الأفريقية. لكن بعد البعثة السابعة قرّر الإمبراطور الرابع التوقّف عن الاستكشاف البحري بسبب صراعات سياسيّة داخلية ضمن الطبقات الحاكمة. ما فعلته الامبراطورية من خلال هذه البعثات كان محاولة لاستمرار تحكّم الصين في طرق التجارة التي تضمن تدفقّ سلعها إلى «منظومات عالمية» أخرى.
ما هي «المنظومات العالمية»؟
لنفهم انهيار امبراطوريات العالم القديم المزدهرة المتزامن مع صعود الهيمنة الغربية المطلقة على العالم، يجب أن نلجأ إلى أسلوب تحليل «المنظومات العالمية». ففي بداية السبعينيات، طوّر إيمانويل والرشتاين أسلوباً تحليلياً، أطلق عليه اسم «المنظومات العالمية»، وسرعان ما صبّت أفكار سمير أمين، وجيوفاني أريغي، وأندريه غوندر فرانك، في الاتجاه نفسه.
اعتمد والرشتاين، في أسلوبه التحليلي، على «المنظومة العالمية» كوحدة تحليل موحّدة يستطيع من خلالها شرح التغيّرات التي تحصل في الدول ذات السيادة، من خلال تطوّر «المنظومة» وتواصلها مع غيرها من «المنظومات». وهنا تصبح الدول ذات السيادة، التي تنتمي إلى المنظومة نفسها، نوعاً واحداً من الهيكل التنظيمي نفسه داخل النظام الاجتماعي الواحد، بحسب ما قاله والرشتاين في كتابه «المنظومة العالمية المعاصرة». فالمنظومة نظام اجتماعي له حدود وهياكل ومجموعات أعضاء وقواعد تشريعية ومدّيات تماسك. وتدفع حركته القوى المتصارعة التي تحافظ على وحدتها عن طريق الصراعات التي تسعى من خلالها كل مجموعة لإعادة تشكيل المنظومة لصالحها. وللمنظومة عمر تتغير خلاله بعض خصائصها، فيمكن تحديد قوة أو ضعف هياكلها بناء للمنطق الداخلي لعملها.

ريبيل بيبر ــ الصين

وهنالك نوعان من «المنظومات العالمية»: «الاقتصاد العالمي» و«إمبراطورية عالمية». والامبراطورية العالمية (مثلاً الإمبراطورية الرومانية وسلالة «هان» في الصين اللتين تزامنتا) عبارة عن هيكل بيروقراطي كبير له مركز سياسي واحد وتقسيم محوري للعمل، وتصاحبه ثقافات متعددة. أمّا «الاقتصاد العالمي» فهو بالأساس تقسيم محوري كبير للعمل تتشكّل حوله مراكز سياسية متعدّدة لها ثقافات متعددة.
وتنقسم الدول ذات السيادة، ضمن «المنظومة العالمية» الواحدة، إلى ثلاثة أقسام: الدول المركزية (المتقدّمة)، والدول شبه الهامشية والدول الهامشية. وتصنيف الدول يتمّ من خلال تقسيم العمل العابر للحدود ضمن المنظومة الواحدة. فدول الهامش تؤمّن العمالة الرخيصة والمواد الأولية لدول المركز التي تستفيد من أرباح عالية من القيمة المضافة على السلع الاستهلاكية. أما الدول شبه الهامشية، فهي تشبه «الطبقة الوسطى» في المنظومة العالمية، وتكسر حدّة الاستقطاب في توزيع رأس المال بين دخل مرتفع في المركز (لعدد سكان قليل) وآخر شديد الانخفاض في الهامش (بأعداد سكان ضخمة).
وتستفيد الدول شبه الهامشية من اليد العاملة الرخيصة والمواد الأولية من الهامش، وكذلك تحقق الأرباح من السلع الاستهلاكية المرسلة إليه، إلاّ أن علاقتها مع المركز تتضمّن استفادة الأخير من اليد العاملة الرخيصة والمواد الأولية في الدول شبه الهامشية واستفادة المركز من الأرباح المترتبة على تصدير السلع الاستهلاكية.
يتبنى والرشتاين تحديد فيرناند بروديل لحدود «الاقتصاد العالمي» بالمسافة التي تقطعها البضائع خلال 60 يوماً، بما تتيحه تكنولوجيا النقل. ويضيف أنّ هذا القيد استمرّ مع بداية تشكل الاقتصاد العالمي المعاصر في القرن السادس عشر، حيث كان هنالك أكثر من «منظومة عالمية» واحدة، من ضمنها منظومة العالم الأوروبية. غير أن هذه الأخيرة، سبقت، مع الوقت، منظومة عالم شرق المتوسط (دولها المركزية إيران والامبراطورية العثمانية) ومنظومة عالم الهند الكبرى ومنظومة عالم الصين، واستوعبتها تحت عباءتها، ليتحوّل الغرب الأوروبي إلى منظومة عالمية موحّدة على شكل اقتصاد عالمي رأسمالي مهيمن ولا منافس لها.

الصين: الازدهار والسقوط
بين كل المنظومات العالمية التي ابتلعتها منظومة الغرب، كانت منظومة الصين الأهمّ، لأنّ حجم اقتصادها كان كبيراً جداً، ومسار تطوّرها الاقتصادي كان موازياً لذلك الأوروبي. وفي بحثه «الصين الإمبراطورية وأوروبا الرأسمالية في الاقتصاد العالمي في القرن الثامن عشر»، يوضّح هو فونغ هونغ نهضة التجارة البحرية والتجارة الداخلية في الصين منذ القرن السادس عشر، عندما عكست امبراطورية «مينغ» سياسات الانعزال البحري. وأدّى الطلب الهائل على الحرير والسيراميك الصيني في السوق العالمية إلى تحويل الصين إلى «بالوعة فضة»، تستقطب معظم العملات من الفضّة المستخرجة من الأميركيتين. وبسبب حجم التدفق الهائل للفضّة، استبدلت الصين عملاتها من النحاس والورق بالعملات الفضيّة في معاملاتها الرسمية وجباية الضرائب في منتصف القرن السابع عشر.
واستمر هذا التطور الاقتصادي حتى تشكّلت في الصين في القرن الثامن عشر بيئة اجتماعية وسياسية مستقرة شجّعت على تراكم الثروة الناتجة عن التدفق الاستثنائي للفضة الأميركية. وانبثق من هذا التراكم تحوّل اقتصادي كامل، فظهرت سوق وطنية متكاملة. وبدأت تتضّح علامات تقسيم العمل بين الهامش والمركز الصينيين. وشابه هذا التحول الاجتماعي والاقتصادي ما حصل في أوروبا وتزامن معه، إلا أنه نما وتطوّر في إطار سياسي وبيئة جغرافية سياسية مختلفة عن أوروباً كثيراً. وتطوّرت الصين إلى ثلاث مناطق اقتصادية رئيسية قبل القرن التاسع عشر: المنطقة المتقدمة في شرق الصين، المنطقة النامية في وسط الصين، والمنطقة المتخلفة في الغرب. وكانت العلاقات بين هذه المناطق الثلاث تشبه العلاقات بين الدول المتقدمة والنامية والمتخلفة في أوائل القرن العشرين. وهنا يمكننا أن نلاحظ شكل المنظومة العالمية الصينية.
وبينما كان الطلب الانكليزي على البضائع الصينية في تزايد مطّرد، لم تكن الصين تستورد الكثير من السلع الأوروبيّة، لكن ازداد الاعتماد الصيني على الفضة الغربية. فظهر اختلال رهيب في الميزان التجاري بين الصين والأوروبيين (بالأخص الانكليز وهم كانوا الموردين الأساسيين للبضائع الصينية إلى الغرب). والسبب الرئيسي لهذا الاختلال كان ممانعة الدولة في الصين إدخال الغرب إلى الأسواق الصينية.
ويشرح هونغ أن صين سلالة «تشينغ» طبّقت سياسة «المرفأ الواحد». فكان يُسمح للتجار الغربيين بالتجارة عن طريق مرفأ مدينة قوانغتشو فقط. حتى إن التجار كانوا ممنوعين من دخول المدينة، وكانوا يتبادلون البضائع في مراكز إقامتهم المحدّدة خارجها. وهنا استغلت الصين ما يسمّيه والرشتاين «الجهل». هذا كان أساس التجارة بين المنظومة العالمية الأوروبية والمنظومات التاريخية الأخرى التي تعايش بعضها خارج البعض الآخر. فالأوروبيون لم يكونوا على علم بكلفة إنتاج الواردات من خارج منظومتهم العالمية، فتتخلّص مراكز المنظومات العالمية الأخرى من السلع ذات القيمة المنخفضة اجتماعياً بأسعار أعلى بكثير من تلك التي يمكن الحصول عليها في الداخل. وكلّما كانت التجارة الأوروبية تتوسع، كان «الجهل» يختفي تدريجياً، لذا كان التجار الأوروبيون متحمّسين لكسر حاجز «الجهل» ودمج الساحات الخارجية ضمن عمليات القيمة المضافة الخاصة بهم. في المقابل كانت الصين تعتمد سياسة «المرفأ الواحد» كحاجز احتكاريّ ضد الدمج وكآلية سياسية تحمي بها «الجهل». ولكن هذه الآليات كانت تتطلب التنظيم تعزيز الدور الخارجي للدولة.
ما حصل هو أن التطور الرأسمالي أدّى إلى إضعاف الدولة الإمبراطورية على مدار القرن الثامن عشر، ما مهّد الطريق لتفكك إمبراطورية «تشينغ» في القرن التاسع عشر. كيف ذلك؟ المحرّك الرئيسي كان إغراء التحوّل إلى العملات بالفضّة، بسبب وفرته لدى الأوروبيين. ففي القرن الثامن عشر، أدت الزيادة الهائلة في كمية الفضة المتداولة في الإمبراطورية، إلى تضخم استمر لمدة طويلة، أو ما يعرف بـ«ثورة الأسعار الصينية» (كما حصل في أوروبا قبل قرن). فارتفع مستوى الأسعار في الصين ثلاث إلى أربع مرات، وضرب المناطق المتقدمة اقتصادياً (المراكز) أكثر من المناطق المهمّشة.
لكن ما جعل مسار التطور الاقتصادي للمنظومة العالمية الصينية مختلفاً عن ذلك الأوروبيّ، هو الاختلاف الجوهري بين الأنظمة المالية في الصين وتلك في أوروبا. فعلى النقيض من رد فعل الأوروبيين على التضخّم، وضعت حكومة «تشينغ» نظاماً مالياً أكثر تحفظاً بكثير في القرن الثامن عشر، ولم توسّع الميزانيات،ولم تبحث عن مصادر جديدة للدخل غير ضريبة الأراضي. الاستثناء الوحيد كان إيرادات التجارة من قوانغتشو، وهذه لم تكن أبداً جزءاً رئيسياً من إجمالي دخل الدولة.
كان هذا النظام المالي فعالاً في ضمان الهدوء الاجتماعي، لكنّ ارتفاع التضخم ضاءل قدرة الدولة بسرعة؛ فانكمش الإنفاق الحكومي على الرواتب والمشاريع العامة، وتفاقمت الضائقة المالية للدولة بسبب الضغط السكاني الضخم. وإضافة إلى ذلك، تدنّت قدرة الدولة في الحفاظ على البنية التحتية التجارية، ما أضرّ الاقتصاد الوطني.
ماذا سيحصل إذا استعادت الصين السيطرة على طرق التجارة الخاصة بمنظومتها العالمية سابقاً؟


وفي سياق هذا الضعف المستمر للدولة الصينية، اكتشف البريطانيون السلعة التي ستعيد التوازن إلى الميزان التجاري البريطاني-الصيني، وتعيد تحويل دفق الفضّة إلى الخزائن البريطانية. كانت هذه السلعة الأفيون، كما يقول سويشانغ جاو في ورقة أعدّها بعنوان «إعادة التفكير في النظام العالمي الصيني». وفعلاً، منذ نهاية القرن الثامن عشر استنزف الأفيون الفضّة من خزينة الصين، وسبّب الإدمان عليها أزمات اجتماعية. وحين أغلق الصينيون مرفأ قوانغتشو في وجه تجارة الأفيون ومنعوها، اندلعت حرب الأفيون بين عامي 1839-1842. اكتشفت الصين خلال هذه الحرب مدى تفوّق القوى الأوروبية عليها. وانتهت الحرب إلى استعمار بريطانيّ في هونغ كونغ وفتح المرافئ الصينية الأساسية أمام التجارة البريطانية. وخلال أقل من نصف قرن وقّعت الصين مكرهة معاهدات تضمن لكل القوى الأوروبيّة الكبرى مواطئ قدم في السواحل الصينية، بينما دخل البريطانيون إلى الداخل الصيني.

الحاجز والاقتصاد العالمي الجديد
ومع خسارة الصين لسياسة «المرفأ الواحد» انكسر الحاجز الاحتكاري ضد الدمج لعلمية الانتاج الصيني في التجارة العالمية، ودخلت منظومة العالم الغربي إلى الصين. وتحوّلت الدول الرافدة الهامشية في منظومة العالم الصيني إلى مستعمرات غربية، بينما تحولت الصين إلى دولة هامشية في منظومة العالم الغربي، أو ما بات يُعرف بالاقتصاد العالميّ الموحّد. عملياً، دفعت الصين ثمن سياسات العزلة التي انتهجتها في القرن الخامس عشر، حين قرّرت عكسها وانتهجت الانفتاح. وجدت الأوروبيين يتحكّمون في ممرات التجارة البحرية لطريق الحرير على بوّاباتها الجنوبية. وتضافرت هذه السيطرة مع دفق الفضة الأميركية لتشكّل الباب لسقوط آخر المنظومات العالمية المنافسة لمنظومة العالم الغربي، وأقدرها على منافستها في التطور الرأسمالي.
يبقى اليوم السؤال، ماذا سيحصل إذا استعادت الصين السيطرة على طرق التجارة الخاصة بمنظومتها العالمية سابقاً؟ هل سنكون أمام مركز جديد للنظام العالمي القائم اليوم؟ أم سنشهد نظاماً عالمياً جديداً ينافس ذلك الغربي؟