بينما هي منشغلة بتعزيز «مصداقيتها» وسمعتها، تدفع المصارف المركزية، الاقتصاد العالمي، مرّة أخرى، إلى الركود والاضطراب المالي وأزمات الديون. يعتقد معظم حكام المصارف المركزية أن «المصداقية» أمر مرغوب فيه ويجب تحقيقه من خلال مكافحة التضخم بأي ثمن. ولتبرير سياساتهم الأكثر ضرراً، يحذّرون من أن التضخم «مضرّ». وهم يجادلون بأن المصارف المركزية بحاجة إلى «الاستقلال» عن الحكومات لاتباع سياسات نقدية «ذات مصداقية». من المفترض أن يؤدّي استهداف التضخّم بهدف «تثبيت» توقّعات التضخم، إلى توليد «الثقة» المطلوبة. لكن المصارف المركزية كانت مسؤولة عن العديد من حالات الفشل المكلفة.

في الواقع، أدّى بنك الاحتياطي الفيدرالي الأميركي إلى تعميق الكساد الكبير في الثلاثينيات، والتضخّم المصحوب بركود في السبعينيات، وانكماش أوائل الثمانينيات، إلى جانب المساهمة في الأزمة المالية العالمية في عام 2008. لذا، يجب إعادة النظر في مفاهيم المصارف المركزية حول «المصداقية» و «الاستقلالية».
ألقى ميلتون فريدمان، الذي يقدّره الكثير من محافظي المصارف المركزية، اللوم، في الكساد الكبير في الثلاثينيات على تصرفات مجلس الاحتياطي الفيدرالي وتقاعسه. فبدلاً من توفير السيولة للشركات التي تعاني من مشكلات التدفق النقدي على المدى القصير، ضغط الاحتياطي الفيدرالي على الائتمان والاقتصادات من خلال رفع أسعار الفائدة. لكن لماذا تصرف بنك الاحتياطي الفيدرالي على هذا النحو؟ يصرّ بعض المؤرخين الاقتصاديين على أن الهدف كان «تعزيز مصالح المصارف التجارية، وليس الانتعاش الاقتصادي». إذ تم تصميم السياسة النقدية قبل وأثناء الكساد الكبير «للتسبب في فشل المصارف غير الأعضاء في الاحتياطي الفيدرالي، ما سيعزّز الأرباح على المدى الطويل للمصارف الأعضاء في الاحتياطي الفيدرالي، ويوسّع المجال التنظيمي لهذا الأخير». وخلص آخرون إلى أن «أخطاء الاحتياطي الفيدرالي تُعزى، إلى حدّ كبير، إلى الاستخدام المستمر للسياسات الخاطئة» للدفاع عن «معيار الذهب»، بالإضافة إلى فهم الاحتياطي السيئ للأوضاع النقدية.

البنوك المركزية الانكماشية
الأسوأ من ذلك كله، أنه بعد كل الأخطاء المرتكبة تم تعلم القليل من الدروس. فبدلاً من حماية «معيار الذهب»، أو تطبيق السياسات المضادة لاتجاه الدورة الاقتصادية، أصبحت محاربة التضخّم هي الشغل الشاغل للمصارف المركزية. بل إن معظم المصارف المركزية تلتزم بهدف التضخم الذي يحدّد بشكل تعسفي، بمعدل 2%، وهو المستوى الذي روّج له للمرة الأولى بنك الاحتياطي النيوزيلندي منذ أكثر من ثلاثة عقود.
تسببت التدخلات الرئيسية للمصارف المركزية بالازدهار الاقتصادي في حالات، كما أنها تسبب الفقاعات والانهيارات أو الانكماشات في حالات أخرى، وكان هذا يحدث في كثير من الأحيان من دون قدرتها على الحدّ من التضخم. وتسببت تقلّبات السياسة النقدية «المتقطّعة» هذه، في حدوث فقاعات في أسعار الأصول وهشاشة مالية، إلى جانب الانكماشات الاقتصادية المفاجئة.
وجد فريق بحث تابع لـ بن برنانكي أن الضرر الكبير الناجم عن صدمات أسعار النفط في السبعينيات كان بسبب «تشديد السياسة النقدية»، أي رفع الفوائد. وعزا بحث آخر التضخّم المصحوب بالركود في السبعينيات، إلى السياسة النقدية التي اتّبعها بنك الاحتياطي الفيدرالي، والتي تفاقمت بسبب «المفاهيم الخاطئة» و«العقيدة الخاطئة» لصناع السياسة النقدية. وعليه، «كان بالإمكان تجنب الركود التضخمي الكبير في السبعينيات إلى حد كبير، لو لم يسمح بنك الاحتياطي الفيدرالي بتوسعات نقدية كبيرة في أوائل السبعينيات».

العمال يدفعون الثمن
وبشكل مماثل، رفع رئيس مجلس الاحتياطي الفيدرالي، بول فولكر، أسعار الفائدة بشكل حادّ خلال الفترة 1979-1981 «إلى مستوى غير مسبوق يقارب 20% بحلول منتصف عام 1981». أدت هذه السياسة إلى «الركود الاقتصادي الذي أعقب ذلك، والذي بدأ في يوليو 1981 وأصبح أشدّ ركود منذ الحرب العالمية الثانية». فقد وصلت البطالة الأميركية في ذلك الوقت إلى 11% في أواخر عام 1982، وهي أعلى نسبة منذ الكساد الكبير.
خانت تصرفات فولكر هذه، التفويض المزدوج الذي اتخذه الاحتياطي الفيدرالي باستهداف التوظيف الكامل واستقرار الأسعار. أولاً في قانون التوظيف الذي أقر عام 1946، حيث تمت إعادة تدوينه في قانون «همفري هوكينز» بشأن التوظيف الكامل والنمو المتوازن في عام 1978. وفي نهاية المطاف، أصبح العاطلون من العمل على المدى الطويل «غير مرئيين لسوق العمل وصانعي السياسات». وأصبح الكثير منهم في حالة تأهب لأن آخرين منهم وقعوا ضحية الإجرام وتعاطي المخدرات والأمراض العقلية، وحتى الانتحار. وأصبح وضع الصحة العامة للأميركيين «أكثر فقراً لسنوات نتيجة الركود الاقتصادي العميق في عامي 1981 و1982».

إرسال دول الجنوب العالمي إلى الهلاك
أدّت تصرفات فولكر أيضاً، إلى اندلاع أزمات ديون في البلدان النامية، ما أدّى إلى ضياع عقود على دول أميركا اللاتينية وأفريقيا. حذّرت مقالة افتتاحية حديثة لصحيفة "نيويورك تايمز"، أن «سياسات بويل، محافظ الفيدرالي الأميركي الحالي، لتشديد الأموال في عام 2021، يعادل تحرّك السيد فولكر عام 1981»، وأيضاً «يمكن أن يشبه اقتصاد عشرينيات القرن الحالي فترة الثمانينيات في القرن الماضي». ومع ذلك، وبالاستناد إلى «مصداقية» البنك المركزي، فإن العديد من أصحاب القوة والنفوذ يحثون مجلس الاحتياطي الفيدرالي على التمسك بأسلحته «بشجاعة فولكر لإخراج مضرب البيسبول لإنقاذ الاقتصاد وقتل التضخم»!
واليوم يحذر البنك الدولي من أزمات ديون شديدة في البلدان النامية، في أعقاب فترات الركود الناجمة عن السياسات النقدية الحالية. في غضون ذلك، حذّر صندوق النقد الدولي الاقتصادات النامية التي تعاني من ديون مقومة بالدولار من أزمات وشيكة في أسعار الصرف.

القاعدة الجديدة: السياسة المتقطّعة
لا تزال مناهج سياسة بنك الاحتياطي الفيدرالي الأميركي، وبنك إنكلترا، والبنك المركزي الأوروبي تبرر انعكاسات السياسة النقدية «المتقطعة». كما تظهر فترات الازدهار، أو الفقاعات، والانهيارات الناتجة في الأزمات الأخيرة، على سبيل المثال، الأزمة المالية العالمية في عام 2008.
في أعقاب الأزمة المالية في شرق آسيا عام 1997، وانهيار «فقاعة الدوت كوم»، والأزمة المكسيكية والروسية، «أراح» بنك الاحتياطي الفيدرالي سياسته النقدية، أي خفّض الفائدة، بشكل كبير لفترة طويلة جداً خلال فترة ما يُسمّى بـ«الاعتدال العظيم». وقد ساهمت المصارف المركزية في التوسع الائتماني، أي زيادة القروض المعطاة، في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، وبلغت ذروتها عند الوصول إلى الأزمة المالية عام 2008. وما هو أكثر إثارة للقلق، أن «وجهة النظر شبه الإجماعية» هي أن المصارف المركزية المستقلة فشلت في تحقيق الاستقرار المالي، ناهيك عن حمايته.
أدت سهولة إعطاء القروض، وارتفاع أسواق الأسهم والإسكان إلى زيادة الائتمان والقروض بشكل سريع ما أدى إلى تفاقم فقاعات أسعار الأصول. وأصبح الإشراف التنظيمي متساهلاً بشكل متزايد مع «مطاردة المستثمرين للعوائد». ونمت الرافعة المالية، باستخدام المنتجات «المشتقة» المراوغة، ما جعل التقييم المناسب لمخاطرها أمراً صعباً.
أشار جاي ديبيل، الذي خدم نائباً لمحافظ مصرف أستراليا المركزي، إلى أن «هدف الاستقرار المالي قد تُرك بشكل عام غامضاً». ثم فشلت المصارف المركزية في رؤية التراكم الكبير الذي أدى إلى انعدام الاستقرار المالي». بعد فترة وجيزة، أدّى انهيار بنك «ليمان براذرز» إلى إحداث الأزمة المالية العالمية في عام 2008.

سحر التيسير الكمي: من الفقاعة إلى الكساد
بعد الأزمة المالية سحبت الحكومات حزمات التحفيز المالية قبل الأوان بكثير. ما جعل المصارف المركزية الرئيسية تتّبع بقوة «سياسات نقدية غير تقليدية»، وبخاصة سياسة «التيسير الكمي»، لإبقاء الاقتصادات واقفة على قدميها. وفّر التوسع النقدي غير العادي، الناتج من هذه السياسات، سيولة حيوية، لكن التنسيق الضعيف في الأسواق غذّى أيضاً فقاعات أسعار الأصول. وهكذا، نجت الشركات غير القابلة للاستمرار، ما قوّض نمو الإنتاجية في الاقتصادات. ومع انخفاض الاستثمار في الاقتصاد الحقيقي، تراجعت قدرة العرض عن الطلب المتزايد. ثمّ تسبب الوباء والحرب والعقوبات في تعطيل سلاسل الإمدادات.
والآن، من خلال رفع أسعار الفائدة، تتسابق المصارف المركزية لعكس اتجاه التوسع النقدي في السنوات السابقة. إن تقلصات الائتمان التي تحصل نتيجة ذلك، تضغط على الاقتصادات، وتؤثر بشكل خاص على البلدان الفقيرة.
بمراجعة البيانات التاريخية، خلص مؤلف «قاعدة تايلور»، التي يزعم العديد من المصارف المركزية اتباعها، إلى أن «التفسير الكلاسيكي للأزمات المالية، التي تعود إلى مئات السنين، هو أنها ناجمة عن الفوائض، التي تكون نقدية في كثير من الأحيان، والتي تؤدي إلى طفرة في الاقتصاد ومن ثمّ انهيار لا مفر منهما».

الاستقلالية من أجل ماذا؟
غالباً ما يدّعي مناصرو استقلالية المصارف المركزية أن التضخم المنخفض خلال فترة الاعتدال الكبير كان بسبب مصداقية المصارف المركزية في الأسواق. لكن التضخم في معظم البلدان انخفض منذ منتصف التسعينيات، مع ومن دون استقلالية المصارف المركزية. لقد تمت المبالغة في هذه العلاقة السببية المزعومة، وهي بالتأكيد نظرية ليست متينة كما يُقال. الادعاء بأن استقلالية المصارف المركزية يضمن معدلات تضخم منخفضة، يرفض المتغيرات الأخرى ذات الصلة، على سبيل المثال، سوق العمل غير الرسمي والعولمة.
لاحظ ديبيل أنه «من الصعب فصل مقدار التضخم المنخفض الذي يمكن أن يُعزى إلى استقلالية المصارف المركزية أو أهداف التضخم التي تضعها المصارف المركزية... التقييم الذي يربط بين الاستقلالية وانخفاض معدلات التضخّم، يعتمد في الغالب على الانحياز، بدلاً من الدليل التجريبي».
وجادل ميلتون فريدمان بأن الاستجابات للأزمات تتضمن قرارات سياسية بطبيعتها، ومن الأفضل عدم تركها لغير المنتخبين. تتداخل مسؤوليات المصرف المركزي الحديث مع الوظائف الحكومية الأخرى. لذلك، يجب أن تخضع المصارف المركزية للسلطة السياسية مع الحفاظ على «الاستقلالية التشغيلية».
كما أتاحت النزعة نحو استقلالية المصارف المركزية لمحافظي هذه المصارف أن يتجاهلوا العواقب التوزيعية للسياسات النقدية. وقد أدى ذلك في كثير من الأحيان إلى تمكين مالكي الأصول المالية والمضاربين والدائنين. بالإضافة إلى أن استقلالية المصارف المركزية تعني إهمال مسؤوليات التنمية.
تأكيد استقلالية المصارف المركزية يعني أيضاً «نظرة ضيقة جداً لوظائف المصرف المركزي». وقد جعل هذا الأمر الاقتصادات أكثر عرضة لعدم الاستقرار المالي والأزمات. ومن الواضح أن هذه الاستقلالية ليست «إكسيراً» غير ضار يضمن انخفاض التضخم.

نُشر هذا المقال على موقع networkideas.org
في 19تشرين الأوّل 2022