الاحتكار العالمي الذي تُمثّله شركتا «بوينغ» و«إيرباص» في قطاع صناعة الطائرات يمتدّ إلى عقود. يُعد هذا الاحتكار الثنائي، أحد أكبر الأمثلة على التحكّم الغربي في الأسواق العالمية، إذ تملك الشركتان نحو 99% من السوق التجارية للطائرات الكبيرة التي تُمثّل نحو 90% من الطائرات حول العالم. اكتساح السوق العالمية بُني على خصائص هذه الشركات كأقدميتها وقدرتها المالية، إلا أنه مرتبط عضوياً بخصائص أخرى تتعلّق بتركيبة النظام العالمي، وهو ما يُسهّل توارثهما المعرفة التكنولوجية اللازمة لخفض كلفة الإنتاج وتعزيز الجودة والنوعية.
الأقدمية والمعرفة
في ثمانينيات القرن الماضي، كانت شركة «بوينغ» لا تزال تحتل صدارة إنتاج وبيع الطائرات. صنّفت بأنها واحدة من أفضل الشركات الأميركية وأكثرها إثارة للإعجاب، ويعود ذلك جزئياً إلى أن مبيعاتها من الطائرات التجارية الكبيرة في الخارج كانت أهم وأكبر صادرات أميركا، ولأنها أساساً راكمت معرفة وخبرة خولتها بناء هذه الطائرات بشكل أفضل وأسرع وأرخص مما فعلت أي شركة أخرى.

بالأرقام

150 هو عدد طائرات الـC919 التي تنوي شركة COMAC الصينية أن تصنّعها سنوياً بحلول عام 2028
1,200 هو عدد طلبات التصنيع التي تلقتها شركة COMAC بشأن طائرة C919 ومعظم هذه الطلبات أتت من شركات محلية
99 مليون دولار هو سعر الطائرة الواحدة بحسب تقارير عدة، وهو أقل من سعر طائرة A320neo لشركة «إيرباص» والذي يبلغ نحو 110 ملايين دولار
70 مليار دولار هو حجم الاستثمار الذي ضُخّ في مشروع طائرة C919 مع حلول نهاية 2020

هذه الشركة التي تأسّست في سياتل - واشنطن عام 1916، فازت باحتكار تصنيع الطائرات لزوم حاجات الحكومة الأميركية. باعت الشركة للحكومة الطائرات التي تحتاجها البحرية الأميركية خلال الحرب العالمية الأولى، ثم وسّعت مبيعاتها نحو باقي أقسام الجيش إلى أن استحوذت على خدمات البريد الجوي على مدى عقود. وحتى اليوم، ما زالت الحكومة الأميركية من أهم عملاء الشركة، ففي عام 2018 كانت الشركة ثاني أكبر مورّد للحكومة الأميركية.
عملياً، وجود «بوينغ» في السوق، منذ أكثر من قرن، أعطاها ميزة تفاضلية مقابل أي شركة أخرى، حاولت حجز مكان لها في السوق، أو تمكنت من الدخول إليه. فهي تملك مورد المعرفة في الصناعة، وهذا أمر مهم جداً في صناعة الطائرات. إذ تحتاج صناعة الطائرات إلى معرفة عالية ليتم تصنيعها. صحيح أن الشركة لم تعد تُصنّع جميع قطع الطائرة، وتُلزّم صناعة بعض القطع إلى شركات أخرى، إلا أنها تملك القدرة الكبيرة بسبب مكانتها السياسية. فهذه الشركات ليس بإمكانها منع «بوينغ» ذات العلاقة التاريخية مع الحكومة والجيش والقدرات المالية الهائلة، من الوصول إلى القطع التي تحتاج صناعتها إلى الخبرة و المعرفة. والمعرفة هنا لا تتعلّق فقط بالتكنولوجيا، مثل أنظمة التشغيل والتواصل وغيرهما، بل بالمواد التي تُصنع منها القطع. فمزيج المعادن (alloys) المستخدم في صناعة الطائرات وقطعها والمحركات وغيرها، مهم جداً لجهة نوعيتها، ولحساسية دورها في الأمان الذي تُوفره. أهمية هذه القطع تكمن في قدرتها على تحمّل الحرارة والضغط خلال الرحلات، الطويلة خصوصاً. في المقابل، كان التقدّم التكنولوجي في هذا المجال يُعنى بتخفيف وزن هذه القطع، بهدف خفض الكلفة، وخفض وزن الطائرة مع تحدّي الحفاظ على الصلابة والتحمّل المطلوبين لضمان الأمان في الطائرة. وهذه المزائج المعدنية، بحسب الكاتب روبرت رايش في كتابه «عمل الأمم: إعداد أنفسنا لرأسمالية القرن الحادي والعشرين»، تشتمل على فولاذ ممزوج بالسيليكون أو النيكل أو الكوبالت، لأقراص التوربينات والضاغطات، والفواصل، وموانع التسرب، والمكونات الأخرى التي تتعرض لدرجات الحرارة العالية، التي تُستخدم في الطائرات.
هذا النوع من المعرفة حصلت عليه أيضاً شركة «إيرباص»، بالتوارث من الشركات الغربية.
ورغم أن «إيرباص» دخلت إلى السوق بعد «بوينغ» بنحو خمسة عقود أي في عام 1970، إلا أنها تمكنت من الحصول على المعرفة اللازمة لصناعة وتطوير الطائرات. وكان الدعم الأوروبي من حكومات فرنسا وألمانيا وإيطاليا عاملاً أساسياً في إنشاء الشركة. فقد اتفقت الدول الثلاث على ضرورة التعاون لإنشاء شركة تصنيع طائرات، لمنافسة «بوينغ». أي إن القرار كان سياسياً قبل أن يكون تجارياً. وبالفعل، استطاعت الشركة الأوروبية حجز حصّة لها في أسواق مبيع الطائرات متّبعة سلّماً تصاعدياً، منذ نشأتها، حتى أصبحت حصتها اليوم تتفوّق على حصّة الشركة الأميركية في السوق العالمية. في عام 1990 كانت «بوينغ» تسيطر على مبيعات الطائرات بنسبة 62%، وتلتها شركة «McDonnell Douglas» التي اشترتها «بوينغ» لاحقاً، بنسبة 23%، و«إيرباص» كان لديها حصّة سوقية تبلغ 15% فقط، وذلك بحسب ما ورد في كتاب «بوينغ مقابل إيرباص: القصّة الداخلية لأكبر تنافس دولي في مجال الأعمال» للكاتب جون نيوهاوس. أما في عام 2022، فقد استحوذت شركة «إيرباص» على نحو 58% من السوق، في حين استحوذت شركة «بوينغ» على 42%.

حجم كبير ودعم مالي
في الواقع الاستثماري ثمة ما يدعى «الاحتكار الطبيعي»، وهو شكل من أشكال الاحتكار الذي يصعب كسره، وخصوصاً في القطاعات التي تحتاج إلى أكلاف تأسيس كبيرة. يتعلق الأمر بالاستثمار الأوّلي لتأسيس الشركة، وبالعوائق المادية الكبيرة للدخول إلى القطاع إلى حد يكفي لمنع أي منافس من دخوله. بنتيجة ذلك، يكون في حالة الاحتكار الطبيعي لاعب واحد، أو مجموعة صغيرة من اللاعبين، في السوق. وقد تكون هذه الشركة/ات هي المورّد الوحيد لسلعة أو لخدمة في قطاع أو في منطقة. بشكل عام القطاعات الأكثر عرضة لحصول الاحتكارات الطبيعية فيها، هي تلك التي تعتمد على التكنولوجيا المتخصّصة، من دون الانخراط في أي تكتيكات تجارية «غير أخلاقية» يمكن أن تُقيد المنافسة. ويتطور «الاحتكار الطبيعي» بمرور الوقت نتيجة لظروف السوق.

(أنجل بوليغان ــ المكسيك)

أيضاً، يحدث «الاحتكار الطبيعي» في القطاعات التي يرتفع فيها تأثير «اقتصاديات الحجم». وهو مفهوم تُصبح فيه كلفة الإنتاج أقل، في ظل زيادة الإنتاج وغزارته إلى حد معيّن تعود فيه الكلفة إلى الارتفاع مع زيادة الإنتاج. و«اقتصاديات الحجم» هي أحد العوامل التي تُسهم في منع دخول المنافسين إلى السوق وفي تشكيل الاحتكار الطبيعي لأن خفض الكلفة مع ازدياد حجم الإنتاج يُسهم في خفض الأكلاف على الشركات الكبرى، وبالتالي خفض أسعارها وزيادة تنافسيّتها، وهو ما يدفع بالشركات الجديدة إلى الخروج من السوق.
في الواقع، يتضمن قطاع صناعة الطائرات كل عوامل «الاحتكار الطبيعي». فهو يحتاج إلى معرفة عالية، وفيه تأثير كبير «لاقتصاديات الحجم»، خصوصاً أن الشق البحثي منه يحتاج إلى موارد مالية كبيرة لا يمكن الحصول عليها بسهولة إلا إذا كانت الشركة كبيرة بما يكفي لخوض غمار الاستثمار، أو لديها دعماً لذلك. وهذا العامل الأخير ساهم، بشكل كبير، في سيطرة «بوينغ» و«إيرباص» على السوق لعقود متتالية لأنهما شركتان كبيرتان.
صحيح أن قصّة كل من الشركتين مختلفة، وكذلك الظروف التي حالت دون وصولهما إلى السيطرة واحتكار السوق، إلا أن ما يتشابهان فيه اليوم هو الدعم الحكومي الكبير الذي تتلقاه كل منهما، حتى ولو كان هذا الدعم غير معلن. تستطيع الشركتان اليوم الحفاظ على قدرتيهما التنافسيتين، لأنهما تحظيان بدعم مالي كبير، وهو أمر يسهم في قدرتهما على الاستفادة من «اقتصاديات الحجم».
على سبيل المثال تلّقت «بوينغ» نحو 23.4 مليار دولار من العقود الحكومية مع البنتاغون في عام 2017، أي ما يمثّل ربع صافي إيراداتها تقريباً. وفي النصف الثاني من عام 2018، مُنحت الشركة ثلاثة عقود بمليارات الدولارات لبرامج الطائرات الرئيسية التابعة لوزارة الدفاع، رغم أنها لا تزال متأخرة عن الجدول الزمني لأعمال أخرى. وفي الواقع، تُعدّ «بوينغ» الآن ثاني أكبر متلقٍّ للتمويل الفيدرالي في الولايات المتحدة بعد شركة «لوكهيد مارتن» العسكرية. هذه العقود هي عبارة عن تمويل غير مباشر من قبل الحكومة، وهي تساهم، بشكل أساسي، في استمرار «بوينغ» محتفظة بموقعها على قمّة السوق.







في المقابل، كانت «إيرباص» تحظى بدعم مباشر من قبل الحكومات الأوروبية المعنية، بحسب الاتهامات الأميركية. إذ يقول تقرير «دعم الطائرات الأوروبية: دراسة الممارسات التجارية غير العادلة» الذي نشره معهد «ليكسينغتون»، أن الارتفاع الملحوظ في حصة شركة «إيرباص» تحقّق، إلى حدّ كبير، من خلال استخدام الدعم المقدّم من الحكومات الأوروبية، مشيراً إلى أن «منظمة التجارة العالمية، قرّرت الآن أن بعض هذا الدعم غير قانوني». كما يذكر التقرير أن القيمة التراكمية لهذا الدعم تقترب، على مدى 40 عاماً، من نحو 200 مليار دولار.
هذا الدعم، المباشر وغير المباشر، أخرج شركات أخرى من سوق صناعة الطائرات، مثل شركة «بومباردييه» الكندية، التي لم تتمكن من الحفاظ على عملياتها، وتم قضم قسمها التجاري بشكل أساسي من قبل شركة «إيرباص»، من خلال اتفاقية مشروع مشترك في عام 2018. حيث أبرمت الشركتان صفقة منحت «إيرباص» حصة تزيد قليلاً عن 50% في خط طائرات بومباردييه من نوع «C series». وحتى شركة «إمبرييه» البرازيلية التي كانت على وشك أن تبيع قسمها التجاري لشركة «بوينغ» في عام 2019، إلا أن الصفقة توقفت بسبب انسحاب الشركة الأميركية تخوفاً من تبعات جائحة كورونا التي سيطرت في عام 2020.

المنافس الشرقي موجود
تحتاج منافسة «بوينغ» و«إيرباص» إلى إمكانات هائلة، فالدعم الكبير الذي تتلقاه الشركتان من الحكومات الغربية، يعتبر أكبر عائق أمام الدخول في مجال المنافسة، وكذلك يشكل الحصول على المعرفة اللازمة لمنافسة الشركتين الغربيتين عقبة كبيرة.
لقد كان قطاع صناعة الطائرات محطّ اهتمام الإدارة الصينية، منذ عقود، لأنه يُشكّل جزءاً مهماً من نموّ الاقتصاد الصيني، وقد ازداد حجمه مع ازدياد حجم اقتصاد الدولة الناهضة على مرّ سنوات النهوض.
تصب الجهود الصينية في تحويل قطاعاتها إلى قطاعات مستقلّة تكون سباقة تكنولوجياً


وكانت الصين تستورد طائراتها التجارية أو تقوم بإنتاج جزء منها محلياً، لكن بموجب تراخيص من الشركات الغربية. لكن الدولة عملت بشكل مستمر على إعداد برامج لتطوير القطاع، لتحقيق استقلاليّتها فيه. ومع توصل الصين إلى إنتاج أول طائرة محليّة الصنع، وهو أمر لا يجب الاستهانة به، إلا أن إنتاج هذه الطائرة لا يزال يعتمد في توفير العديد من القطع الأساسية على المورّدين الأجانب. لكن هذا الأمر هو جزء من المسار الطبيعي للتقدّم في أي مجال أو قطاع، خصوصاً في القطاعات التي تحتاج إلى معرفة تقنية وتكنولوجية عالية، فالاستقلالية في هذه المجالات لا تحدث دفعة واحدة، بل تحتاج إلى تطوّر تدريجي، وهذا هو، اليوم، حال قطاع صناعة الطائرات الصيني، وهو أمر مشابه لما تمرّ به الصين في قطاع أشباه الموصلات.
ولأن هذا القطاع يعتمد بشكل كبير على استثمارات كبيرة لتمويل الأبحاث والتصنيع، وهو أحد العوامل التي تُساهم في تحوّل المنافسة في القطاع إلى «الاحتكار الطبيعي». قامت الإدارة الصينية بدعم صناعة الطائرات بكل الطرق. أولاً، تم دمج العديد من شركات صناعة الطيران لتشكيل شركة «كوماك» (COMAC)، وهي شركة مملوكة للدولة تصمم وتصنع الطائرات التجارية في الصين. أما من ناحية التمويل، فقد أدركت الإدارة الصينية أن تطوير طائرة جديدة عملية طويلة ومكلفة، لذلك قامت بتقديم المساعدات المالية وغير المالية للقطاع. وفي عام 2009، خصصت الحكومة الصينية أموالاً لشركة «كوماك» تُقدر بنحو 2.8 مليار دولار، إلى جانب خط ائتمان بقيمة 4.4 مليارات دولار من بنك الاتصالات لبدء العمليات.

عقود «بوينغ» مع البنتاغون بمليارات الدولارات سنوياً فيما أنفقت الحكومات الأوروبية 200 مليار دولار لدعم «إيرباص»


عملياً، تصب الجهود الصينية كلها في تحويل قطاعاتها إلى قطاعات مستقلّة، لا تحتاج إلى التكنولوجيا ولا إلى المعرفة الغربية، بل لتكون سبّاقة فيها، بحيث تصبح الشركات الغربية بحاجة إليها. وقد حدث هذا الأمر في قطاع الاتصالات، وخصوصاً فيما يخصّ تكنولوجيا «5G» التي تمكنت شركة «هواوي» من الوصول إليها قبل كل منافساتها الغربية. وهذا الاستقلال مهم أيضاً في قطاع صناعة الطائرات، إذ يُشكّل عاملاً مهماً لنمو الاقتصاد الصيني. لذلك، لا يمكن الإغفال عن أن خطوة صناعة أول طائرة محليّة في الصين، هي نقطة أساسية في مرحلة التخلّص الصيني من كل أشكال الهيمنة الغربية.