يمكن اعتبار التحوّلات في شكل المُلكية العقارية، إحدى أهمّ الظواهر التي أفرزها الانهيار الاقتصادي في الإقليم. لا يقتصر الأمر على ترافُق هذا التحوُّل، مع بروز طبقة «صاعدة» على حساب أخرى «آفلة» أو مندثرة، بل يتعدّاه إلى شكل العلاقة مع المُلكية عموماً. قبل الحرب، كانت المُلكية بالنسبة إلى الطبقة الوسطى التقليدية، بمثابة شكل من أشكال الاستقرار، والعلاقة «الأزلية» مع المكان. الأفق الذي يمثّله «الاستثمار في العقارات»، بغرض السكن أو الإيجار، أو حتى الادّخار وحفظ الأموال، كان يبدو لانهائياً، مثله مثل العلاقة مع البلد، إذ إن ما يحكمها هو الترسمل الرمزي عبر استثمار صعود الطبقة الوسطى لتعزيز الشرعية الاقتصادية، وحتى السياسية والاجتماعية، للسلطة أو الدولة. الاستفادة لم تكن محصورة بطرفَي العلاقة فحسب، بل كانت تعبيراً عن حالة عامّة، يمكن اعتبارها امتداداً لتلك التي سادت الإقليم في الخمسينيات من القرن الماضي، إبان صعود الثورات التي قادتها البورجوازية الصغيرة، لمصلحة الفئات الشعبية والمتوسّطة.
ارتباط الصعود الطبقي بمضاعَفة الناتج المحلّي
صعود الفئات المتوسّطة كان لا يزال مستمرّاً حينها، ولكن على قاعدة ارتباط الدخل بالناتج المحلّي الإجمالي والعملة الوطنيّة، أي بالعمل المُنتَج داخلياً، ومعه الثروة، لا بالتدفُّقات النقدية الخارجية التي تحوّلت في مرحلة الانهيار الاقتصادي، إلى رافعة بديلة للصعود الطبقي بعد انهيار الروافع الداخلية جميعاً، وعلى رأسها الدخل بالعملة الوطنية.

(أنجل بوليغان ــ المكسيك)

العائلة التي تنتمي إلى الطبقة الوسطى كانت قادرة في ذلك الوقت، على امتلاك أكثر من عقار، فضلاً عن اقتناء سيارة أو أي وسيلة نقل خاصّة أخرى، ولكن ليس بفضل فارق سعر الصرف كما هي الحال الآن، ولا حتى بسبب الادّخار بالعملة الأجنبية أو الذهب. الإنفاق السنوي من الأجور في حينه، أي في الحقبة التي سبقت عام 2011، لم يكن يضاهي بالنسبة إلى هذه الطبقة، معدّل ما ينفقه الأغنياء في شهر واحد. ومع ذلك كان ثمّة رفاهية تجعل حصّة هؤلاء من الناتج المحلّي، متناسبة مع الأسعار ومعدّل التضخُّم، ومتوسّط الدخل نفسه. وهذا يعني أنّ الاقتصاد كان يضمن لممثّلي هذه الشريحة، القدرة على الإنفاق، بوتيرة ثابتة ومستقرّة، تجعل من إنفاق الأغنياء استثناءً، قياساً إلى ما يحصل مع الطبقات الأدنى. وهو ما كان يضمن ليس توزيعاً أكثر عدالةً للثروة فحسب، بل أيضاً حفظاً أكبر للتماسك الاجتماعي الذي تُعدّ الطبقة الوسطى، بشرائحها المختلفة، ركيزته الأساسية. وهنا عودة إلى الناتج المحلّي الذي كان يضمن كلّ ذلك، حيث كان يحقّق قفزاتٍ متتالية، كتعبيرٍ عن تضافُر مجموعةٍ من العوامل الإنتاجية الداخلية، لمصلحة زيادة حصّة هذه الدولة أو تلك، من التبادل التجاري، مع الإقليم والعالم. ثمّة عوامل عديدة ساعَدَت في ذلك الوقت على زيادة الناتج المحلّي، إن لم يكن تضاعُفُه أيضاً، أهمّها انتفاء عامل الهجرة، الذي لم يكن موجوداً إلا في حدود الطموحات الفردية والسفر إلى الخليج للعمل. وبالإضافة إلى ذلك، كانت غالبية قوى الإنتاج والعمل التي هاجرت لاحقاً، تعمل في الداخل، والثروة التي تُنتِجها، سواء في قطاعات الزراعة أو الصناعة أو الخدمات والتجارة، هي حصيلة عمل حقيقي، مرتبط بعوامل الزمن والجغرافيا، في هذه البقعة من الأرض.
هذا كان سبباً أساسياً في تعزيز، ليس فقط عملية التصدير والتوريد إلى الخارج، ومعها تدفُّق العملة الصعبة إلى الخزينة، لتوسيع هامش عملية الإنتاج، بل أيضاً ربط التبادل التجاري الذي يحصل وفقاً لها، باستقرار سعر الصرف تجاه الدولار أو اليورو. وبالتالي حصول كبح تلقائي للتضخّم لإبقاء الأسعار عند عتبة يمكن التحكّم بها دائماً، من دون الحاجة حتى إلى استخدام سياسة أسعار الفائدة، أو سواها من الأدوات النقدية. انعكاسُ ذلك على الاقتصاد كان أبعَد من مجرّد زيادة حصّة الفرد من الناتج المحلّي. فهذا الأخير هو كناية عن مؤشِّر تقني، على ظاهرة سوسيولوجية تتصل باستقرار المجتمع، وارتباط دخل أفراده وإنفاقهم الاستهلاكي، بتمرحل فعلي للطبقات الاجتماعيّة، ولا سيّما بالنسبة إلى الطبقة الوسطى، التي كانت لا تزال تعيش في هذه المرحلة، ذروة صعودها.

صناعة الانتماء عبر المُلكية والإنتاج الرمزي
في هذا السياق، الذي يجعل من الدخل بالعملة الوطنية الرافعة الحصريّة للصعود الطبقي، تبدو المظاهِر المرافِقة لهذا الصعود كأنها تعبير عن الانتماء للبلد أو اقتصاده، أكثر منها عن الرفاهية المنفصلة التي يغرق فيها الأغنياء الجُدُد، أو ما كانوا يسمّون آنذاك «أصحاب الياقات البيضاء». المُلكية هنا، مثلها مثل الدخل المرتبط بالعملة الوطنية، لا تعود امتيازاً طبقياً حصراً، كما هي الحال مع الطبقات الأغنى، بل تأخذ أشكالاً متناسبة أكثر مع هذا النمط من الإنتاج الذي يعبّر عن استمرارية حضور «الدولة الاشتراكية»، أو لِنَقُل هياكلها الباقية، في الاقتصاد، وحتى في السوسيولوجيا والثقافة.
العَقار السكني أو التجاري في هذه الحالة، يتحوّل إلى حيّز، ليس فقط للسكن والعيش أو حتى الادّخار وتحقيق الربح النسبي، بل أساساً لإنتاج العلاقة مع الجغرافيا الاجتماعية، بحيث يغدو نمط الإنتاج القائم على الدخل بالعملة الوطنية هو المدخل أو الإطار للانتماء أكثر إلى المكان أو إلى الحيّز الجغرافي الذي تقع الشقة أو المحلّ التجاري، في إطاره. هذه المعادلة تنسحب على الربح الذي يتحقّق لهذه الطبقة من تأجير الشقق نفسها أو «استثمارها تجارياً». فالربح المتأتّي من عقود الإيجار، والمُضاف إلى الدخل الأساسي الخاصّ بالوظيفة في قطاع عامّ أو خاصّ، لا يُستثمَر في أعمال تجارية رائجة وذات مردود سريع لتحريك رأس المال باستمرار، بل يُنفَق على رفاهية محدودة في الزمان والمكان. وهذه الأشكال من الرفاهيّة لا تتّسم بطابع سياحي أو ترفيهي تقليدي، بل تعبِّر في سياق الصعود الطبقي للفئات الوسطى، أثناء الحقبة الدولتيّة هنا، عن تصوُّرٍ معين لشكل العلاقة مع البلد واجتماعه واقتصاده وثقافته.
أهمّ مظاهر الانهيار هو فقدان القدرة حتى على الاحتفاظ بشكل المُلكية القائم والذي كان في السابق مدخلاً أساسياً لتثبيت الوجود والكينونة

الإنفاق بهذه الطريقة، سواء على السلع أو الخدمات بأشكالهما المختلفة، يساعِد على تثبيت هياكل للهويّة تجعل من الصعب، على أيّ هياكلَ أخرى مجاراتها، حتى لو كانت مساهَمتها أكبرَ في الدخل القومي، وفي تشغيل القوى العاملة، وزيادة حصّة البلاد من التبادل التجاري مع الخارج. الطبقة العاملة لها النصيب الأكبر من هذه الزيادة، ومعها على الطرف المقابل أو النقيض، أصحاب الرساميل، في هياكل الصناعة والتجارة والخدمات. على أنّ مساهمة الطرفين رغم أهميتها القصوى، لا تحمل الرمزية نفسها التي تنطوي عليها نظيرتها الخاصّة بالطبقة الوسطى، حيث الإنتاج هنا لا يقع ضمن النطاق المادّي بل الرمزي. وهو ما يجعله كثيفاً إلى حدٍّ كبير، ولصيقاً، من حيث الحصيلة النهائية، بما يُراد للحقبة نفسها أن تكونه، في سياق استمرار صعود البلد، ومعه طبقته الوسطى، ذات المحمول الرمزي الهائل.

مرحلة الأفول النهائي
ظلّت هذه المعادلة قائمة، حتى حين تحلّلت بنى الدولة الاشتراكية السابقة، على اعتبار أنّ الصعود كان يحمل في طيّاته بذور استمراريّةٍ تتجاوز نمط الإنتاج نفسه، إلى شكل العلاقة مع هياكل الدولة التي تملك من المرونة ما يكفي، للتأقلم مع الانتقال الحاصل من الاشتراكية إلى «رأسمالية الدولة». الشرعية التي أضفاها الاعتراف المتبادل بالوجود، في الحقبة الجديدة، سَمَحَ للطبقة الوسطى بالاستمرار في مزاولة، ليس فقط طقوسِها، أو نسق حياتها، بل أساساً، نمط إنتاجها الرمزيّ. وهو نمط ينطوي على علاقة مع المكان، تتعدّى بكثير شكل المُلكية القائم، إلى أُفُقٍ يجعل من الصكّ التجاري، الذي لا يتجاوز في الأحوال العادية، الإقرار بمُلكية الأرض أو الأصل العقاري، إطاراً أوسع لمعاودة تثبيت الانتماء إلى البلد، واقتصاده واجتماعه وثقافته. على أنّ ديمومة هذه العلاقة لم تكن ذات طابع نهائي، بدليل ما حصل ابتداءً من عام 2011، حين انتقل التحلُّل والتفكُّك، من الهياكِل الدولتية السياسية والعسكرية والاقتصادية، إلى شكل العلاقة نفسِها، بحيث لم يعد ممكناً في ظروف تشهد هذا القدر من الفوضى والانقسام الحادّ، إعادة إنتاج شروط الاعتراف المتبادَل بالشرعية، واستمرارية الوجود. هذا جعَلَ القدرة على التأقلم مجدّداً، مع المتغيّرات، أقلَّ بكثير، ولا سيّما بالنسبة إلى الطرف الذي تمثّله الطبقة الوسطى. فهذه الأخيرة لا تملك من المرونة والأدوات (بخلاف الدولة أو السلطة) ما يكفي، لإعادة بناء العلاقة حين تَدُبُّ الفوضى، وتهتزّ المحدّدات السابقة للاعتراف المتبادل، أو تنهار. وأهمّ مظاهر الانهيار هنا، هو فقدان القدرة، حتى على الاحتفاظ بشكل المُلكية القائم، والذي كان مدخلاً أساسياً لتثبيت الوجود والكينونة، سابقاً. وذلك لمصلحة فئات جديدة عرفت كيف تتأقلم، بسرعة، مع المتغيّرات التي حملتها الحرب والانهيار الاقتصادي، ولكن من دون أن تتحوّل بالضرورة إلى طبقة وسطى جديدة، لأنّ طبيعة صعودها تفتقر، بشدّة، إلى التقليد الخاصّ بهذه الطبقة. صحيحٌ أنّها ورثت عنها صكوك المُلكية، بعد انتقال الثروة إليها، مع شُيوع ظاهرة الهجرة الكثيفة وبيع الأملاك الخاصّة، ولكن طبيعة الإنفاق من هذه الثروة كانت مختلفة، ومعها أيضاً شكل العلاقة مع المكان والجغرافيا الاجتماعية، الذي كان يميّز التقليد المندثِر، السابق. وأهمّ من هذا وذاك، الإنتاج الرمزي نفسه، الذي لم يتراجع فحسب مع صعود الفئات الجديدة، بل اضمحلَّ نهائياً، لتفقِدَ بذلك العلاقة مع هياكل الدولة أو السلطة، بعد كلِّ هذه التحوّلات، أهمّ أركانها، على الإطلاق.