القاهرة ــ أحمد مجدي هماميصعب رصد عدد المجاميع القصصية التي صدرت في مصر خلال عام 2014، إلا أننا نستطيع أن نؤكد أنها كانت سنة القصة القصيرة بامتياز، من حيث الكم الصادر من المجاميع، وانتعاش كتابة القصة القصيرة، بل حتى اتجاه بعض الشعراء والروائيين لكتابة قصص قصيرة.

هذا «الحراك القصصي» ليس وليد اللحظة، ربما تمتد جذور الموضوع إلى ثلاث أو أربع سنوات ماضية، عندما بدأ شعراء مثل إبراهيم داود وياسر عبد اللطيف في نشر مجاميع قصصية. داود أصدر كتابه «الجو العام» (ميريت ـ 2011) الذي ضم مجموعة نصوص قصيرة تراوح بين القصص والبورتريهات. وكذلك، أصدر الروائي والشاعر ياسر عبد اللطيف مجموعته «يونس في أحشاء الحوت» (الكتب خان للنشر 2011).
قبلها بسنة أو سنتين، كان حرّاس القصة القصيرة يواصلون عملهم بدأب وصمت في زمن يُقال إنه «زمن الرواية». بخلاف شريف عبد المجيد الذي لم يكتب سوى القصة القصيرة، صدرت مجاميع قصصية تحمل أسماء بقيمة إبراهيم أصلان، محمود الورداني، أحمد الخميسي، حسام فخر. والأمر امتد للأجيال الأصغر مثل محمد عبد النبي، محمد خير، الطاهر شرقاوي، إيهاب عبد الحميد، محمد الفخراني، طارق إمام وغيرهم من الكتّاب الذين اختاروا مقاومة عصر التسليع والإسهال الروائي، رغم أن الكثير منهم سبق أن أصدر روايات.
عبر تلك السنوات أيضاً، تسللت بهدوء وثبات مواقع التواصل الاجتماعي إلى حياة العرب، وأثرت بشدة في وعي شعوب المنطقة، وكان أحد تجليات ذلك التأثير، انتشار مساحات صغيرة للكتابة مثل التغريدة في موقع تويتر والحالة أو الستاتوس في موقع فايسبوك، ليرفدا من غير قصد فكرة الكتابة الموجزة والمكثفة، النصوص القصيرة المضغوط بداخلها أكبر قدر متاح من المعنى.
ثم جاء عام 2014 ليشهد انفجاراً بالمعنى الحرفي للقصة القصيرة في مصر. أعداد كبيرة من المجاميع القصصية، نذكر منها «رمش العين» لمحمد خير، «كما يذهب السيل قرية نائمة» لمحمد عبد النبي، «الظلام الوطني» لمحروس أحمد، «تاكسي أبيض» لشريف عبد المجيد، «شهوة الملايكة» لسعاد سليمان، «مائدة واحدة للمحبة» لأريج جمال، «شبح طائرة ورقية» لهشام أصلان، «ثلاثة تمارين كتابة لميلان كونديرا» لطه عبد المنعم، «حيل للحياة» لرحاب إبراهيم...
وربما يصح لنا أن نعزو هذه الموجة العاتية من القصص، إلى طبيعة الوضع العام في البلاد التي عاشت ثورتين في ثلاث سنوات، الأمر الذي أدى إلى تغيرات سريعة وخاطفة، مع سيولة في الأحداث، بدأت عام 2011 بخروج مبارك في سدة الحكم، ثم أعقبه المجلس العسكري، ثم سنة في حكم محمد مرسي، وأشهر أخرى تحت رئاسة عدلي منصور، وصولاً إلى الرئيس عبد الفتاح السيسي. هذه القفزات وتلك الأوضاع سريعة التغير تشبه في جوهرها القصة القصيرة، ومضة الفلاش كما وصفها يوسف إدريس شيخ القصة القصيرة.
في ما يلي، قصص وشهادات لمجموعة من القصاصين المصريين يمكنها أن تصنع إطلالة من الداخل على هذا الفن السردي، الذي يستعيد رونقه ويؤكد استمراريته:


35 ملم

محمد خير *
في جلبابها تقترب ببطء من التلفاز حتى تكاد تحجب الشاشة، تقرّب رأسها وتضيّق عينيها رغم النظارة الثقيلة وتسأل: تمثيلية إيه يا ولاد؟
نردّ بنفاد صبر: فيلم يا تيتة، فيلم.
ويظهر شبح ابتسامة على وجه أمي التي تضع قدمها على دواسة مكنة الخياطة، ويدها على القماش تحت الإبرة، وطرف عينها يراقبنا وأنفها يراقب رائحة النضج في المطبخ.
تتراجع جدتي وتجلس أو تخرج من الحجرة التي يطلّ زجاجها على شرفة الجيران، وحتى قبل سنوات طويلة من معرفتي بالفارق العلمي بين صورة الفيديو وصورة السينما، بين الـ في إتش إس والـ 16 ملم، بين الإضاءة الساطعة المسطحة وبين الأبعاد المتباينة الزاهية، كنت أندهش كيف أن جدتي، التي لم تعد تفعل أصلاً سوى متابعة المسلسلات، لا زالت تعجز عن التمييز – ببساطة كالجميع - بين صورة الفيلم وصورة المسلسل، فتسألنا، ونحن متجمعون حول شاشة الـ تليمصر، السؤال نفسه، أو معكوسه: فيلم إيه يا ولاد؟
فنرد بالصوت العالي مغالبين سمعها الثقيل: تمثيلية يا تيتة، تمثيلية.
وأعبر محيطاً وقارتين وثلاثين عاماً. في الطابق الثامن والعشرين، أرتدي ملابسي الشتوية كعادتي رغم التدفئة المركزية، على عكس «آن» التي ارتاحت فوق أريكة الصالة في شورت قصير، ومدت ساقيها الطويلتين بطول الأريكة، وابتلعت من لحظة لأخرى رشفة من النبيذ الأحمر المرتاح على الطاولة، والصالة معتمة إلا من ضوء الشاشة الـ إل سي دي، وفيها تبدو الفاتنة فوق تلة عالية خضراء، تهمس شيئاً للشاب المبتسم، ثم تدفعه فجأة فيسقط صارخاً من حالق.
أترك أوراقي وأقترب سائلاً عن الفيلم.
- مسلسل يا حبيبي، مسلسل.
تجيبني آن، فأحني رأسي تلقائياً نحو الشاشة، محاولاً قراءة الحروف الصغيرة في ركنها، ولجزء من الثانية بين إضاءة وإظلام الكادر، تتجسد صالتنا القديمة، تتسلل رائحة التقليّة وهدير ماكينة الخياطة.
* شاعر وقاص، من إصداراته: «هدايا الوحدة» - شعر، «عفاريت الراديو» - قصص، «سماء أقرب» - رواية، «رمش العين» - قصص.

■ ■ ■




تربُّص

شريف عبد المجيد *

الحلاق الذي يتابعني بنظره كلما كنت ذاهباً أو عائداً من عملي، ينظر إلي بطرف عينه من خلف نظارته التي تسندها عظمة أنفه البارزة، يتابع نمو شعري بهدوء صياد ماهر. عندما أذهب إليه أجده يضحك ضحكة واثقة، كأنه يراهن نفسه على أني سآتي إليه في هذا اليوم بالتحديد، يُرجع النظارة بإصبعه الأوسط ويضغط على مؤخرة رأسي، لذا لم أندم أبداً على قيامي بذبحه بنفس المقص الذي يستخدمه، واستخلاصي لعينيه دليلاً على امتناني لحسن صنيعه معي.
* قاص مصري من أعماله «جريمة كاملة»، «فرق توقيت»، «خدمات ما بعد البيع» الفائزة بجائزة ساويرس للقصة القصيرة فرع الشبّان. وأخيراً مجموعة «تاكسي أبيض».

■ ■ ■



دمية عملاقة تبتسم

هشام أصلان *

للّهو صوت مميز، وضوضاء مختلفة. خليط من ضحك وصراخ، لأطفال وكبار.
عندما يعلو بحدّ معين، يتحول، في أذن الجالس هادئاً بالناحية القريبة، إلى صوت آتٍ من بعيد. أو بوصف أدق، يأتي عبر حاجز ما، لكنه حاجز غير صلب. تماماً مثل الأصوات التي تصلك، عندما تغطّس رأسك في مياه البحر، أو تلك التي تصدر عن اليقظين حولك وأنت مستغرق في النوم. هي ضوضاء تشبه الصمت.
الأرض الواسعة مفروشة بالنجيلة. ومساحة منها خصصت لألعاب الأطفال، زحاليق ومراجيح مختلفة الأشكال والمقاسات.
في الجانب الآخر البعيد، صياح هيستيري، وأفرع نور معلقة متداخلة فيما بينها. تتقاطع معها أشعة ليزر، متعددة الألوان، وتتحرك بشكل هيستيري.
غير أن تلك الأشعة، لم تكن تصل إلى رأس الدمية العملاقة، المبتسمة.
كان جذعها يميل إلى الخلف قليلاً. وذراعان فردتهما بانفراجة بسيطة، مثل شخص يتأهب للترحيب. عالية الصدر برقبة عريضة، تتناسب تماماً مع الوجه الكبير، وجنتان بارزتان، وفم غليظ الشفاه.
الرداء القماشي، بلونيه الأبيض والتركواز، ينتهي عند الوسط، ليُستكمل بتنورة معدنية من سلاسل غليظة تداري نصفها الأسفل.
في كل سلسلة من تلك السلاسل، يتعلق مقعد، حاملاً طفلاً يبدو عليه الصراخ مختلطاً بالبهجة.
كانت تلفّ حول نفسها ببطء يلائم حجمها الكبير، وثِقل يزيد هيبتها. ترتفع التنورة المعدنية كأن الهواء يحملها بخفة. لتكشف، من أسفلها، أسطوانة كبيرة الحجم تحل محل الساقين.
أصحاب المقاعد المعلقة في ذيل التنورة، سيئو الحظ. لأنهم، بالتأكيد، يشعرون بالخطر من كونهم في الناحية الأضعف بسبب ميلان الجذع إلى الخلف. سوف ينتهي أمرهم تماماً إذا انهار الجسد الضخم فجأة.
الجالس هادئاً بالناحية القريبة، لم يكن متأكداً تماماً، من أن الفم غليظ الشفاه، يحمل شبح ابتسامة، يروح ويجيء بين لفّة وأخرى.
* قاص مصري، وهو ابن الكاتب المصري الراحل إبراهيم أصلان، صدرت مجموعته القصصية الأولى «شبح طائرة ورقية» عن «دار العين للنشر».

■ ■ ■



لا تحب امرأة أخرى اسمها أريج

أريج جمال *

ونحن نرقص أمامهم، كنا على يقين أنهم لا يروننا، المساحات البيضاء بيننا وبينهم، تعميهم، إنهم يرون الألوان كلها باستثناء الأبيض، فلا تقلق، ولا تُخيّب ظن الروح التي تقف على أطراف أصابع قدميها كيما تتم هذه الرقصة.
انسَ أمر القنبلة الذرية، الضمائر البشرية لن تشتري لنا بيتاً، لقد قتلوا الماضي السحيق بيننا، قتلوه، ولمْ يكد يعرفنا، لا تترك هذا الزمن يمر دون أن نسرق منه قُبلتنا. انظر هاتان يداي ترتعشان لأنك معي، إن نور الغرفة ينسحب، الإضاءة تنسحب من عندهم، وتطلع القمرة علينا وحدنا وتشتعل الموسيقى المُفضلة لك، الطبيعة تتوافق كي تمر بأصابعك على عنقي الظمآن. أنا امرأة سعيدة جداً وراضية، يقولون أن اسمي أريج، وأنا أصدقهم، لكن أظن أن لي اسماً آخر نهائياً لا يعرفه أحد.
ارقص أكثر، حوّط قلبي بذراعيك، علمني التشيؤ في هذا الكون الخسيس، لنقل إن الحياة على وشك الانتهاء، وإن القيامة ستقوم، فلمَ لا نمارس تمريناً عليها الآن. لا تنسحب قبل أن نشبع، وأن نأمن هذا الزمن المراوغ الذي يأتي من بعيد حاملاً الورد، سآخذ هذا الورد من عينيك ونحن نتقارب، ونمر من خلال ظلالنا، بشغف وأناة. أحبك جداً لأني أستطيع في العتمة، ونحن نتلامس أن أقول je t›aime دون أن أحنّ لأننا سنفترق، ودون أن أبكي لأنني وحيدة، أنا امرأة سعيدة جداً وراضية، وأحب اسمي لأن شفتيك تصبان العسل في حلقي وأنت تنطقه، مَنْ علمك أن تقبّل هكذا خبّرني وأنا لن أحفظ الحكاية، سأكتبها وأقول أنها درس جزل للمحبين.
هذه القمرة تبتسم لأننا عاشقان هاربان من آثار غارة مجنونة سقطت في الروح دون أن يدري أحد، عانقني كما ينبغي لمهووس ولا تنس أنهم يقولون عليّ شاذة، وغريبة. أظنك كنت تقول مثلهم. لا تجزع، المهووسون يحبون بطريقة أفضل، والشواذ يمنحون خُلاصتهم حين يمارسون الحب. هل وجدت امرأة غيري تمنح خُلاصتها وهي تحبك، القمرة تبتسم وهي تعرف أنني أشتهيك، وأنا أشتهيك وأبتسم لأنها تعرف. أيها المجنون اترك مجوننا ينفلت، ولا يُضنيك حضورهم، إنهم لا يبصرون، الغربان تنعق على محاجرهم من فرط فراغها، ونوارس صدرك تُعمّد دمي. قل لي مَن زرع في عينيك كل هذا الفراغ، ومَن قال لك أني سأملؤه، هذه كذبة عظيمة.
لا تتحدث بسوء عن النساء. لا تكن فظاً، ونحن نرقص على الأقل ونحن نرقص، حين ننتشي جاهرْ بكراهيتك، وأنا سأرفع صوتي وأقول je t›aime ، لنتضاجع ثانية حتى تختفي القمرة، ساعتها لن تختفي القمرة، وستخبرك كم أن الإناث جميلات، وستشتهي أن تكون أنثى، ولن تجد من يحقق لك الرغبة.
* كاتبة مصرية، أصدرت مجموعة قصصية بعنوان «مائدة واحدة للمحبة».


■ ■ ■



أول واحد واحد

محروس أحمد *

في صباح الأول من يناير، كان قد رحل لتوه، بعدما قرر تنفيذ حلمه الدائم بأن ينتهي بنهاية سنة سابقة، وقبل بدء اللاحقة، تمنى طويلاً أن يعرف جواباً واضحاً لسؤال وحيد: هل سيتغير شيء في العام الجديد بسبب غيابه؟ المشكلة التي من الممكن أن تجعلني أطلق على هذا النص قصة، هي أنه لم يعد هنا ليعرف جواب سؤاله الوحيد، لحسن الحظ أنه ليس معنا كي لا يشعر بتلك المرارة عندما يلاحظ أن زحام الشارع كالمعتاد، ولم يكن الطقس مختلفاً عن اليوم السابق كثيراً، لم يتغير شيء تقريباً.
* قاص وروائي مصري، صدر له: «كود ساويرس» قصص 2009، «الوحيدون» رواية «ميريت» 2010، «الظلام الوطني» قصص «ميريت» 2014.

■ ■ ■



رحّالة

محمد عبد النبي *

ولو! مهما يكن سفرك أمراً حتمياً وضرورياً، يحسن بك أن تتروى قليلاً. إذ كيف تسلم روحك إلى قطعة حديد لا يحفظها في السماء إلا العناية الإلهية وحسن الحظ، ويظل احتمال السقوط والتهشم معقولاً أكثر من احتمال الوصول بأي قدر من السلامة. أيمكنك تخيل ذلك؟ كتلة متفجرة من النيران تتشظى مليون قطعة بحجم كسرات الخبز، فيصبح من المستحيل التعرف إلى هوية الضحايا، وكم من حكايات لا يروي منها الصندوق الأسود إلا أقل القليل. نعم، لعل السفن أرفق من الطائرات بمسافريها، فعلى أسوأ الافتراضات يمكنك العثور على شيء ما لتتشبث به ساعة تأزف الآزفة، ومع هذا، أليس البحر ثعلباً عجوزاً لا يأمن مكْرَهُ أسطولٌ أو قارب صيد أو سباح ماهر أبداً؟ في طرفة عين يقلب وجهه ليبتلع في ظلمات جوفه الحشرات الحقيرة المغترة بذاتها حد اعتلاء ظهر أحد الوحوش الأزلية: كبرياء الإنسان أصل البلاء. وشفقة عليك وعلى نفسي لن أحكي لك عن مراحل طلوع روح الغارق، ومعاندته مع المياه التي تملأ رئتيه في لحظات تمتد لتتجاوز أمداً بلا نهاية، إن مجرد ذكر هذا يبعث القشعريرة في بدني، وخلاصة القول أن ركوب البحر لا يقل عن ركوب الجو رعونة وحماقة وزهواً أجوف.
الأرض أمك الحانية وبر الأمان لكل ذي قدمين، فإذا كان ولا بد من السفر فانتقل عبر وسائلها الآمنة، أما عن الفارق الزمني، فلا حاجة بك لهزيمة الوقت مادام عمرك كله على المحك. لعن الله جنون السرعة، من المؤكد أنك ترى بأم عينيك كل يوم مشاهد وصور الحوادث المفجعة على الطرقات: القطارات التي خرجت عن قضبانها، أو تفحمت عرباتها بآلاف المسافرين نتيجة الإهمال أو عمل إرهابي، وأخبار الباصات التي انقلبت من فوق الكباري أو غرقت في الأنهار، والسيارات التي تتحول إلى فطائر من معدن و لحم على إسفلت الطرق السريعة.
ألا يدفعك هذا الكرنفال اليومي للاحتفاء بالموت عبر الحركة إلى الانتباه لقيمة الثبات، والمكوث في سكينة مع الحفاظ على الحد الأدنى من التحرك؟
وأنا! أنا أغامر بكل شيء أكثر من مرة واحدة في اليوم، بالانتقال إلى الحمام أو المطبخ، ويدي على قلبي، خشية الغرق في بحر الرمال المتحركة الذي يضرب حصاره حولنا من جميع الجهات.
* قاص وروائي ومترجم مصري، من مجموعاته القصصية: «شبح أنطون تشيخوف»، و«كما يذهب السيل بقرية نائمة».


■ ■ ■


شهادة

فن السنتيمتر


أريج جمال *
حين بدأتُ الكتابة قبل حوالى أربعة أعوام، كنتُ أعمل على رواية قصيرة عنوانها «آخر كل ليل»، مُتشكلِّة من مقاطع عدة قصيرة تدور حول كوكب واحد؛ هو الأفعال السرية التي تقوم بها البطلة ليلًا دون أن يكون ثمة شاهد عليها، كنتُ قد أنجزت نصف الرواية حين أصبحتُ تتخطفني عوالم أخرى بعيدة لا تدور حول كوكب واحد، عوالم متفلتة عن المجرّات تبان بغتة، مثلما تختفي بسهولة إنْ أنا فوَّتُّ تسجيلها، تركتُ الرواية دون إكمال وقررتُ السعي وراءها، عاينتُ مشاعر هبوب الانهيار العصبي أثناء مُلاحقتها، وانتشيتُ وأنا أصل مرات إلى مناطق لم يتهيأ لي من قبل وجودها، هكذا أمسيتُ أكتبْ كي أُرضيني أنا لا القارئ.
لم أنشغل قط بالشكل، كنتُ أعرف أن الشِّعر قد لامسني سابقاً وترك مشهديته لي، وكانت الرواية التي لم تُستكمَل قد علمتني الابتعاد من المعادلات المسبقة للنص القصصي من بداية ووسط ونهاية. ثمة شيء وراء الحكاية، ربما يوجد في جذرها، ربما هو جذرها أصلًا، لا أفهم، أفهم فقط أن هذا الشيء هو مُبتغاي، هو الذي أكتب كي أملأ فراغاته السنتيمترية، فواصله، ونقاط توقفه، صمته ثم انسكاباته المتتالية. القصة تستوعب كل هذا الجنون، بينما تتطلب الرواية أكبر مستوى من اللحظات الثابتة، أو هكذا أظن حتى الآن، الرواية قوس ربما يعلو أو يخفت لكنه لا يخرج عن الخط أبداً. القصة القصيرة وحدها استوعبت لحظات الانفعال القصوى التي أعيشها أثناء الكتابة. مع ذلك لا يمكن القول إن الأمور تكون محددة جداً قبل الكتابة، فالنص نفسه سيخونني في زمن ما كي يصير أكثر إخلاصاً لنفسه، النص أكثر تحرراً مني، وهو يعرف كيف يصل للناس وكيف يجعلهم يتجاوزون مسألة الشكل أو غياب «الحدوتة». لا أود التوقف عن كتابة القصة القصيرة، أنا سعيدة بكوني لم أزلْ داخل مشروعها. ربما يقولون إن عليّ انتظار الرواية الأولى، أما أنا فأقول ما زلتُ في انتظار القصة القصيرة، كي تكتب كل اللحظات السنتميترية اللانهائية في الحياة.

■ ■ ■


شهادة

خمس إشاعات كاذبة عن علاقتي بالقصة

محروس أحمد *

1 - القصة رواية قصيرة
«القص» كفن للحكي لا يفارق دلالة الاجتزاء، البعض الذي يُغني عن الكل، الجنس الأدبي المراهن على إمكانية المستحيل، على تغطية العالم ببضع كلمات، بأدوات السهولة والامتناع، وكأن القصة البخيلة في عدد كلماتها، باذخة الكرم فيما لكل لفظة من دلالات.

2 - أني روائي عائد إلى القصة
لأنها قديمة قدم الوجود، القصة هي الأصل، هي الجذر، الأقرب لكل فنون الكتابة، بداية من القصائد التي تنظم العديد منها القصص، مروراً بالروايات قصصية المنشأ وقصصية التكوين و قصائد النثر التي قد لا تميز عن القصص سوى بمجانيتها، والقصص الصحافية، وصولاً للنصوص بين النوعية، لا توجد عودة إلى القصة، لانتفاء الذهاب منها.

3 - القصة فن حداثي
في البدء يسمع الطفل «قصة» قبل النوم، وتتشكل في شخصيته – عبر القصص - طموحاته ومفاهيمه ومخاوفه، لينقل خبراته كجدّ بالقصص للأحفاد، كل بشائر السرد الأولى من الكتب المقدسة التي حوت العديد من القصص لمروية «ألف ليلة وليلة» بقوامها القصصي المربوط بتيمة الحكّاءة والمستمع، حتى حين ترغب في سرد «قصة» حياة أحدهم، أو حتى إخبار نكتة، كقصة – كوميدية - قصيرة.

4 - القصة... راحت عليها
من البداية صعبة التحديد وصولاً لعصر «البوست» و«التويتة»، هي القصة، وإن اختُصِرت في مئة وأربعين حرفاً، وإن دُعيت بـ «الومضة»، وماذا يحتاج الظلام أكثر من ومضة؟
5- أني قمت باختيار عنوان مجموعتي القصصية الأخيرة
كنت في دار «ميريت» للنشر عندما سألني الناشر محمد هاشم عن عنوان الكتاب القصصي الذي أكتبه، رددت: «في ظلام الغرفة»، مد هاشم رأسه واضعاً يمناه خلف أذنه مستفهماً: «الظلام الوطني»؟ لمع سمع هاشم الخاطئ/ الأكثر صواباً بعقلي، وقررت تغيير عنوان الكتاب، متبعاً أذن هاشم الموصولة بروحه الممسوسة بالثورة، لتكتمل المجموعة القصصية وتصدر، علّها تضيء كومضة، ظلاماً وطنياً معتماً.