من البديهي أن وظيفة الأدب لم تقتصر يوماً على المتعة والتسلية، القيمتين الواجبتين دون شك، لكنّهما تتحوّلان إلى قيمتين مجانيتين حين تغدوان الحامل الوحيد للنص الأدبي. وهذا الأمر لا يقتصر على أدب الراشدين فحسب، بل ينسحب ليشمل أدب الأطفال والمراهقين أيضا. انطلاقاً من هذه الفكرة البسيطة، يمكننا مقاربة قصص أولف ستارك، القاص السويدي، وكاتب قصص الأطفال، وصاحب مقولة: «العفوية وعدم التصنّع أقرب الطرق للوصول إلى الطفل». ومن هنا يمكننا الدخول لعوالم قصته «الدكتاتور» المترجمة حديثاً إلى العربية (دار الساقي - ترجمة مارية باكلا وسامبسا بيلتونين). سيفاجأ القارئ بعنوانها حين يعلم أنها قصّة للأطفال والشبان. لقد اختار ستارك لقصّته موضوعةً لصيقة بالإنسان عامة، ومفهوماً لطالما حفّز الأدباء على مقاربته، بسبب تأثيره المباشر على نسبة كبيرة من شعوب الكرة الأرضية.
مصطلح «الدكتاتور» المشتق من لقب «القاضي» في روما القديمة، تحوّل إلى اختصار للاستبداد، والاستعباد، والتسلّط، وحكم الفرد، مما حرّض الكثير من الأدباء حول العالم على مقاربة هذا الموضوع عبر الرواية والقصة والشعر والسينما والرسم، ومحاولة الوقوف على خفايا شخصية الدكتاتور، وتحليل تكوينها السيكولوجي، الذي يبدو بالغ التعقيد للوهلة الأولى. وبالتالي كان لا بدّ في كل مرة يجري فيها تناول هذه الشخصيّة، من العودة إلى النشأة المبكرة للدكتاتور، وطفولته الأولى حيث البذور التي تسهم في فكّ طلاسم شخصيّته. ويبدو أنّ هذا ما لفت انتباه ستارك. لقد قرّر مقاربة الموضوع من جذوره متوجّهاً به إلى الطفل مباشرة. هو القائل بضرورة محاكاة مخيّلة الطفل، والتعامل معه ككائن فائق الذكاء، منتقداً كتّاب قصّة الطفل العرب بسبب أسلوبهم الوعظي والتعليمي. في قصّته «الدكتاتور»، يرسم ستارك شخصية الدكتاتور بأدق تفاصيلها. ويقدّمها في عمر مماثل لعمر الطفل الذي يتوجّه إليه. وإن كان الأمر ينطوي في جانب منه على حيلة لإقناع الطفل (القارئ) بالفكرة، فإنه من ناحية أخرى ينطوي على رغبة بتحليل العوامل التي تجعل الكائن دكتاتوراً. الطفل، بطل القصّة، هو الدكتاتور الذي لا يفعل شيئاً بنفسه «حتّى أسنانه ينظفونها له». وحين تقترب أمّه لتمنحه القبلة قبل النوم، «لا تقبليني!.. يصيح الدكتاتور». إذاً يرسم ستارك منذ البداية صورة لطفل متعجرف، اتكالي، يريد من الجميع أن يكونوا في خدمته. وإذا سئل إن كان يرغب في الاستماع إلى حكاية، فإنّه دون شك، ومثل الأطفال جميعاً، سيرغب بذلك لأنّه الأحق بهذه المتعة، مع فارق غير بسيط، أنّه يرغب بحكاية «تدور أحداثها حوله شخصيّاً».

رسوم ليندا بوندستام تكفّلت بشرح لحظات صمت الحكاية
وحين يؤوي إلى الفراش، يأمر نفسه بالنوم «فتطيعه نفسه بطبيعة الحال»، مما يؤكد أنّ الدكتاتور طفل أنانيّ، يشعر بأنّه محور الكون، وقادر على أن يأمر حتى النجوم والقمر والشمس، مقترباً بذلك من مصاف الآلهة، التي لطالما تماهت أوصافها مع أوصاف الدكتاتور في كلّ مرّة يكون فيها تناول الموضوع. وحين يكون دكتاتور ستارك طفلاً، فلا بدّ من أن تكون الأحلام جزءاً من تكوينه، لكنّ الدكتاتور لا يحلم بالحديقة ولا بالنزهات ولا بالبحر والألعاب. إنّه يحلم «بالعساكر وبالطائرات الحربية، وبالعناكب، يحلم بالجواسيس، برغم أنّه لا يعرف معنى كلمة جواسيس». هو الطفل الوحيد، الانعزالي الذي لا يرى في رفاقه الأطفال إلا عبيداً عليهم تنفيذ أوامره. هو مشغول البال بنفسه دائماً، وحين يقرّر أن يكتب اسمه، يكتب «أنا.. أنا.. أنا» ما يدفع رفاقه للنفور منه، إلا أنّه في زحمة انشغاله بنفسه، طيلة الوقت، لا يستطيع الدكتاتور أن يمنع نفسه من حبّ جوليا. وحين يراها تمشي ممسكة بيد يسري، لا يتورّع عن عرقلة يسري برجله، ليسقط أرضاً، فهو لا يقبل أن يوجد شخص في المكان الذي يرى نفسه فيه، لكن حين يتقدّم من جوليا طالباً أن تمسك يده ليمشيا معاً، سترفض ذلك قائلة: «أفضّل أن أمشي مع قرد، على أن أمشي معك». إذاً هناك من يريد الخروج عن طاعة الدكتاتور. هناك من أشعره بأنّ أمراً لا يستطيع نيله، فماذا يمكنه أن يصنع حيال ذلك وقد وقع في الحب؟ وهل يمكن للحب أن يكسر جبروت الدكتاتور؟ لن يطيل ستارك الحكاية، سيخبر الأطفال أخيراً، وباختزال موفّق، أنّ الدكتاتور يحاول أن يصبح قرداً، ما يعني أنّ أمراً واحداً لم يستطع الدكتاتور إخضاعه لسلطته، لأنه ببساطة لا يعترف بهذه السلطة، إنّه الحب.
بهذه الطريقة يشرح ستارك للطفل مفهوم الدكتاتور، مؤكّداً ضرورة التحرّر من سلطته، من دون أن يلجأ إلى الموعظة أو النصيحة. حكاية بسيطة وشيّقة، تحتوي شيئاً من الشعر، وتنطوي على الكثير من المرح، مرفقة برسوم عالية الجودة، بريشة الفنانة ليندا بوندستام. رسوم توضيحيّة استطاعت مقاربة النص، والتكفّل بشرح لحظات صمت الحكاية. ما يجعلنا ننتبه إلى طريقة صناعة الكتاب، وتحديداً كتاب الطّفل، الذي يتطلّب انسجاماً كبيراً بين العناصر المكوّنة له ليكون مقنعاً لقارئ حرّ (الطفل)، يخطئ من يعتقد أنّه من السهل إرضاء ذائقته، كما يخطئ من يهوى أن يلعب معه دور المعلّم.