كانت أمكِ تطبخُ أفضلَ منك،وكان غسيلها أنصعَ من غسيلك..
كانت حسنةَ التدبير.
لم تستخدم فرشاة أسنان،
لكنَّ أسنانها كانت أشدَّ بياضاً من أسنانك..
لم تستخدم كريماتٍ مطريةً لليدين
وكانت يداها أنعمَ من يديكِ.
ينقضي الوقت وهم يعقدون المقارنات بيننا،
أنظرُ إلى دميةٍ متخشّبة في السرير
أدخلُ في تنافسٍ معها..
كيف لامرأةٍ لا تجيد القراءة والكتابة أن تعرف
مقادير ما تضيفه من الملح والبهارات والحُبّ؟
تأكلني الغيرةُ من امرأةٍ لا يعنيها التنافس
ولا تعرف الغيرة!
ماريا التي كان اسمها أمي!
■ ■ ■
كلما ماتَ أحدٌ من العائلة
انكسرَ كرسيّ.
هوت شجرةُ العائلة الأمس،
هوت أسماءُ الأسرةِ المدلّاة من أغصانها.
لم تصدّقني حين قلتُ:
إنَّ الوقتَ قاسٍ
كصوتِ تمزُّقِ جذور تلك الشجرة...
تلك الشجرة التي تشبهُ أمي،
أمي التي لا تكفُّ عن شراءِ الكراسي!
غويا «ساتُورْنْ ملتهِماً أحد أبنائه» (جدارية ـ 1819-1823)

■ ■ ■
لطالما خبّأت أمّي الأحزانَ عنّا في جيوبِها كالسكاكر.
كانتْ تزدردُ بعضَها في كلِّ صباح
كبرْنا، ولم تفرغْ جيوبُ أمّي.
■ ■ ■
تغضبُكِ أشياءُ كثيرة في الصباح:
الهواءُ الرقيقُ الذي يلامسُ وحدتَكِ،
العرجُ الخفيفُ في الروح،
صورةُ الميتِ قبالةَ السرير،
موتى العائلةِ على الجدرانِ أنّى نظرتِ،
وتاريخُهم تحملينهُ على ظهرك،
وبيتٌ مقبرة.
كأنك تحرسين الموتَ!
أعدِّي القهوة، يأتي الصوتُ الحبيب،
على قيد الحياة أنا!
■ ■ ■
سأنجبُ طفلاً، ليس الأمرُ بتلكَ الصعوبةِ:
أعجنُ الترابَ بدمي،
أنفخُ عليه من روحي،
وأطلقُهُ.
سيكونُ هشَّاً لا يحبُّ الحروب،
لكنّهُ سيحب كثيراً من النساء،
سوف ينادي الموتى جميعاً: يا أمي
لكن طفلي المولودَ من العدم
سوف ينجبُ أطفالاً خضراً،
عيونهم على التجربة
وأقدامهم في العاصفة.
■ ■ ■
«مقطوعةٌ من شجرة»
قالت لي متسولةٌ عجوز.
أنظرُ إليها، أتخيلُ ما كان يمكنُ أن تكونه هذه السيدة:
آلةً موسيقية:
عوداً أو كماناً...
ونظراً إلى نحولها وبحّة صوتها المحزنة، كان يمكنُ أن
تكونَ ناياً...
وما الذي يمنعُها، بوصفها مقطوعة من شجرة،
من أن تشعلَ حريقاً في نفسها؟
ما الذي يمنعها، كي أكونَ أشدّ لؤماً، من أن تكون
خازوقاً يخترقُ مؤخرةَ هذا العالم؟
■ ■ ■
كبرتُ بما يكفي
حتى غدوتُ أشبهكَ.
هربتُ سنواتٍ من اسمكَ،
وحين كانوا ينادونني: بنت الأرملة،
لم يكن يزعجني اللقب... كان لوني أسمرَ كلونِ أمي.
لكنهم، مذ تخطّيتُ الأربعين،
وهم يحدّقون في وجهي؛
يقولون: لكِ عيناه وفمه،
طويلةٌ مثله،
حتى إنه توفي في مثل سنّكِ تقريباً.
■ ■ ■
بندولُ الساعةِ الذي يتحرّكُ بين الجدارين الخشبيين
يحسبُ أنّه يحرّكُ الزمنَ،
وأنّه مسؤول عن تعاقبِ الأيام والسنين.
بندولُ الساعةِ السجين في الصندوق
يخبطُ رأسَه بالخشبِ،
من دون أن ينتبه أحدٌ إلى يأسه من الرتابة...
كم يشبهني!
■ ■ ■
أتدرَّبُ على العمى كلَّ يومٍ.
أحاولُ التعرَّفَ على أماكن الأشياء مغمضةً.
في الطريق، أحفظُ الحفر،
مواضع حاويات القمامة،
أماكن بيع التبغ وسواها.
أخفقُ في تحديد مواقع الحواجز،
لا أرى البنادق
لا أرى الموت
لا أرى المدينة،
أتدرَّبُ على العمى:
ثمّة ستارةٌ سوداء مهولة
تخفق في اللامكان.
■ ■ ■
رأيتُهم ينسلّون من الوقت،
مثل حبيبات الرمل في ساعة رمل.
انتظرتُ واجفةً ذلك الخواء المدمّر.
لم أقلب الساعة:
سبعُ سنوات عجاف.
مرَّ النهرُ بيننا
أحمرَ... أحمرَ،
تركنا قلوبَنا على الضفة
ونزلنا إلى المياه،
فاض النهر،
جرف قلوبنا،
لم يبق من الساعةِ غير ظلها المائل!
■ ■ ■
بأظافر طويلة كالندم والفاجعة
أنبشُ دمي.
هل تجمعُ القتلةَ زمرةُ دمٍ واحدة؟
أفي عروقي زمرة القاتل أيضاً؟
■ ■ ■
كنتُ سأحدِّثُكَ عن الحب
لكنّي مشغولةٌ بالموت.
الموتُ ظلِّي الطويل،
لا تحجبُهُ شمسٌ
ولا يخفيه ليل.
ظلّي يستلقي قبالتي على السرير.
كأنّهُ خلايا الجسدِ وهي تتساقطُ تباعاً
مثلَ شهب.
■ ■ ■
نعواتٌ جديدةٌ على الجدران.
لم يتوقّفِ الموتُ إذاً.
يمضي الصباح متثاقلاً على عكّازين،
أحاولُ أن أجمعَ النهار المهشَّم
أشدُّ عقربَ الثواني من أذنه: توقَّفْ!
يلدغني الوقت ويفرُّ مسرعاً.
أما من عقارٍ مضادٍّ للتقدّم في الموت؟
■ ■ ■
هل أيقظكِ أنينُ الجبالِ؟
الجبالُ الشاهقات
أثداءٌ متشقّقةٌ
جفَّ فيها الحليبُ،
تلدُ الأطفالَ
وتلقي بهم في فمِ الموت.
■ ■ ■
الفتى الجائع على الرصيف
الذي شدّكِ من كمِّ قميصك منذ أربع سنواتٍ طالباً منكِ ثمن سندويشة فلافل ليس غير؛
الفتى ذو العينين الخضراوين
الذي تمنيتِ لو كنتِ أمَّهُ
لتلعقي دموعه الساخنة التي بلّلت أصابعكِ؛
هو الشابُّ نفسه الذي رأيتِ صورته اليوم
على ورقة النعي.
ركلتِ الحربُ دموعَه،
لم يبقَ سوى الملح على الرصيف.
■ ■ ■
نلهو بثلاثة حروف:
باء،
راء،
حاء.
بحر
رحب
حبر
ربح
كم نحن طيبون!
لم نعرف أننا بثلاثة حروف يمكن أن نحرق بلداً برمّته.
■ ■ ■
الموتى بأرواحهم العارية
يتدافعون نحو السماء،
الأرواح سيزيف يقارع الصخرة!
■ ■ ■
أعرفُ أشياءَ كثيرةً تشبه الحزن:
كأن يتسلّلُ فأرٌ صغيرٌ إلى سريري
فأطيلُ التأملَ فيه
وأفكّرُ: هل أقتُلُهُ،
هذا الذي اكتشفَ سرَّ وحدتي
وسريري المهجور؟
أراقبُ يديَّ الملطّختين بالدم،
أراقبُ وحشيّتي التي ازدادت في السنوات الأخيرة،
ثمَّ أبرّرُ لنفسي:
هو حيوانٌ ضارّ
كان سيقرضُ ذكرياتي الحميمة،
ولعلّه كان سيحضر عائلته إلى هذا السريرِ المهجور!
ولعلّهُ كان سيمعنُ في الثرثرةِ عليّ!
أرأيتَ أيَّ قسوةٍ تعمّدتَ
حين هجرتَ سريري؟
■ ■ ■
لكنتُ أحببتكَ أكثر
لو طرقتَ نافذتي بذاك العنف
الذي طرقَ به المطرُ الخائفُ بابَ البيت.
لكنتُ أحببتكَ أكثر لو كنتَ وحيداً ومهزوماً
مثل غيمةٍ هاربةٍ من شتاءٍ قاس.
لكنها الحرب هزمَتْنا جميعاً،
جعلتني أحبُّ كثيرين
لا يتقنون سوى الغياب!
■ ■ ■
رأيتُ في الحلم يداً مقطوعةً تلوّح لي:
تعالي!
استيقظتُ،
لم أركَ في السرير،
كانت يدكَ آخر ما رأيت.
■ ■ ■
أرتدي كنزةً عليها غزلان تعدو،
تتوقف الغزلان عند حافة جسدي،
ترنو إلى السهل القريب،
وأنا أمعنُ النظر إلى الأسد الرابض في جسدك.
■ ■ ■
يرمقني بطرف عينه
كي يتأكّدَ من ارتدائي قميصه المفضّل.
تزهر البراعم المرسومة على القميص،
أشجّعهُ بنظرةٍ: مُدَّ يدَكَ... اقطفِ الأزهار.
يمدُّ يدهُ... ثم يعيدها،
يصير نحلةً تحطُّ فوق القميص،
يتنقّلُ من زهرة إلى أخرى
يمتلئ قميصي بالتفاح
ويسقطُ من فرط الحمل.
■ ■ ■
يا لخيبتكَ، نصبتَ الفخاخ لنساء غيري
ولم يقع فيها أحدٌ سواي.
■ ■ ■
كانا والرغبة في السرير
حين وقعتِ الحرب مثل قذيفة طائشة.
ارتديا ثيابهما على عجلٍ
وفرّا فراراً،
في ما كانت الرغبةُ تلفظُ أنفاسها وحيدةً.
* سوريا ــــ من ديوان بالعنوان نفسه صدر حديثاً عن «دار النهضة العربية»، بيروت، 2018.