عن «دار الفارابي»، صدرت النسخة العربية (ترجمة نهلة بيضون) من كتاب «غرق الحضارات» للكاتب والروائي اللبناني أمين معلوف بعدما نشرت النسخة الفرنسية مطلع ربيع 2019 عن «دار غراسي» (باريس). يحاول أمين معلوف في مؤلّفه «غرق الحضارات» أن يفكّك الأوضاع الراهنة في العالم الغربي تحديداً، كما يعرّج على دراسة الأوضاع في الوطن العربي، كعرّاف أو ناظر إلى بلّورة سحرية ليستقرئ التاريخ العربي بوصفه درباً من الظلامية. يشير معلوف إلى الظلمات التي اكتسحت العالم العربي بدءاً من بلاده لبنان ومصر والعراق وسوريا، لاجئاً إلى الطريق السهل في التفسير ألا وهو أن العالم العربي اختار «الطريق الخطأ»، بسبب إخلالات حركة النهضة العربية التي بدأت منتصف القرن التاسع عشر. وهو يعتبر أنّ المجتمعات العربية لم تتمكن من الاستجابة الفعلية لدعوات الإصلاح والتحديث، بل ظلّت مشدودة إلى الماضي، رافضة اللحاق بركب الحضارة الغربية!

رفض الشعوب العربية «للتقدم» جاء في نظر معلوف إبان نيل البلدان العربية استقلالها، وخلاصها من الهيمنة الاستعمارية، واختيارها أنظمة حكم متسلّطة وفاسدة حكمت الشعوب بالحديد والنار، على حد تعبيره. هذا ما ضاعف من تخلف الوطن العربي وأزماته، بالإضافة إلى السماح للحركات الأصولية المتطرفة باكتساح المجتمعات العربية، موهمةً إياها بأنها قادرة على ضمان العيش الكريم لها في الحياة الدنيا، والجنة في الآخرة.
وكعادة المثقف المُحب للكليشيهات، لم ينسَ أمين معلوف أن يحمّل النظام الناصري وجمال عبد الناصر مسؤولية ما حدث في العالم العربي من كوارث وأزمات. يبدأ أولاً بالاستخفاف بالجماهير ـــ فهي قطيع ما دامت ضد رغبة المثقف العربي ــــ حيث استطاع جمال عبد الناصر خداعها وكسب ثقتها من المحيط إلى الخليج، رافعاً شعار الوحدة العربية. لكنه لم يكن واعياً إلى تحديات المرحلة، وجاهلاً بالحلول التي لم يستطع أن يقدّم أيّاً منها. وعوض أن يقوم بالإصلاحات الضرورية واللازمة، قام عبدالناصر بالآتي: «تدمير الاقتصاد المصري، وأشاع المشاعر الشوفينية، واضطهد الأقليات التي كانت ضامنة لنجاح التعايش الثقافي والحضاري والديني. وفي النهاية، قاد بلاده والعالم العربي بأسره إلى هزيمة حرب67، التي لا تزال جراحها مفتوحة إلى حدّ هذه الساعة». الفقرة الأخيرة التي يكيل معلوف فيها الاتهامات لعبد الناصر، تذكرنا بمشهد من مسرحية «الزعيم» لعادل إمام، عندما اعترف بسيل من الجرائم، وأنهاها بأنه أيضاً سبب خروج السعودية من كأس العالم. وأكمل لمن يستجوبه: «أي قضية عندكم مستعد أعترف بيها». هكذا تعامل أمين معلوف مع ما أسماه «غرق الحضارة» في الوطن العربي، رغم أن مقدّمي الكتاب بطبعته الفرنسية وصفوا معلوف بأنه «دارس بدقة وواقعية بل إنه الملاحظ المتشبث بعقلانيته في زمن الجنون، والعنف، والإرهاب الأعمى، والمخاطر الجسيمة التي تهدد البشرية، سواء كانت اقتصادية، أم سياسية، أو ثقافية وحضارية». بخلاف ذلك، فإن قارئ الكتاب وطرح أمين معلوف، يجده قد استبعد كل الأبعاد التاريخية والاقتصادية والاجتماعية، وتمسك بالسردية التقليدية لليبراليين التي تدّعي أن التطور ومواكبة العصر، تتمحور حول التبعية للغرب، وبالسير على الطريق الغربي، شبراً بشبر وذراعاً بذراع. لكن من الواضح أن قضية التخلف العربي لا تمثل لمعلوف إلّا تأخراً تاريخياً ونقصاً كمياً في الموارد البشرية والأفكار سيعالجه الزمن، وسيساعدنا كرم الغرب في مدّنا باللازم للتخلص من تأخرنا. وبرغم أن ثنائية «التخلف/ التقدم» قد شكّلت السؤال التاريخي الأساس للعرب منذ قرن على الأقل حسب الباحث والأكاديمي علي القادري في كتابه «تفكيك الاشتراكية العربية» (2016)، إلا أننا نواجه بين حين وآخر مثقفين أكثر أصولية وسلفية في تصوراتهم عن العالم، خصوصاً من يظنون أنهم يقدمون إجابات للأسئلة المحورية تاريخياً. بل الأخطر من هذا أن صياغات معلوف للتاريخ العربي ما هي إلا اتهامات تفتقر إلى أي دليل، لكنها تتوافق مع أهواء ومزاج النخب الغربية. لذا رغم الثناء والمديح لأفكارهم النقدية في الأوساط الغربية والخليجية، فإنها لم تخرج تقريباً عن اجترار أفكار صراع الحضارات ونهاية التاريخ ومخلّفات الفكر الإمبراطوري الأميركي لفرانسيس فوكوياما (1952) وصامويل هنتنغتون (1927-2008). تحدّث أمين معلوف عن تدمير عبد الناصر للاقتصاد المصري بل العربي عموماً. لكن حين نقرأ ما يُورده علي القادري في كتابه «تفكيك الاشتراكية العربية» (ترجمة الباحث مجدي عبدالهادي) من أرقام مُختارة على سبيل المقارنة بين المرحلتين الأساسيتين في التاريخ العربي الحديث وهما: مرحلة الاشتراكية العربية (1960-1979)، ومرحلة الليبرالية الانفتاحية (1980-2011)، وخصوصاً مصر وسوريا والعراق ــ وهي دول تعرضت بشكل مباشر لآثار الحقبة الناصرية ـــ سنجد أن هذه الأرقام ذات اتجاه وعنوان واحد نفهمه ضمناً خلال الفترتين، هو «التراجع الكبير». فقد تراجع معدّل نمو الناتج المحلي الإجمالي في سوريا والعراق ومصر من 7.1% و10% و5.5% إلى 4 % و4.9% و4.3% على التوالي، ومعه تراجع معدل نمو حصة الفرد من ذلك الناتج في البلدان الثلاثة من 3.8 % و6.8% و3.5% إلى 1.2% و2.1% و2.3% على التوالي كذلك، وتراجع معدل نمو إنتاجية العامل من 4.5% و8.6% و3.3% إلى 0.5% و1.2% و2.2%، فيما زادت متوسطات معدلات التضخم من حوالى 5% للدول الثلاث إلى 13% في مصر و26% في العراق و15% في سوريا. وارتفعت معدلات البطالة من 4.2% و5.2% إلى 10.9% و13.2% في سوريا ومصر على التوالي. كما ارتفع متوسط خدمة الدين العام كنسبة من الدخل القومي من 2% و3% إلى 4% لكلٍّ من البلدين؛ بما يظهر تفاوتاً مُعتبراً ــ وهائلاً أحياناً ـــ في المؤشرات الأساسية كافة لصالح فترة الاشتراكية العربية (الحقبة الناصرية المُهاجمَة) في الأداء الاقتصادي الكلي، خلافاً للأساطير الشائعة التي تأثر بها أمين معلوف.
اتهامات تتوافق مع أهواء النخب الغربية التي تجترّ أفكار فوكوياما وهنتنغتون


أما عن صعود التيارات السلفية والوهابية التي لا تختلف في قراءتها للواقع العربي عن أمين معلوف، لكن كلّ من خندقه الحتمي، فإن الفريق الأوّل يتعلّق بالجنّة السماوية، والفريق الليبرالي/ أو المتغرب الثاني يتعلّق بالفردوس الغربي. والمضحك أن كلا الطرفين ينتقدان الاشتراكية لجمودها! إلا أنهما يرفضان بناء نظرة جدلية اجتماعية واقتصادية حتى في قراءة التاريخ، كما يرفضان تقديم أيّ تفهم للظرف السياسي الدولي الذي أعقب حرب 1973 عندما قفز السادات إلى أحضان أميركا التي بلعت المنطقة كلها عبر منظمات أممية ودولية كصندوق النقد والبنك الدولي لتحاصر البلدان العربية، خصوصاً تلك البلدان التي وضعها معلوف محل تحليله كمصر وسوريا والعراق... فارضة برامج شديدة لإعادة الهيكلة النيوليبرالية، مُحيلةً كل الأسواق العربية إلى مجرّد وجهات لعرض منتجاتها ومفرغةً المجتمعات العربية من رأس مالها الأجنبي وحتى رأس مالها الفكري. وقد استعانت من أجل امتصاص رأس المال النقدي بالشركات العابرة للقارات وبحالة السيولة تحت غطاء «العولمة». كما امتصت رأس المال الفكري عبر القوى الدينية، وخصوصاً «الإسلام السياسي» فدعمته بأموال الخليج، وفتحت معه اتصالات من قنوات خلفية بوصفه الوريث الشرعي للأنظمة التي تتهاوى في المنطقة وخصوصاً بعد انهيار السوفييت لتضمن القضاء على أي فكر يساري أو تقدمي أو وطني، فلم يعد هناك شيوعيون.
أخيراً، يمكن التطرق إلى نقد وتفكيك كل نقطة في كتاب أمين معلوف «غرق الحضارات» المكتوب من برج باريسي، لكن نكتفي بهاتين النبذتين لنشير إلى أننا في أزمة ثقافية حادة. إذ لم يعد مثقفونا العرب يقرأون ولو بشكل بسيط واقعنا وتاريخنا قبل إطلاق كتبهم ودراساتهم «العبقرية»!