يختصر عنوان كتاب أريللا عايشة العزّولي (1962) «التاريخ الممكن: محو الإمبرياليّة» (فيرسو ــــ 2019) الحملة النبيلة التي خاضتها أستاذة الثقافة المعاصرة والميديا والأدب المقارن في «جامعة براون» في الولايات المتحدة منذ أكثر من ثلاثة عقود لنقض التواريخ الرسمية، والبحث عن تواريخ كانت ممكنة قبل أن تغيّب قسراً بالعنف الاستعماري. لكن البروفيسورة ليست مجرّد مؤرّخة تقليديّة أخرى تعيد ترتيب وثائق المراحل وفق رؤى جديدة، بل هي صاحبة منهج معرفيّ يقوم على أساس مساءلة التراث الفوتوغرافي واستعادته من يد صاحب الكاميرا لوضعه في سياقه الأوسع زمانياً ومكانياً.

تقوم نظرية العزولي على أن اختراع التصوير الفوتوغرافي ترافق وتعشَّق مع صعود الإمبريالية الرأسمالية التي كانت بحاجة عمليّة لأداة تؤرشف وتسجّل وتؤطّر الآخر على نحو يمكن امتلاكه وتصنيفه ونقله إلى العواصم الكبرى في باريس ولندن وبرلين بسرعة تماماً كقطع الآثار ومقتنيات الشعوب (البدائيّة) عبر المستعمرات. هي تجد أن تلك الصور تكون لحظة التقاطها استكمالاً لجرائم الغزو الأوروبي عبر استبعادها المناخ الكلي للحظة التاريخية وجذور موضوع الصورة، تماماً كما يحدث عندما نشاهد صورة لوجه مهاجرة بائسة قُبض عليها على الحدود الأميركية مع المكسيك. بعد تدقيق العزولي، تبيّن أنها صوِّرت فور فصلها عن ابنتها الصغيرة وفق قوانين ترامب، وأن جزع الأم الظاهر في الصورة لم يكن إلّا انعكاساً لتلك اللحظة المؤلمة. أريللا التي وُلدت في فلسطين المحتلة لأب يهودي جزائري وأم يهودية، تنحدر من الأندلسيين الذين طردوا عام 1492 من بلادهم. أصيبت بصدمة وعي من حجم الكذب الإمبريالي الذي صادر هوياتها اللغويّة والاجتماعية والتاريخية لمصلحة مشروع استعماري غربي محض، فُرض بمحض القوة على أراض مسروقة وعلى حساب شعب كان فيه يهود فلسطينيون، ومسيحيون ومسلمون ودروز وبهائيون وغيرهم. جمعت في مهنتها الأكاديمية بين غرامَين: التصوير الفوتوغرافي وأنساق المعرفة، وبنت على أساسهما مقاربات جديدة لقراءة التاريخ. وبما أن تلك المقاربات معادية بنيوياً في العمق للأساطير المؤسّسة للكيان العبري، فإنّها ما لبثت أن طُردت من منصبها في جامعة تل أبيب، لتهاجر إلى فرنسا والولايات المتحدة أستاذة للأنساق الثقافيّة والمعرفيّة في بعض أهم الجامعات في البلدين.
عن «التاريخ الممكن: محو الإمبريالية» تقول العزّولي إنها وضعت كتابها الجديد لأنها ترفض أن تكون إسرائيلية، أو أن تفكّر كإسرائيلية أو أن تنتمي للهوية الإسرائيلية أو حتى أن تُعرّف من قبل الآخرين كإسرائيلية. فـ «إسرائيل» عندها كناية عن كيان إمبريالي فُرض بالعنف المجرّد على أصحاب البلاد الأصليين. هي لا تريد أن تكون بأيّ شكل جزءاً من منظومة المعتدين القتلة. العزّولي ترى نفسها ثقافيّاً «يهوديّة فلسطينية». هو تعبير ــ تقول ــ غيّب لحظة قرار تقسيم فلسطين 1947 ولم يعد يعني شيئاً في اللغة الإمبريالية التي تفرضها الدولة العبريّة المسخ، وهويّتها ولغتها الملفقة. في إطار سعيها للعودة إلى ما قبل لحظة النكبة 1948 وكتابة تاريخ آخر ممكن لفلسطين، انتهت العزولي شيئاً فشيئاً إلى توسيع دائرة بحثها للخوض في تجارب استعمار غربي عديدة بنت عليها نظريّة أنطولوجيا-معرفيّة للنظر في كل ما مسّته الإمبرياليّة بيديها الملوثتين بالدماء والآلام.
بالنسبة إلى العزولي، كلّ التشكيلات التي تحكم نظرتنا الحاليّة للعالم من وثائق تاريخية وأرشيف رسمي ومتاحف وحتى أفكار، مثل السيادة والهويّات القوميّة وحقوق الإنسان، بل مفهوم التاريخ نفسه كما يُتداول اليوم، ما هي إلا نتاج نسق تفكير فرضته الإمبريالية العالمية. وترى أن محو الإمبريالية – على صيغة محو الأميّة – والعودة إلى اللحظات القليلة الأخيرة قبل نقطة التأسيس الغادرة للمنتج الإمبريالي (أكانت إسرائيل أو تقسيمات سايكس بيكو أو تقطيع الكونغو) يتيح لنا كبشر أن نكسر دائرة العنف الممنهج، ونستعيد تاريخاً ممكناً بديلاً كأداة للتفكير في مستقبل أفضل لا يقابل القتل بقتل جديد، بل يستعيد للمضطهدين وأحفادهم، فضاءاتهم التي سُلبت منهم.
تبدو تلك مهمّة مستحيلة. لكن العزّولي تقول بأن اليأس من إمكان إعادة صياغة الحاضر والتفكير بتواريخ أخرى ممكنة ما هو إلا نسق معرفي إمبرياليّ وجبن عن مواجهة الحقيقة ينبغي أن ننزعه من أذهاننا إلى الأبد، وإلا انتهينا ــ بخضوعنا الأثيم ـــ شركاءً للقاتل في جريمته.