لم أحدثكم عن «المساعيد»؛ المدينة التي كنت أقطن فيها؛ تبعد عن العريش خمسة كيلومترات، هادئة بشكل قاتل، فشخص مثلي تعوّد على صخب المدن وضجيج المعسكرات، لن يستطيع التكيف بسرعة مع هذا الهدوء. في إحدى الليالي، كسر الصمت صوت طلقات النار في الشارع، اعتقدت أن قبائل العريش تتعارك مثلاً أو أن الفلسطينيين اقتحموا الحدود وتطاردهم السلطات الأمنية. ذهبت إلى الشرفة لأشاهد ما يحدث، فوجدت أطفالاً ورجالاً يركضون في الشارع. قلت لنفسي: هل هي محاولة إسرائيلية للاقتحام؟ ماذا يحدث؟ قررت المغامرة بحياتي ونزلت لمعرفة ما يحدث. كل المحلات مغلقة في الشارع على غير العادة، وصوت أقدام أشخاص يركضون خوفاً من شيء ما، وكلما اقتربت من مصدر إطلاق النار الشديد، أجد الناس يركضون باتجاهي ويحذرونني من التقدم باتجاه مصدر الصوت. حاولت أن أسأل الناس عما يحدث فلم يرد أحد، وصلت إلى نقطة إطلاق النار، من الشوارع الجانبية وجدت مجموعة تتكون من أربعة إلى خمسة أفراد يحملون في أيديهم رشاشات آلية، ويطلقون النار بعشوائية في الجو وعلى المحلات. اتّضح لي فيما بعد أنهم مجموعة من البدو جاءوا ليردّوا ثأراً لهم في محل لبيع الهواتف النقالة، قاموا بفتح رأس صاحب المحل وضربوه ضرباً مبرحاً، وكسروا زجاج محله.
«ثنائي وكلب» للفنان المصري الراحل سمير رافي (زيت على لوح خشبي - 68×94 سنتم ــ 1977)

حين تجمع الأهالي حولهم، أطلقوا النار عشوائياً في الهواء، ففرّ الأهالي من المكان، ثم وجّهوا الرشاشات ناحية المحلات المجاورة وفي الطرقات. لم يستطع أحد أن يوقفهم، فهم من يحكمون شمال سيناء ويفعلون ما يريدون، حتى أنهم يقومون بسرقة السيارات التي تمر من طريق الوسط الذي يربط بين شمال وجنوب سيناء ويصادرونها، ومن يعترضهم يطلقون النار عليه. هكذا يتعاملون مع كل عرائشي يمر بهذا الطريق، وإذا لزم الأمر فلن يتذرعوا أن يقتلوه بعد أن يصادروا سيارته.
أصبحتُ أعاني من بعض المشكلات النفسية وأخص بالذكر الكبت العاطفي، كنت أكتئب بشدة كلما تذكرت سارة وتخليها عني بعد خروجي من السجن، فعندما أرى فتاة تمشي برفقة شاب يكون على الأرجح صديقها أو خطيبها أشعر بالحزن والأسى، لأنني ببساطة لم أتمكّن حتى الآن من التعرف إلى أي فتاة، رغم التطور التكنولوجي الذي أصبح يسهّل ذلك شيئاً فشيئاً، وأشعر أنه من الصعب جداً أن أتوصل في يوم من الأيام إلى ذلك، كما أنني أشعر بعقدة الدونية أمام أي فتاة وأحسّ بأنها أفضل مني، ولا أستحق أن أكون بجانبها، كنت أشاهد الأفلام الإباحية على الإنترنت لأمارس العادة السرية، كنت أمارسها بجنون، أنا بطل العالم في عدد مرات ممارسة تلك العادة التي لا تسمن ولا تغني من جوع، ولا تروي ظمئي تجاه علاقة سوية مع امرأة، كان هذا الأمر يؤرقني كثيراً، ويزداد حزني أكثر عندما أشاهد شباباً في مقتبل العمر لهم صديقات، بينما أنا وحيد، أواجه الحياة كشجرة أخيرة في الغابة!
في ظهيرة أحد الأيام وأثناء عودتي من المدرسة، وجدت استنفاراً أمنياً كبيراً على الطريق من قِبل الشرطة، وعرفنا من السائق أن مجموعة من الأهالي حاصروا إحدى النقاط على الخط الحدودي واحتجزوا خمسة وعشرين شرطياً بعدما قتلت الشرطة أحد أقربائهم من دون ذنب معروف. صرخ سائق الباص: ثلاثون عاماً من الحرمان عاشها أهالي وبدو سيناء في ظل نظام حسني مبارك، نتلقى وعوداً كاذبة، وخططاً للتنمية ومشروعات تنتهي قبل أن تبدأ، لا ماء للشرب أو الزراعة ولا كهرباء للإنارة أو التنمية ولا خدمات صحية وتعليمية. انتشرت البطالة بشكل رهيب، فاتجه الجميع إلى تجارة الأنفاق، التي ازداد حجم الأموال إثرها وازدادت الخلافات بين العائلات. أصبحت دائرة الأنفاق مقسمة بين أهل سيناء؛ أهل العريش أصحاب الأموال والبضائع، والبدو في الشيخ زويد أهل المخازن والنقل، والقلاعية -مصريون من أصول فلسطينية- يملكون الأنفاق. رد عليه أحد الموظفين:
- الكثير من العائلات تمتلك الآن أسلحة خفيفة وثقيلة، وصل الأمر إلى امتلاك مضادات الطائرات والجرينوف وصواريخ جراد! حتى العائلات الفقيرة جداً كالبراهمة ازدادوا غنى بشكل رهيب جعلهم كعبيد استيقظوا فجأة ليجدوا أنفسهم أسياداً. واستشرى الفساد بانتشار السلاح والأموال لدى الشرطة التي كانت تتستر على عمليات التهريب كي تتقاسم الأموال في تلك التجارة، وانتشرت الأخبار أكثر من مرة عن القبض على أمين شرطة أو ضابط صغير وبحوزته مليون دولار!
وأردف: بعض العائلات قامت بعمل مسيرات بعربات الدفع الرباعي، موضوعاً عليها المدافع الجرينوف في وسط الشارع كاستعراض للقوة المسلحة، لكن ثقة الشرطة بأن لديها القدرة على ردعهم في أي وقت لم يكن لها محل من الإعراب. قامت في بعض الأوقات بإجراء وإصدار خطابات اعتقالات من الجيش لأصحاب الأنفاق، وظلّ هناك صراع بين الأجهزة على تجنيد أكبر عدد منهم، فضاعت هيبة الأجهزة، وظل أصحاب الأنفاق يعملون في وضح النهار، وعندما أصبح من الصعب على هؤلاء الذهاب إلى القاهرة للتمتع بأموالهم في الملاهي الليلية والفنادق؛ عبروا الأنفاق إلى غزة، للتزاوج وإنفاق تلك الأموال في رفح الفلسطينية التي يعتنق غالبية أهلها الفكر السلفي الجهادي، ونتجت عن تلك الزيجات أجيال جديدة تمتلك أموالاً طائلة وأسلحة متطورة، وأيضاً مطاردة في مصر، وكانت تلك الأوضاع بمثابة شهادة ميلاد لتسع عشرة جماعة جهادية في شمال سيناء.

* من رواية بعنوان «2030» تصدر قريباً عن «دار ميريت» في القاهرة
** مصر