لدينا فقرة مثيرة من السيرافي في كتاب رحلات أبي زيد السيرافي. والسيرافي مؤرخ وجغرافي، كلِّف بتحرير كتاب رحلة «سليمان التاجر» إلى الهند والصين، فحرره مضيفاً إليه فصولاً. وقد صدر الكتاب بتحقيق تيم ماكنتوش- سميث بعنوان «رحلات أبي زيد السيرافي: كتاب أخبار الهند والصين»، وضمت إليه رحلة ابن فضلان الشهيرة. والسيرافي منسوب إلى سيراف، الميناء الشهير في الخليج العربي. ويقع الميناء على الجانب الإيراني من الخليج، قرب مدينة بوشهر على وجه التحديد.تقول الفقرة المقصودة:
«ومما حدث في زماننا هذا، ولم يعرفه من تقدمَنا، أنه لم يكن أحد يقدّر أن البحر الذي عليه بحر الصين والهند يتصل ببحر الشام، ولا يقوم في أنفسهم، حتى كان في عصرنا هذا. فإنه بلغنا أنه وجد في بحر الروم خشب مراكب العرب المخروزة التي قد تكسّرت بأهلها، فقطّعها الموج، وساقتها الرياح بأمواج البحر، فقذفته على بحر الخزر [بحر قزوين]، ثم جرى في خليج الروم، ونفذ منه إلى بحر الروم والشام [البحر المتوسط]. فدلّ هذا على أنّ البحر يدور على بلاد الصين والسيلا [كوريا] وظهْر بلاد الترك والخزر، ثم يصب في الخليج ويفضي إلى بلاد الشام. وذلك أن الخشب المخروز [المخاط بخيوط خاصة] لا يكون إلا لمراكب سيراف خاصة. ومراكب الشام مسمورة [ملصوقة بالمسامير] غير مخروزة».
وكما نرى، فقد افترض السيرافي أن خشب السفن العربية المخروز، لم يأتِ من بحر الصين إلى المحيط الهندي إلى المحيط الأطلسي، عابراً من ثم إلى «بحر الروم» أي الجهة الغربية من البحر المتوسط. بل افترض أنه مرّ بطريق أخرى معاكسة، تلتفّ حول الصين وسيبيريا، ثم تعبر إلى المحيط الهادي فالمحيط الأطلسي، ومن هناك إلى بحر الخزر، فالبحر المتوسط.

البحر الأسود وبحر آزوف وبحر الروم | انقر على الصورة لتكبيرها

بالطبع، هذا غير ممكن لأن بحر الخزر (بحر قزوين) بحيرة مغلقة، ليس لها اتصال بأي بحار أخرى. لكن يبدو أن السيرافي حين يتحدث عن «بحر الخزر»، فإنما يقصد بذلك «البحر الأسود» لا «بحر قزوين». أي أنه يسمي البحر الأسود بحر الخزر. دليل ذلك أنه يقول إنّ الخشب خرج من بحر الخزر و«جرى في خليج الروم، ونفذ منه إلى بحر الروم والشام». وخليج الروم هنا هو مضيقا البوسفور والدردنيل. وقد سماهما خليجاً لأنه اعتبرهما لسان لبحر الروم، أي البحر المتوسط.
لكن هذه الفرضية أيضاً خاطئة. فالبحر الأسود ليس مفتوحاً على الأطلسي. فهو مرتبط ببحر آزوف، الذي هو قطعة منه عملياً، وبالبحر الأبيض المتوسط فقط. أي أنه عملياً بحر داخلي، أو بحيرة ما. بالتالي، فخشب السفن العربية الخروز لا يمكن أن يكون قد أتى إليه من المحيط الطلسي، لكي يعبر إلى البحر المتوسط.

بذا، فالمنطقي أن نفترض أنّ هذا الخشب جاء من الخليج العربي، ثم دخل بحر العرب، ودار حول أفريقيا من بحر الصين كما افترض السيرافي، فإنه يكون قد عبر بحر الصين إلى المحيط الهندي، ثم دار حول أفريقيا، وعبر من ثم إلى البحر المتوسط.
وقد افترض أحد أصدقائي أن السيرافي بنى فرضية المسار الشمالي المار من وراء سيبيريا على الملاحة النهرية في القرن العاشر الميلادي (توفي السيرافي عام 330 ميلادية): «لنتذكر أن السيرافي عاش في ذروة عصر الفايكنغ، حيث نشطت التجارة بين الشمال والجنوب عبر الأنهار الروسية الجنوبية، مثل الفولغا والدنيبر، ومنها عبر بحر قزوين والأسود، إلى أسواق بلاد فارس والقسطنطينية. ونعلم من «رسالة ابن فضلان»، الذي سبق السيرافي بنحو قرن، أن حوض الفولغا كان يشكل الجناح الغربي لبلاد الترك، فيما يتصل جناحها الشرقي ببلاد الصين. ويبدو أن عدم تمييز السيرافي بين المسار النهري لتجارة الفايكنغ (الروس) ومسارها البحري تالياً، هو ما زين له فكرة المسار الشمالي» (علي شكري، من تعليق له على صفحتي في الفيسبوك).

الطريق البحري الشمالي | انقر على الصورة لتكبيرها

وهذا فرض ممكن في الحقيقة.
مع ذلك، فإن فكرة السيرافي عن عبور خشب المراكب العربية عبر الطريق الذي يسمى الآن «الطريق البحري الشمالي» فكرة مدهشة. وهذا الطريق حديث وصيفي. فمع ذوبان الجليد، يتشكل في القطب الشمالي طريق يمكن الإبحار عبره من الصين إلى مضيق بيرينغ Bering Strait ثم إلى المحيط الهادي ومن ثم إلى المحيط الأطلسي. وقد بدأت السفن الصينية تمخره فعلياً منذ سنوات، كبديل عن المرور في بحر الهند وبحر العرب والبحر الأحمر وخليج السويس والبحر المتوسط، نحو أوروبا.
وقد كان ممر بيرنغ هذا ممراً برياً مفتوحاً بين سيبيريا والأميركيتين، ثم أقفل في الفترة الجليدية بين 13-17 ألف سنة من الآن. وبهذا انقطعت الأميركيتان عن بقية الكرة الأرضية. وقد اقترح السيرافي، في نوبة خيال مدهشة، وجود الطريق البحري الشمالي الذي نتحدث عنه. وهو اقتراح بديع من جغرافي مهموم برسم صورة الكرة الأرضية وحركة التجارة العالمية فيها انطلاقاً من معارف زمانه.

* شاعر فلسطيني