لأن فلسطين ليست مجرد تاريخ، ولأن لها أصول وبدايات، فقد جعلها المؤرخ الأكاديمي نور مصالحة «في التاريخ»، واقتضب تطور هوية فلسطين وتجربتها عبر الزمان في مُؤلّفَه «فلسطين أربعة آلاف عام في التاريخ» («مركز دراسات الوحدة العربية» ــ ترجمة فيكتور سحاب - صورة الغلاف: مقطع من فسيفساء شجرة الحياة في قصر هشام بن عبد الملك، أريحا، فلسطين/ القرن الميلادي الثامن)، الذي كان قد صدر بالإنكليزية سنة 2018. في الكتاب، تَتَبّع مصالحة تواريخ الأماكن، وآثار الشعوب والحضارات، ولم يتلعثم في تفكيك لغاتها ونصوصها ليقدّم الأدلة القاطعة على «أن الفلسطينيين هم أهل البلاد، وجذورهم ضاربة في أعماق ترابها، وهويتهم الأصيلة وإرثهم التاريخي سبق ولادة الحركة الوطنية الفلسطينية الناشئة في العهد العثماني المتأخر، وظهور الحركة الصهيونية الاستعمارية الاستيطانية».


في المقدمة بعنوان «فلسطين: الاسم الشائع المُستخدَم عبر التاريخ القديم»، تكاد الأسطر تتحرّك نابضة على وقع الآلاف الأربعة من الأعوام في التاريخ، ومثلها الحجج والبراهين لدحض ما يُدرَّس في الغرب من تاريخ فلسطين «على أنه تاريخ أرض، لا على أنه التاريخ الفلسطيني، أو تاريخ شعب». يجزم مصالحة «أن اسم فلسطين هو الأكثر شيوعاً في الاستخدام منذ العصر البرونزي المتأخر (منذ 1300 ق.م) حتى اليوم»، معدّداً ومبرّزاً الاسم كما ورد في التواريخ، والكتابات والنقود، والحفريات، والخرائط بدءاً من العصور الكلاسيكية القديمة، والعصر الحديدي والعصر القديم، وفي الحقبة الانتقالية بين العصور القديمة الكلاسيكية والعصور الوسطى، ومثلها في العصور الرومانية والبيزنطية والإسلامية...
ناقش مصالحة وثبَّت كيف أن أسطورة غزو «الإسرائيليّين» أرض كنعان والروايات الأساسية الأخرى في العهد القديم (أو التوراة العبرية) إنما هي مجموعة كتب وُضِعَت عبر قرون متعدّدة، وهي روايات خرافية غرضها التأسيس لوعي خاطئ، وليست تاريخاً مؤسَّساً على أدلة تخدم الحقيقة وفهم الوقائع. هكذا بيّن «أن شعب فلسطين حتى مجيء الصهيونية السياسية الأوروبية، من خارج السياق الزمني، في بداية القرن العشرين، كان يضمُّ عرباً مسلمين، وعرباً مسيحيين، وعرباً يهوداً. ومن الناحية التاريخية، القول بثنائية العرب مقابل اليهود في فلسطين بوصفه استدعاءً للصراع الفلسطيني - الإسرائيلي الصهيوني، هو أمر مضلِّل جداً، فـ«الفلسطينيون يمارسون انتماءهم لبلدهم فِلَسطين إفرادياً وجماعياً» (ص21).
خلال عشرة فصول وعناوين فرعية لكل فصل يعالجها الكتاب، يضع مصالحة الخط البياني شارحاً البدايات التاريخية والأصول القديمة لاسم «فِلَسطين» (يحرص مصالحة على تشكيل لفظ اسم فلسطين بالتشدّد على وضع كسرة تحت حرف الفاء وفتحة على حرف اللام) في إطار تعدّد العقائد الدينية والملامح المشتركة في البلاد، وسنتوقف أمام الفصلين الأخيرين التاسع والعاشر، وقد حمل التاسع عنوان «أن تكون فلسطين، أن تصبح فلسطين: إعادة اكتشاف فلسطين الحديثة وصورتها الجديدة وأثرها في الهويّة الوطنية الفلسطينية»، والعاشر تحت عنوان «الاستعمار الاستيطاني وتجريد الفلسطينيين: استيلاء دولة إسرائيل على أسماء الأماكن الفلسطينية»، لما للموضوعين قيد دراسة مصالحة من تحديات ومعاناة مستمرة في سياق الصراع العربي - الإسرائيلي، وتبعاته المأساوية على الشعب الفلسطيني تحديداً.
من قصيدة محمود درويش «على هذه الأرض ما يستحق الحياة»، يعرض المؤلف لـ«صورة جديدة لفلسطين 1805-1917»، ويعالج ضمن ما أسماه «كينونة فلسطين» وصيرورة فلسطين التي اقترحها درويش مع آخرين. هنا يخلص إلى أن الفكرة الوطنية لم تأتِ من فراغ وكانت متجذرة في الماضي السحيق، فيما في الواقع لم تفعل الفكرة الوطنية المعاصرة للأمة الدولة سوى إضافة طبقات حديثة أخرى على الهوية المتعددة الطبقات والتواريخ في البلاد. يتطرّق الباحث الفلسطيني إلى مرويات الترحال الغربية عن فلسطين خلال القرنين الثامن والتاسع عشر، من خلال ألوف الكتب والمقالات والمواد الأخرى التي تروي تفاصيل جولات الرحالة الأوروبيين، والروس، والأميركيين الشماليين في الأرض المقدسة. ولكن كما يقول مصالحة، فإن الكثير من هذه المرويات عن فلسطين، بتمويل الرأسمالية العصرية لها، وباستخدامها تقنيّات الطباعة الحديثة، ووسائل النقل الجديدة، «لم تتعامل مع البلاد على أنها أرض تواريخ معيشة، وذكريات مشتركة لدى الناس العادييّن، كما تعاملت معها على أنها ذكريات للمسيحية الغربية – مسيحية تبحث عن هويّة جديدة في وسط الصراع المحتدم بين العقلانية والشك العلمي من جهة، وأصوليّة إنجيليّة حرفيّة من جهة ثانية».
يتوقّف عند «عَبرَنَة» الاستعمار البريطاني لأسماء الأماكن التي كانت وما تزال جزءاً من الصراع السياسي


من هنا يطلّ في الفصل العاشر على «الاستعمار البريطاني وتجريد الفلسطينيين: استيلاء دولة إسرائيل على أسماء الأماكن الفلسطينية»، من خلال «العَبرَنَة» لأسماء الأماكن التي كانت وما زالت جزءاً من الصراع السياسي في فلسطين.
يشير إلى ما بيّنَتهُ باربرا توتشمان في كتابها «التوراة والسيف: هكذا جاء البريطانيون إلى فلسطين» كيف «اجتذب مغناطيسا التوراة والسيف ما لا يُحصى من الحجّاج البريطانيين والصليبيين والمبشّرين وعلماء الآثار التوراتيين والغزاة إلى فلسطين» (ص355). يضاف ذلك إلى ما وصفه وعالجه مصالحة عن اختراع الذات وتحويل الذات إلى شعب محليّ وقديم، منها تغيير أعضاء النخبة الأشكينازية الإسرائيلية الصهيونية المفترسة أسماءهم الشخصيّة. في هذا السياق، يكشف أن بن غوريون كان قد وُلِد باسم دايفيد غرون في روسيا، وكانت أمه تُدعّى شاينديل، وزوجته الروسية المولد وتُدعى باولين مونفايس حين قابلت بن غوريون وتزوجت منه في نيويورك (غيّرت اسمها إلى باولا). وبعد الهجرة إلى فلسطين، صار اسم دايفيد غرون دايفيد غرين، ثم غيّر في ما بعد اسم عائلته واختار اسماً ذا صبغة توراتية، وتحوّل به حرفيّاً إلى معنى الأسد المفترس، أي أن اسم دايفيد بن غوريون هو حرفيّاً ابن شبل الأسد. كذلك، اختار اسماً ذا سمة توراتية لابنته غيؤلا (استرداد)، وابنه عاموس وهو اسم من صغار الأنبياء في التوراة، كما جاء في الكتاب.
يُشكّل الكتاب ثبتاً توثيقياً شاملاً عن فلسطينية فلسطين في سياق صراع الحق والباطل، كما أنه بمثابة المخرز في عيون الصفقات من أي جهة أتت.

*صحافية لبنانية