بيروت ليست بحاجة إلى المناحة العربية الجارية الآن. فقد علّمها قدرها التاريخي، كمدينة وضعتها الجغرافيا في مهب رياح قبائل العرب وفي عين الإعصار الدولي، ألاّ تعتمد، في العمق، سوى على روح طائر الفينيق في أحشائها، تلك الروح المقتدرة والقادرة، بعد كل اشتعال آثم ومروّع، كالذي حصد البارحة مرفأها الحيويّ، على نفض الأنقاض والشظايا، والتحامل على الجراح الرهيبة، ومعاودة الخروج من الفاجعة التي أراد زبانية النار المحليون والجهويون والدوليون، بعد استباحتها وتدميرها، تحويلها في أتونها إلى رماد نهائيّ لا عودة منه.
مالتبي سايكس ــــ «فينيق» (طباعة حجرية ـــ 78.7 × 52.1 سنتم)

لذلك ما فتئت، على امتداد تاريخها البعيد والقريب المثخن بضربات الأقارب والأباعد معاً، تنبعث حية من فواجع اعتقد ممولوها ومنفذوها أنها ستدكها وتدكّ معها رمزية لبنان دكّاً لا نهوض بعده. لأن ثمة أسفل عمائر بيروت التي يُراد تقويضها، وأسفل جذور الأرز اللبناني الذي يراد حرقه، روحاً كونية لا تتقوض ولا تحترق، هي التي ظلت تضخّ إرادة الحياة الشامخة والجمال العالي في اللبنانيات واللبنانيين، وهي التي أنجبت منائر الإبداع والفن المسماة، تمثيلاً لا حصراً، جبران وخليل حاوي وفيروز والرحابنة وأنسي الحاج وميخائيل نعيمة ويوسف الخال وإيليا أبو ماضي وإلياس خوري ونضال الأشقر واللائحة طويلة.. وهي التي بوأت بيروت مكانة سيدة مدائن العالم العربي، والقلب المحرك لحداثته الثقافية والإعلامية، حتى عندما بدأت تزحف عليها رمال صحارى البترودولار لتنضاف إلى زوابع التوازنات السياسية/الدينية الهشة والمحاصصات الطائفية التي أدت جميعها إلى تفرق القرار اللبناني بين متاهات العواصم. لذلك لا تحتاج بيروت إلى المناحة العربية الجارية الآن، بل إلى القوى الداعمة الصادقة التي تمكنها من لملمة الجراح ونفض الشظايا عن طائر الفينيق المهيب في أعماقها غير القابلة للموت..

* الرباط