1- فيلم روائي طويللم أكن أتخيل عندما غادرتُ الفيلم في منتصفه، أنه سيقابلني في اليوم التالي. لم أتخيل أنه سيوقفني في شارعٍ ما، معاتباً، وغير مستعدٍّ للغفران، بينما يقول أنتَ تركتني في منتصفي، أنت لم تقف بجانبي، رغم أنني وقفتُ بجانبك. منحتك فرصة أن تُقبِّل المرأة التي معك بمشهدٍ حميمٍ جاء في موعده، بالضبط في اللحظة التي تمنيتَه فيها، منحتُك وقتاً للغضب في ضجيج مشهدٍ آخر جعل صراخك في وجهها صمتاً في آذان المتفرجين، وأخفيتُ دموعك بمنديلٍ أخرجَته البطلة لحظة لم تأبه بطلةُ حياتك الحقيقية بدموعك.
قال الفيلم أنا من سمح لك أن تلوّح بالمدية في الظلام، عندما أظلمت الشاشةُ تماماً للحظات، حتى أن يدك نفسها فقدت النظر، فلم ترَ لمعة النصل.
ايكاتيرينا ايرميلكينا ــ «مزاج مدينة» (زيت على كانفاس ــ 2017)

كان غاضباً، وكان محقاً في غضبه، ولم تفلح تربيتاتي عليه في التخفيف من ألمه.
كان على الأغلب فيلماً جميلاً، واحداً من تلك التي تستحق أن نكملها للنهاية ولا نفعل أبداً، لأننا نكون قتلنا شخصاً ما في اللحظة التي تسيل فيها الدماءُ على الشاشة.

2- كل مرة، لأول مرة
كلما أَودعوه التراب، كان يستيقظ، كأن المقبرة مهده.
في كل مرة يفعل ذلك، كانوا يعرضون كفنه على حبل الغسيل، دليلاً على أن عودته ليست كذبة. هذا ما يفعله الموتى عادةً حين يقرّرون الرجوع، يتركون للأحياء مهمة إقناع الآخرين بكل ما يمرّره الموت ولا تصدِّقه الحياة.
كانوا يُلبسونه له مجدداً في الميتة اللاحقة، لأن الفقراء لا يستطيعون تدبير أكثر من كفنٍ واحد مهما تعددت الميتات.
وفي كل مرة، كان يخرجُ كجثمانٍ جديد يليق بالصرخات، الصرخات المستعملة التي كانت بدورها تبدو جديدةً كي تليق بشخصٍ يموتُ لأول مرة.
ذات مرة مات ولم يعد. ظل مكانُ كفنه شاغراً على المَنشر، واستغرب الناس، بينما يضيق يوماً بعد يوم الفراغُ الذي كان يحتله، لحساب غيارات المواليد الجدد.
استغرب الناسُ كثيراً، استغربوا بصدق، كأن تلك الأحبال لم تُخلق لملابس الدنيا.

3- الحُب
تلك النظرة الذائبة في الغياب، كانت يوماً ما حدقة، عندما كانت سلامةُ العينين شرطاً للأمل.
ذاك الأنف: لن يتوسط حتى رأسَ تمثالٍ من رخام، فللخلود دائماً شروطٌ ليس من بينها الحُب. خصلةُ الشعر، تلك المتأرجحة فوق الجبهة كبندولٍ فقد ميقاته، تحررت الآن من زيتها، من صبغة اليد الغريبة، من رائحة اللقاء بالوسادة، من الهواء الشحيح المختنق بينها وبين غطاء الرأس، فيما تنفلتُ لتستنشق الهواءَ الذي يخشاه الأهل.
.. والفمُ، آلة الطعام، التي ضحّت مراراً بعملها من أجل بطالة قُبلة.
ذات يوم، كانت ملامح قليلةٌ كهذه كافيةً تماماً، لتَكون وجهاً.

4- محض رجلٍ في مُلصق
كان يُطل على المدينة الكبيرة من سجن صورته، محض رجلٍ يبتسم في ملصق.
رأى ما رأى، رأى أكثر ممن رأوا. كانت مصابيحُ المدينة تنعكس على وجهه فتضيء ابتسامتُه بالتساوي لجميع من يملكون الثمن. عاش كثيراً على نفقة مدينةٍ تضيئها ثقابُ السجائر الرخيصة، ثم، عندما أظلمت المدينةُ تماماً، عندما أطفأتها الحروبُ الخاسرة ونطفات قصص الحب في أكياس الأرصفة، عندما أصبحت الشمسُ قطعةَ عملة وتوسطت أعمدةُ الإنارة بيوتَ اللصوص، أصبحت المدينة تستدينُ ضوءها من صورته، لتُرشد السيارات والتائهين، لتمنح الشرطيين الإضاءة اللازمة لتجريد العابرين من ملابسهم، لتُعرِّي الشحاذين وتفضح تجاعيد اليد الممدودة. حتى القمر، قمر السماء، أصبح دائرةً فضية في سماء سلعته.
محض رجل في ملصق، كم أحيا هذه المدينة، كم أماتها، كم تمزّق كلما اقترب منه طفلٌ عابثاً بجسده، وكم تمزّق كلما غادره طفلٌ، محبطاً، وقد فطن أنه، كجميع من يبتسمون هنا، ليس حقيقياً.

5- في كل مكان خانته المدينة
دائماً، هناك رجلٌ عجوز، عجوز لدرجة أن أحداً لا يصدق أنه كان طفلاً يوماً ما، وبلا فم، بعد أن سرقت يدٌ قديمةٌ كلماته للأبد.
رجلٌ عجوز، يعيش في الشوارع الجانبية، الأزقة المظلمة، في الليل وفي المناطق المعتمة من النهار، يوجد في كل نور محبَط وفي كل مكان خانته المدينة، خلف حوائط الخرابات، تحت شواهد المقابر التي لا يزورها أحد وخلف صخرة البحر الكبيرة التي تخشاها العائلات، يحيا بين أشجار الحدائق الضخمة ووراء أبواب العقارات التي بلا حراس.
في أي مكان يلوذ به رجلٌ وامرأة من خلف الجميع، يظهر ذلك الرجل العجوز، لكي يُفسد القُبل.
كان يحلم بمدينةٍ كاملةٍ من الأشخاص الذين لا يكبرون، وكان يعرف أن الفم أول ما يخون الطفولة، وآخر ما يشيخ. رجلٌ عجوز يقطع طريق الهمسات واللعاب، كأنه يقطن بيتاً أخيراً في تلك المسافة_ التي لن يقبل أبداً أن تتقلّص _ بين شفتين.
* مصر


اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا