أخبرنا بطلميوس، الجغرافي اليوناني السكندري في كتابه «الجغرافيا» الذي ألّفه بين عامي 141- 147 ميلادية عن مدينة في شمال الجزيرة العربية تدعى «ماكورابا». وبدءاً من القرن السابع عشر الميلادي، ربط بعض الباحثين الغربيين بين «ماكورابا» و«مكة»، كما بين إيان موريس في ورقته المهمّة الصادرة عام 2018 عن «مكة وماكورابا العصور الوسطى». وهي ورقة غنيّة استعرض فيها محاولات حلّ لغز ماكورابا. وأعتقد أن نشرها سيسهم في حل مسألة «ماكورابا». لكن عليّ أن أقول أنه يجب الفصل بين الاستعراض التاريخيّ الممتاز لمحاولات حلّ اللغز وبين فرضية موريس القائلة بأن «ماكورابا» يجب أن تكون في جنوب الجزيرة العربية لا في شمالها، استناداً إلى مشاكل خرائط بطلميوس. فهذه الفرضية خاطئة في رأيي، ومن شأن اتّباعها أن يعيدنا إلى نقطة الصفر بشأن مكة وماكورابا. فقد مثّل اقتراح الربط بين مكة وماكورابا في اعتقادي مفتاحاً مركزياً من مفاتيح فهم تطوّر مكة الديني، كما سأبيّن لاحقاً.وكان الجدال قد دار تاريخياً، تبعاً لموريس، حول إيجاد جسر ما بين كلمتَي ماكورابا ومكة. أو قل حول إيجاد تفسير يبيّن كيف تحوّل الاسم مكة إلى ماكورابا عند بطلميوس: «تظل المشكلة أن ماكورابا ومكة كلمتان مختلفتان. وإذا رأينا مكة في النصف الأول من ماكورابا، فإن علينا أن نفسّر النصف الثاني. فإن كانت مكة اختصاراً لماكورابا، فإنّه يلزم لنا أن نوضح كيف حصل ذلك. وإن كانت ماكورابا لقباً لمكة، فإنه يستدعي توضيحاً أيضاً» (إيان موريس).
وقد وضع عندنا الدكتور جواد علي مقترحاً لحلّ المشكلة يقول إن الكلمة ليست اسماً لمكة بل نعت لها: «لفظة مكربة Macoraba عربية أصابها بعض التحريف ليناسب النطق اليوناني، أصلها مكربة أي مقربة من التقريب. وقد رأينا في أثناء كلامنا على حكومة سبأ القديمة، إنّ حكامها كانوا كهاناً، أي رجال دين، حكموا الناس باسم آلهتهم. وقد كان الواحد منهم يلقّب نفسه بلقب «مكرب» أي «مقرب» في لهجتنا. فهو أقرب الناس إلى الآلهة وهو مقرِّب الناس إلى آلهتهم، وهو مقدس لنطقه باسم الآلهة، وفي هذا المعنى جاء لفظة «مكربة»، لأنها «مقربة» من الآلهة، وهي تقرب الناس إليهم» (جواد علي، المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام).
والحقّ أن هذا رأي ضعيف. ولو كان متوفراً للدكتور علي ما هو متوفّر لنا الآن حول ماكورابا لتخلّى عنه.
وعلى أيّ حال، فقد قدمت مقترحات عديدة، غربية وعربية، لحلّ مشكلة ماكورابا فصّلها لنا موريس في دراسته المذكورة أعلاه. وهذه أهم المقترحات في نقاط:
1 - صمويل بوخارت Samuel Bochart اقترح في القرن السابع عشر أن ماكورابا تعني: مكة العظمى. ويبدو أنه استند للفينيقية بشأن كلمة «رابا». ذلك أن الكلمة تعني: العظيم، في الفينيقية والعبرية والآرامية.
2 - في عام 1766 ربط الجغرافي دانفيل J.B.B. d’Anville بين «ربة عمّون» المؤابية، التي هي عمّان الحالية في الأردن، وبين ماكورابا. وقد افترض، تبعاً لفكرة أن رابا تعني العظيم، أن «ربة عمون» تعني «عمون العظيمة» وأن عظمتها آتية من عظمة معبدها.
3 - ألويس سبرنغر Aloys Sprenger اقترح في 1875 أن «ربة» تعني العاصمة. بالتالي، فربة عمون تعني «عاصمة عمون». بناء على ذلك، فماكورابا ستعني: مكة العاصمة.
4 - في 1711 اقترح جون شاردن Jean Chardin أن ماكورابا تعني «مكة العرب» أو «مكة العربية».
5 - في عام 1825، وافق القسّ اللبناني سمعان السمعاني، الذي درس في الفاتيكان، في كتاب له عن الكنيسة النسطورية على أن ماكورابا تعني «مكة العظمى»، لكنّه افترض أيضاً أنها قد تكون تحريفاً لكلمة «محراب» بمعنى المعبد.
6- بعد ذلك صار الفرض الأكثر شيوعاً أن ماكورابا أتت من «مكرب» العربية الجنوبية التي تعني «المعبد». إنها إذا «المكرب»، أي المعبد.
وهناك مقترحات أخرى مثل أنّ الكلمة على علاقة بمأرب. لكن المقترحات أعلاه هي أهم المقترحات في ما أرى.

ماكورابا وربّة عمون
وأنا أظن أن مقترح دانفيل الذي ربط بين «ماكورابا» و«ربة عمون» هو المقترح الأهم بين المقترحات أعلاه. لذا سأنطلق منه لأقدّم فرضيتي الخاصة حول ماكورابا.
فرضية تقوم على أن الاسم ماكورابا مقلوب عند بطلميوس، وأنه في الأصل «ربّة مكو»، كما هو الحال في «ربّة عمون». وليس هذا بالغريب. فاللغات الهندو- أوروبية تعكس المضاف والمضاف إليه مقارنة باللغات السامة. ففي السامية يقال: «كتاب الولد»، أي أنها تبدأ بالمضاف. لكن اللغة الإنكليزية مثلاً تبدأ بالمضاف إليه، أي بالولد: The boys book. عليه، يجب أن نقلب الاسم كي نتمكّن من فهمه: «رابا ماكو»، أي أنه في الحقيقة «ربة مكو». وهذا يشبه تماماً «ربة عمون».
الربة
لكن ربة عمون لا تعني «عمون العظيمة» ولا «العاصمة عمون» كما افترض دانفيل، بل تعني بيت الإله عمون، أو كعبة عمون. كما أن «ربة مكو» لا تعني مكة العظيمة أو مكة العاصمة. فالربّة تعني الدار الضخمة الكبيرة: «دارٌ رَبَّة: ضخمةٌ؛ قال حسان بن ثابت: وفي كلِّ دارٍ رَبَّةٍ، خَزْرَجِيَّةٍ، وأَوْسِـيَّةٍ، لي في ذراهُنَّ والِدُ» (لسان العرب). ولأن معابد الآلهة، ذكوراً وإناثاً، كانت بيوتاً ضخمة، فقد قيل لهذه المعابد: ربة، مثل معبد نجران، أو كعبة نجران: «الرَّبَّةُ كَعْبَةٌ كانت بنَجْرانَ لِـمَذْحِج وبني الـحَرث بن كَعْب، يُعَظِّمها الناسُ» (لسان العرب). الكعبة هي البناء المكعب أصلاً. أما الربة فهي الدار الضخمة. من أجل هذا، فقد كان للإله اللات ربته، أي داره الكبيرة، في الطائف. لكن لأن الغالبية تعتقد خطأ أن اللات إلهة أنثى، فقد ظنوا أن كلمة «الربة» حين ترد مع اللات تعني: الإلهة، كما في حديث عروة بن مسعود الثقفي: «وفي حديث عروة بن مسعود، رضي الله عنه: لما أسلم وعاد إلى قومه، دخل منزله، فأنكر قومه دخوله قبل أن يأتي الربة، يعني اللات، وهي الصخرة التي كانت تعبدها ثقـيف بالطائف» (لسان العرب). وكما نرى، فقد فهمت كلمة الربة في جملة «قبل أن يأتي الربة» على أنها تعني اللات. وهذا غير صحيح. فالربة هنا بيت الإله اللات. يؤيّد ما نقول هذا المقتبس من ابن الأثير المحدث عن هدم ربة اللات في الطائف:
«ومنه حديث عروةَ بن مسعود لمَّا أسلم وعاد إلى قومه دخَل منزِله فأنكر قومه دخوله قبل أن يأتي الرَبّة يعني اللاَّت، وهي الصخرة التي كانت تعبدها ثقيف بالطائف. ومنه حديث وفد ثقيف كان لهم بيت يسمُّونه الرَّبَّة يضاهئون به بيت الله تعالى، فلما أسلموا هدمه المغيرة» (ابن الأثير المحدث، النهاية في غريب الحديث والأثر)
في النص أعلاه رأيان: الرأي الأول يقول إن الربة هي الإلهة اللات وصخرتها. وهذا نابع من فرضية خاطئة تقول إن اللات إلهة أنثى. أما الرأي الثاني فيقول إن الربة هو اسم بيت ثقيف، الذي هو بيت إلهها اللات، الذي هدمه المغيرة بعدما أسلم. وهو ما يرد عند الزمخشري بوضوح تام: «وكان لهم بيت يسمونه الربة كانوا يضاهون به بيت الله الحرام، وكان يُستر، ويُهدي إليه، فلما أسلموا جاء المغيرة بن شعبة فأخذ الكرزين [الفأس] فهدمها، فبُهتت ثقيف» (الزمخشري، الكشاف).
بناء عليه، فلدينا «ربة» للإله اللات، أي بيت الإله اللات، وربة لنجران (كعبة نجران). بذا يحقّ لنا أن نفترض أن «بيت مكة»، أو «كعبة مكة»، أو كعبة قريش، كانت تدعى «ربة مكو»، تبعاً لخبر بطلميوس.

مكو ومكة
إذن، فقد كان هناك إله محدد يدعى «مكو» له ربة، أي معبد كبير. وكان هذا البيت يدعى «ربة اللات»، أي بالضبط مثل بيت الإله عمون الذي كان يدعى «ربة عمون». وهنا يجب أن أذكّر أنني بينت في كتبي ومقالاتي السابقة أنه كان لدينا في مكة في نهايات العصر الجاهلي إلهان هما: ذو بكة وإله آخر له علاقة بطائر يدعى المُكّاء. أما ذو بكة، فقد حدثَتْنا المصادر العربية الكلاسيكية أنه عثر على نقش له في بئر الكعبة، أو في مكان آخر منها. وهذا النقش يقول حسب ابن إسحق: «أنا الله ذو بكة خلقتها يوم خلقت السموات والأرض وصنعت الشمس والقمر، وحففتهما بسبعة أملاحك حنفاء لا يزولون حتى تزول أخاشبها» (ابن اسحق، السيرة النبوية). بالتالي، فقد ظلت الذاكرة المكية تحفظ هذا الإله حتى عصر التدوين.
أم الإله الآخر فقد ذكر الطائر المرتبط به فقط: أي طائر المُكّاء. وقد ذُكر هذا الطائر بشكل غير مباشر في سورة الأنفال 35: «وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاء وتصدية». فالمُكَاء هو صوت طائر المُكّاء. وكان الجاهليون يقلدون صوته في صلواتهم. وهناك روايات توحي بربط هذا الطائر بجبل الصفا. كما أن هناك روايات تربط بين طقس المكو، أي تقليد صوت طائر المكاء عبر الصفير، بهذا الجبل أيضاً. وآية الأنفال تشير إلى طقس المكو هكذا، وتسميه مُكَاء. بذا يمكن لنا أن نفترض أن «التصدية» كانت طقساً مرتبطاً بالمروة. وهو ما يفترض أن الإله ذا بكة كان مرتبطاً بالمروة. ويبدو أن الإله المرتبط بطائر الماء هو الإله «مكو» الذي يرد في اسم بطلميوس (ماكورابا). أي أن النصف الأول في الكلمة «ماكو» يجب أن يقرأ «مكُّو». لم أكن أعرف وقت كتابة كتابي المذكور أن اسم هذا الإله هو «مكو». كنت أعرف أنه مرتبط بطائر المكاء، بل كنت حتى أظن أن اسمه هو المكاء. لكن يتضح الآن أن «مكو» هو اسم الإله، وأن الطائر أخذ اسمه من اسم هذا الإله، لأنه يمثله، ويمكو مكوه، أي يصفر صفيره.
كان هناك إله محدّد يدعى «مكو» له ربة، أي معبد كبير


وتصديقاً لهذا، فقد وردت أسماء ثمودية مركبة تحمل اسم الإله المكاء لكن بصيغة: مك:
«ل ع ب د م ك بن س ل م (و) و (ج م ع ل)
بواسطة عبد مك بن سالم وحزن على...» (الذييب، سليمان بن عبد الرحمن، نقوش قارا الثمودية بمنطقة الجوف بالمملكة العربية السعودية، النقش رقم 74، الرياض 1421 هـ ، ص 69).
كما ورد الاسم مكة بالتأنيث أيضاً:
«ل ع ر ج ب ن ا م ر و ت ش و ق ا ل ع ب د م ك ا ت
بواسطة ع ر ج بن أمر واشتاق إلى ع ب د م ك ا ت» (المصدر السابق، ص 21).
وهكذا فلدينا «عبد مك» و«عبد مكة»، وهو ما يشير إلى وجود إله ذكر وإلهة أنثى يحملان اسمين من الجذر نفسه. كذلك ورد الاسم «مك» في النقوش الصفائية. فقد ورد في النقش رقم ZeGA7 الذي يقول:
«لـ عبد مك بن غنم ذ آل أبسط»
وكذلك في النقش Ms 26 الذي يقول:
«لـ عبد مك بن ردفن وبني».
وورد الاسم كذلك في النقش الحسمائي رقم MNM.3 7:
«لـ أسلم بن عبد مك بن كهل بن عبد مك».
بالتالي، فقد كان «مكو» إلهاً شهيراً في شمال الجزيرة العربية.
ويبدو لي أن هذا الإله هو ذاته «ميكال» الذي عُثر عليه في مسلة من القرن الثالث عشر قبل الميلاد في بيسان بفلسطين. فالاسم ميكال يعني: الإله ميكا، أي الإله المكاء أو الإله مكو. كما أن الملاك «ميكائيل» في المسيحية والإسلام واليهودية هو أيضاً هذا الإله وقد نزل به إلى مرتبة نبوية. وفي «رحلة سنوهي» المصرية من القرن العشرين قبل الميلاد، كان زعيم القبيلة التي لجأ إليها سنوهي يدعى «مكو». وهناك خلاف حول مكان هذه القبيلة. فهناك من رأى أنها في سهل البقاع في لبنان أو في شمال سوريا. وأنا ميال إلى أن منازلها تقع في جنوب فلسطين وشمال الجزيرة العربية.
فوق هذا كله، فقد ورد في الرسالة رقم EA 64 من رسائل تل العمارنة من القرن الرابع عشر قبل الميلاد، الموجهة من «عبدي أشتارتي» إلى الفرعون، كلمتا «مكيتو» و«بكيتي». وقد حيّر معناهما الباحثين أيضاً. وأنا أعتقد أنهما على علاقة بالإلهين مكو وبكة. بالتالي، فهذان الإلهان عميقا الوجود في تاريخ المنطقة.
لكن السؤال هو: إذن، فكيف صرنا مع «مكة» بدل «مكو»؟
والإجابة على هذا السؤال ستكون موضوع مادة قادمة.

* شاعر فلسطيني

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا