تشكل الإسلام في بداياته داخل الإطار الزمني للحرب الفارسية البيزنطية الأخيرة التي امتدّت على مدى 26 عاماً (602- 628 م). فقد حصل حدث البعثة النبوية (610 م) داخل الإطار الزمنيّ لهذه الحرب. ليس ذلك فحسب، بل إنّ هناك احتمالاً أن يكون الرسول قد حضر مشهداً من مشاهد هذه الحرب في سوريا، بناء على نقش عُثر عليه في جبلة في شمال سوريا. وكنت قد تحدّثت عن هذا النقش في مادة نشرتُها سابقاً في ملحق «كلمات» في «الأخبار». «النقش يقول (أنا محمد رسول الله)» إذا صحّت نسبة هذا النقش للرسول، فهو يعني أن الرسول كان في سوريا، وكتب هذا النقش على باب مغارة قرب جبلة.
حافظ آبرو ــــ «الحج: رحلة لملاقاة الإله» (حبر وألوان مائية وذهبية على ورق ــ حوالى عام 1425)

ووجود الرسول في جبلة أمر غريب إلى حدّ ما. فقوافل مكة كانت تتّجه إلى أذرعات ودمشق، ثم تعبر إلى غزة مارة بالخليل والقدس. لذلك، افترضت أنّ تغيّر المسار نتج عن الحرب الفارسية البيزنطية. فقد احتلّ الفرس دمشق عام 913، والقدس عام 614. ويبدو أنّ الحرب فاجأت الرسول وقافلة مكة وهم في أذرعات (درعا) أو في دمشق، ما أجبرهم على السير شمالاً إلى جبلة لا جنوباً إلى غزة. وفي جبلة وضع الرسول توقيعه على باب مغارة جبلة.
وعلى إثر هذه الواقعة المفترضة، وبعدما عاد الرسول إلى مكة، نزلت سورة الروم: «ألم. غلبت الروم. في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون. في بضع سنين الأمر لله من قبل ومن بعد ويومئذ يفرح المؤمنون. بنصر الله ينصر من يشاء وهو العزيز الرحيم» (الروم 1-5). بذا، فهذه السورة نزلت في حدود عام 614. ويبدو أنّ الرسول وجد أصحابه المستضعفين في مكة حزانى لهزيمة الفرس، فنزل الوحي بسورة الروم ليعزّيهم ويقوّيهم. بالتالي، فسورة الروم هي النتيجة المباشرة للهجوم الفارسي على الشام. وغالبية المصادر العربية تميل إلى أن جملة «أدنى الأرض» تشير إلى الشام، وإلى مدينة أذرعات على وجه الخصوص.
وإذا تقدّمنا في الزمن قليلاً إلى الأمام، فإنّه يمكن ملاحظة أن الهجرة النبوية حصلت عام 622 ميلادية. وهذه هي السنة التي بدا فيها أن الإمبراطورية البيزنطية كانت على وشك الانهيار التام تحت ضربات الفرس. وهو ما قد يشير إلى أن الضغط المكي على المسلمين ربما كان قد تصاعد مع الانتصارات الفارسية، الأمر الذي أدّى إلى الهجرة إلى يثرب. وهو ما يعني أن مكة كانت، وبشكل ما، ترى النبي حليفاً لبيزنطة. وليس هذا غريباً. فالهجرة الإسلامية الأولى اتّجهت إلى الحبشة المسيحية حليفة بيزنطة المسيحية.
قوة المسلمين بعد فتح مكة، أدى في ما يبدو إلى إقلاق البيزنطيين


غير أن الروم البيزنطيين استعادوا تماسكهم بعد مجيء هرقل عام 622 م. فبعد عامين من مجيئه، أي في عام 624، هاجم البيزنطيون الفرس في عقر أراضيهم، واستولوا على أذربيجان (ميديا) ودمروا المعبد المجوسي الكبير، ردّاً على تخريب كنيسة القيامة. وكما نعلم، فإنه في هذا العام، عام 624، حدثت معركة بدر، التي بدأت بمبادرة المسلمين. لقد حاولوا أسر قافلة قريش بقيادة أبي سفيان، ما أدى إلى اندلاع المعركة مع مكة. وهو ما قد يشير، وبشكل ما، إلى أن المسلمين ربما كانوا على علم بالتطورات الإقليمية، أي على علم بهجوم البيزنطيين على الأراضي الفارسية وانتصاراتهم هناك. ليس هناك أخبار عن ذلك، لكن المنطق يدفع إلى افتراضه.
وفي عام 625، حصلت معركة أحد التي انتصرت فيها مكة على المسلمين. لكن المعركة لم تستطِع أن تغيّر توازنات القوى. كما أن جيش مكة لم يتابع المعركة رغم انتصاره. ويبدو أن مكة كانت فقط تريد تثبيت التوازنات انتظاراً لما سيأتي به المشهد الإقليمي البيزنطي- الفارسي.
وفي عام 628، حدث الانتصار الأعظم للبيزنطيين في نينوى حيث جرى تدمير الجيش الفارسي، ثم استولى البيزنطيون على المدائن. وفي هذا العام ذاته، أي عام 628، حصل «صلح الحديبية». فهل كان للانتصار البيزنطي دور في جعل هذا الصلح ممكناً؟ أظنّ أن هذا محتمل. ويؤيّد هذا الاحتمال وجود خبر عن أبي سفيان يقول بأن خبر هزيمة الفرس في نينوى وصل إلى أهل مكة في الحديبية. وهذا أمر شديد الأهمية.
لكن يبدو أن المسلمين لم يعرفوا بأمر الهزيمة، وهو ما مكّن أبو سفيان من الحصول على صلح متوازن ومناسب له. ولو كان المسلمون يعرفون، لكان فتح مكة قد حصل في ذلك الوقت ربما، ولكان لرافضي الصلح، مثل عمر بن الخطاب، اليد العليا.
إذا صح هذا، يمكن القول، وبشكل ما، إن مصير مكة تقرّر فعلياً في نينوى عام 228 م. فبعد سنتين، سرعان ما ألغى المسلمون معاهدة الصلح إثر خطأ من حلفاء مكة. ويبدو أنهم كانوا متشوّقين لفعل ذلك بعدما تعرّفوا على التوازنات التي نشأت في نينوى. لقد دام الصلح سنتين فقط، ومع نهايته فتح المسلمون مكة.
التوافق الزمني الذي تتبعناه قد يعني أمراً رئيسياً واحداً: من غير الممكن فهم الصراع بين وثنية مكة وتوحيد الإسلام في يثرب من دون ربطه بالحرب الأخيرة بين الفرس والبيزنطيين. لقد كان هذا الصراع المحلي مرتبطاً بالبعد الإقليمي، وإن كنا لا نمتلك حتى الآن الوثائق الكافية للبرهنة عليه.
لكن علينا الانتباه إلى أن اتّضاح قوة المسلمين بعد فتح مكة، أدى في ما يبدو إلى إقلاق البيزنطيين، الأمر الذي دفعهم في ما يبدو إلى تجميع القبائل العربية على حدودهم لتطويق الإسلام. ولعل هذا هو السبب الذي جعل الرسول يوجه الغزوات (الإقليمية) الإسلامية الأولى نحو البيزنطيين الأقوياء لا نحو الفرس الضعفاء. لقد انهار شهر العسل الإسلامي البيزنطي سريعاً جداً.
وهذا كله سيناريو بحاجة إلى جهد ووثائق للبرهنة عليه.
* شاعر فلسطيني

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا