أحد عشر صحناً سجدت للأرض. صحن واحد بقي من جهاز عرسها. لم يسجد كسائر إخوته، ظلَّ في مدار عينيها يطوف حتى رقَّ قلبه الأبيض من صلاة ومن غيب. كانت أمي تسمّيه «صحن العشاق»، تيمّناً بنقشة روميو وجولييت الزهريَّة التي طوّقت حروفه من زوايا ثلاث، وكنا نسمّيه نحن الصغار «الصحن الدوار»، يشبه صحن برامجنا الكرتونيَّة في سرعته ورشاقته ويشبه بعض صديقات أمي في الحي، لا يهدأ في زياراته وتجواله من بيت إلى بيت. تملؤه أمي أوانَ الطعم ويدور.
فْرَاغُونَارْ ـ «رسالة حب» (زيت على قماش ـ حوالى 1757 ــ تفصيل)

وعندما كنا نصطفّ على مائدة الطعام جلوساً، وكانت صحوننا الجامدة أمامنا، كنا نرى في التماع زجاجه خيلاء من أشرف علينا من عليائه.
ما أنزلته أمي يوماً ليكون مثل بقية رفاقه في متناول ملاعقنا الشرسة.
وكانت ترفعه بعد إتمام مهمَّته الخارجيَّة بعناية فوق الرف لتودعه في مكان أمين بحيث لا توقعه من فوق عرشه يد رعناء أو حركة طائشة.
تُتْرِعُهُ أمي حتى أقصى أطرافه وتختار بعينيها الذوّاقتين أحدنا ليكون سفيرها وحامل الصحن الأشهى، وتختار له الوجهة والطريق.
لم أكن أعرف كيف أُعبِّر. ولكنّ عينَيَّ تفضحانني في الطريق إلى السوق أو في الممرّ الضيّق بين البيوت حيث تتشابك النوافذ مع خطوات الطريق. تتسارع دقات قلبي حين أراها، وأتعثر بأنفاسي، ويتداخل كلي في بعضي كما تتداخل الخيطان حين تلهو بها أيدي الصغار، وأدخل في دوّامة من شعور غريب يتناوب ما بين الحميمية والخوف.
قبل موعد الغداء خطرت لي الفكرة. نزعت ورقة من دفتر التعبير وكتبت الرسالة الأولى، وفيها فعل الحبّ الأوَّل «أحبّكِ». وكنت أريده فعلاً ساخناً وبطعم صريح دون تأتأة أو تلكؤ أو تردد، وهي كتينتنا لا تتيح لي عيناها العسليتان إلا لفترة وجيزة في الصيف.
حان الوقت. جلسنا جلستنا المعتادة قبيل الغداء ولكل منا صحن يغنيه، لكنّ عينَيَّ انصبّتا في عين أمي تسكب صحن العشاق بطعام اليوم، وكانت عيناها تغيبان وراء البخار المتصاعد من الوعاء وهي تكشف عنه الغطاء.
ظللتُ راكعاً في عينيها يملؤني الرجاء بأن أكون سفيرها هذه المرَّة لأنني أعلم وجهة الصحن الدوار بعدما أسرَّت أمي لأختي بأنها ستبعث بِـ«سكبة» لجيراننا الذين جاؤوا ليصطافوا في القرية ويهيئوا مؤونتهم قبل العودة مجدَّداً إلى بيروت.
عددت المرَّات التي أفرغت أمي فيها ملعقتها الكبيرة في الصحن فإذا هي خمس، وشعرت مع الملعقة الخامسة أن قلبي سينخلع من صدري قبيل القرار الحاسم. أعادت أمي الملعقة إلى الوعاء ولا يزال البخار يتصاعد منه ويشكل غيماً مثقلاً بأنفاسنا، وأدارت عينيها في أخويّ الصغيرين... ثمَّ تطلعت صوبي فأدركت من بريق عينيها أنَّها انتقتني سفيرها وحادي صحنها الجميل، فالمهمَّة هذه المرَّة صعبة والطعام ساخن حدّ الغليان والبيت المقصود بعيد نسبيَّاً، ولا يقوى على هذه المهمة الشاقة إلا البكر حسب حسن ظنها.
تذرعتُ بسخونة الصحن، فوضعتُ الرسالة التي طويتها تحته لحماية يدي من حرارة الزجاج. وأنا أرقب في سيري روميو وجولييت يغمرهما موج المرق الساخن. يظهران من طرف من أطراف الصحن ثم يغيبان عن الأطراف الأخرى. وقلبي يطفو ويغرق بين وقع خطواتي وموج المرق وتوقع من سيأخذ الصحن من بين يدي عند الباب البعيد القريب.
تملّكتني الجرأة وصرخت ممتشقاً كل حبال صوتي الخشنة: «يا أَلله»...
وأسررتُ في نفسي: سأترك الورقة معي وأعطيهم الصحن إذا عاكسني القدر وخانني الحظ، وسأمنحها الرسالة مغلفة بنظرة وابتسامة إذا ما أطلت شمسها من خلف صرير الباب.
في الصيف التالي أخذتُ شهادة البكالوريا عن جدارة ونلت ما نلته من تهنئة وكلمات إطراء ومديح، وانتظرت بفارغ الصبر بدء موسم المونة.
في الزقاق الضيّق رُكنت سيارة سوداء لامعة حديثة الطراز. ونزلت منها مجموعة من الأشخاص والأكياس. عند الغداء، في ذلك اليوم، مدَّت أمي يدها إلى صحنها الأثير، وللمرَّة الأولى ارتجفت أصابعها وخانها العزم.
رأيت أمي طريحة الفراش، وصحنها تشظّى على أرضنا الصلبة ستة أجزاء شبه متساوية، في ثلاثة منها كان روميو وحيداً يحاول أن يمدّ يده إلى نصفه الآخر قبيل الغرق فلا يستطيع.
وسمعتُ وشوشات النسوة حول فراش أمي: ابنة الجيران عقدت خطوبتها على شاب ثري يمتلك والده سلسلة من أشهر مطاعم المدينة للوجبات الجاهزة.

* الهرمل/لبنان.

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا