الفكر وليد الاحتكاك بما هو يومي، يأخذ من هذا الاحتكاك حدوده، فالرّاهنيّة غالباً تثوّر فروعاً للفكر كانت لتكون خافتة لولا أحداث تستفحل آثارها ضمن القالب اليومي الذي نعيشه ونعتني بانعطافاته. ولذلك ينتعش مرحليّاً إعمال الفكر في ميدان من المعرفة، وتطغى عليه صفة الإلحاح، ويغلب الميادين الأخرى ويقوّض حيّز تدفّقها في الوعي العام. هكذا كانت للاقتصاد حصّة الأسد في مداولاتنا المعرفية اليومية، لأجل ما تمرّ به البلاد من أزمات، يصعب على العامّة المساهمة في تقديم فهم لخلفيّاتها وأسبابها ومآلاتها في إطار القوانين التي تحكم ميدان علم الاقتصاد. وبالتّالي اكتفى الجمهور بما يتناهى إلى أسماعه من تحليلات للأزمة، واعتمد على «ثقافة الأذن» على حدّ تعبير رولان بارت. وعلى الرغم من تدخّل الاقتصاد في تكوين مساراتهم ورسم مديات طموحاتهم، لعب الناس دور المتفاعل مع الواقع الاقتصادي أو المتفرّج، لا الفاعل والمؤثّر، في حين كان لزاماً عليهم المشاركة في نقد الممارسات الاقتصادية. إلا أنّ تفرّد الاقتصاديين برسم مسارات الدولة الاقتصاديّة أو نقدها، حال دون تحقّق الانخراط الجماهيري في هذا الميدان. من هنا كان فهم الاقتصاد وممارساته وتجلّياته ضرورة تحتّم على كلّ فرد الإلمام بهذا العلم. وهذا ما دفع يانيس فاروفاكيس ــــ وزير المالية الذي انتخبه اليونانيون بعد الانهيار الاقتصادي، لإدارة الأزمة في مواجهة أوليغارشية عالمية ـــ إلى كتابة مؤلّفه «الاقتصاد كما أشرحه لابنتي» (2017) الذي تُرجم أخيراً إلى العربية (دار الساقي)، من أجل «التحدّث إلى الشبيبة عن الاقتصاد»، موجّهاً خطابه إلى ابنته، من أجل الإجابة على تساؤلاتها المتعلّقة بالمسائل الاقتصاديّة، وتسهيل مهمّة الإحاطة بالمفاهيم الاقتصاديّة وتبسيطها، كونها ضرورة محتّمة على كلّ أفراد المجتمع، وبمن فيهم ابنته.


جاء الكتاب تمظهراً لقناعة فاروفاكيس بأنّ «الاقتصاد أكثر أهميّة من أن يُترك للاقتصاديّيين» وأنّ الكتب التي تبسّط العلم شديدة الأهميّة «في عالم يشنّ فيه رئيس الولايات المتّحدة حرباً مفتوحة عليه، ويتجنّب فيه أولادنا المقرّرات العلميّ» كما يصرّح في مستهلّ كتابه. يزخر كتاب فاروفاكيس بالتمثيل من دون أن يصبح القارئ حبيس الأمثلة، ويعجّ بالقصص المستلهمة من المسرحيات والروايات التي خُطّت بالتوازي مع تشكّل مجتمعات السوق، لما تحويه من دلالات تتعلّق بقراءة الكُتّاب للتحوّل العالميّ الذي اختبروه وتخوّفاتهم من عواقب هذه الانعطافة. هذا إلى جانب قدرة فاروفاكيس «البروكرستيّة» (أسطورة بروكرست تحكي قصّة إنسان كان يعمد إلى تقصير البشر عبر تقطيع أطرافهم أو تمديدها من أجل التناسب مع حجم سريره) في توظيف موسوعيّة إلمامه بالميثولوجيا اليونانيّة، في خدمة تبسيط المطالب الاقتصادية العويصة، وتصوير اقتصاداتنا تصويراً تراجيديّاً بوصفها قوى سلبيّة تفتّت المجتمعات، وتعمد إلى تفكيك الروابط التي تكوّنها.
لعلّ الكلمة المفتاح التي ترد كثيراً في مثل هذا النوع من الكتب، هي كلمة «الاقتصاد». ولهذا كان فاروفاكيس حريصاً كلّ الحرص على إزاحة الغباش عما هو عليه بالفعل هذا العلم، ونقد صورته كما يظهر ويراه الجميع، لأن اقتصاداتنا، وبفعل تستّرها وراء آليّات إيديولوجيّة خرافيّة معقّدة لإخفاء خداعها، فقدت كلّ شيء إلّا اسمها، وقُدّمت للجمهور على أنّها ليست هي. لذلك أجبرت خدعة الاستيلاب، التي أخفت حقيقة المسائل الاقتصادية، «فاروفاكيس» على الحفر في تاريخ هذه المسائل وكيفيّات نشوئها ونشوء طرائق طمس جوهرها، الّتي ولدت بالتزامن معها، لإعادتها إلى مساراتها الصحيحة، وتبيان الشقوق التي تشوب هذا النّسق، ما جعل الكتاب مزيجاً من التّأريخ، والتحليل السجالاتي لهذا المسار التاريخي الذي أنتج عالماً لا يجيد خلق المتعة والسعادة، أي مجتمع السوق.
بدأ هذا «العالم الكئيب» بالظهور من وجهة نظر فاروفاكيس، عندما اختبرت بريطانيا أقسى التحوّلات وأكثرها بشاعة في التاريخ، في حين ازدهرت تجارة الصّوف والحرير وغيرهما من السلع عالميّاً، وقرّر ملّاك الأراضي طرد الأقنان واستبدالهم بقطعان الخراف التي يمكن استثمار صوفها في الأسواق العالميّة. أمر دفع الأقنان المشرّدين لتسوّل قوتهم مقابل خدمات يمكنهم تقديمها، فتكوّنت بذلك أسواق بيع قوّة العمل، وتكوّنت أسواق الأراضي بعدما جنح ملّاك الأراضي إلى تأجير أراضيهم بدلاً من الإشراف المرهق على عمليّة الإنتاج. هكذا كان الانتقال، من مجتمع بأسواق إلى مجتمع سوق يتمّ فيه تسليع كلّ شيء، تقوده رغبة الربح التي ولّدها الجشع بما هو جزء من الطبيعة البشرية، وانتصار القيمة التبادليّة على القيمة الاستعمالية، مرسياً بذلك أنماط إنتاج جديدة. ساقت أنماط الإنتاج المستحدثة الحرفيين والعمّال الرّاغبين في استئجار الأراضي، لخوض غمار السوق وتقلّباتها إلى الاستدانة من أصحاب الثروات الذين وجدوا فرصة لمراكمة الأرباح عبر الفوائد، بدون عناء يُذكر، فكان الدَّين بذلك الرّوح الّتي تحرّك الاقتصاد، «فلا ربح من دون دين، ومن دون ربح لا يوجد فائض» بتعبير فاروفاكيس. وهنا اكتسبت المصارف جوهريّة اقتصاديّة لم تحظ بها قبل هذه الانعطافة.
تسهيل المفاهيم الاقتصاديّة وتبسيطها كونها ضرورة محتّمة على كلّ أفراد المجتمع


يصوّر فاروفاكيس المصرفي كمسافر عبر الزمن، يجلب المال من مرحلة زمنيّة متقدّمة، متأمّلاً من السيرورة الاقتصاديّة الانتحاء بالمشاريع الربحيّة نحو النجاح، من أجل سداد القيمة المقترضة وتحقيق الربح، وهذا ما يجعل من ضرورة توافر الأموال المقدّمة كقروض مسألةً هامشيّةً وعرضية، حيث يمكن خلق المال من العدم واكتسابه بعد مدّة زمنيّة معيّنة. وهنا تكمن قدرة المصرفيين على ممارسة «السّحر الأسود» أي قدرتهم على إيجاد المال من لا شيء. إلّا أنّ هذه «العمليّة الّتي تولّد الربح والثروة، هي ذاتها التي تولّد الانهيارات الماليّة والأزمات» بتعبير فاروفاكيس نفسه. فسرعان ما يؤدّي انفلاش أعداد القروض المجلوبة من المستقبل، الناتج عن حالة الازدهار، إلى عدم القدرة على تحقيق الأرباح الكافية لتسديدها، «وعند هذه النّقطة، يبزغ إدراك أنّ المستقبل الذي يتّكل عليه الجميع، لن يأتي إلى الوجود. وعندما تعجز تلك المقادير الكبيرة من القيمة المقترضة من المستقبل عن التحقّق، ينهار الاقتصاد» كما يقول فاروفاكيس.
لا يسمح المقام بالتوقّف الطويل عند المفاتيح التي يقدّمها فاروفاكيس في كتابه، إلّا أنّ أهميّتها تكمن في إتاحة الفرصة للجماهير لممارسة الاقتصاد في يوميّاتها، بعيداً عن اختزال إناطة هذه الممارسة بالاقتصاديين. هكذا نصبح في حالة من التماهي بين الممارسة اليومية العادية وممارسة الاقتصاد، تتجاوز البتر الحاصل بين النظرية والواقع. ولعلّ هذا ما دفع سلافوي جيجك، الفيلسوف المتشائم، الذي يجد في ضوء الأمل المنبعث من نهاية النّفق قطاراً يتّجه نحوك ليدهسك، إلى التأمّل بحبّ النّاس لفاروفاكيس، فيقول، كما ستجد على الغلاف الخلفيّ للكتاب: «واحد من أبطالي القلائل، ما دام النّاس يحبّون فاروفاكيس، سيبقى هناك أمل».

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا