يتذكر أوريجا أنه كان طفلاً حين قتل أباه بهذه الطريقة: ألصق إصبعاً بجبهته، متخيّلاً أنه مسدس، وأطلق دوياً من فمه «بوم».كان الطفل على وشك أن يضحك لهذه التمثيلية الطفولية. كان على وشك أن يطلب إعادتها بعد أن يغلق أبوه عينيه مفتعلاً الموت ويفتحهما، لكنه لم يفعل، لأن الأب لم يفتح عينيه أبداً.
أشرَقَ ثقبٌ في جبين الرجل، ثقبٌ حقيقي، عميقٌ وغائر، انفجرت منه على الفور الدماء، الدماء الحقيقية، الداكنة والثقيلة واللزجة.
ماكس إرنست ــ «المدينة بِكامِلها» (زيت على قماش بتقنية الفْرُوتَاجْ، 1935-1936).

أول ما فكر فيه الطفل فور أن سقط رأس أبيه فوق صدره، أن يسترد إصبعه، كأن ذلك كفيل بإعادة الرجل إلى الحياة التي كان قد غادرها بالفعل.
وبأنانية الطفل الذي خشي أن يُفقده الموتُ لعبته، أعاد على الفور السبابة إلى يده، بالطريقة التي يُخفي بها قاتلٌ سلاحه، تلك الطريقة التي لا يمكن لطفلٍ أن يعرفها، لكن الخطر يُعلم الجميع كيف ينجون إذا ما أصبحوا قتلة.
منشغلاً قليلاً عن أبيه القتيل، ظل يتأمل الإصبع الذي ينبعث الدخان من تحت إظفره، باحثاً ــ بما يتيحه وعي سنواته الخمس ــ عن الطريقة التي يمكن بها أن يصبح فوهة.
سيظل ينظر إلى هذا الإصبع، سيظل يُشهره كلما فكر في قتل شخص، أو في قتل نفسه، وقد أدرك للأبد أنه أكثر من مجرد تهديد: أنه يكفيه أن يقرر، لتنطلق الرصاصة.
 الآن، وبعد مرور خمس وعشرين سنة، يتأمل أوريجا الإصبع نفسه، والذي دون سبب رفض أن يكبر بعد ذاك المساء البعيد من سنة 2020، محتفظاً بأبعاده لحظة القتل. إصبعه المجرم، الذي ظل بريئاً في يده، ظل إصبع طفل.
لقد عاد ليتذكر تلك الواقعة بسبب المرأة الأجنبية التي يجلس قبالتها الآن. إنها المديرة الفنية لـ«جاليري شُغل كايرو/ ساحة فنون المدينة»، حيث تَقدم أوريجا لنيل منحة.
«المسز»، هكذا يطلقون عليها. المسز ولا شيء آخر، وكأن تلك الكنية التي يعوزها الاسم لتكتسب جدواها، كانت في ابتسارها هذا هويةً مكتملة.
لقد صافحَته للتو. حانت منها نظرة خاطفة لتلك السبابة القزمة بين الإبهام والوسطى، وعندما دفنت كفها في كفه أحس بيدها تتلمس الإصبع القاتل. يحدث ذلك مع أي شخصٍ يصافحه لأول مرة، خاصةً حين يكتشف أن الإصبع ليس مبتوراً، وليس ضامراً أيضاً: إنه وحسب عضو قرر ألا يغادر طفولته، فيما ترك بقية الجسد تتمدد في العالم. ذات يوم سيشيخ ذلك الجسد، ثم سيفنى، فيما سيواصل إصبعه طفولته، كأنما بقدرته على القتل حصل على أبديةٍ خالصة، لا يهددها التراب.
تباطأت يدها وهي تنسحب من يده، كأنها، بتلكؤها هذا، تمنح إصبعه ما يكفيه من الوقت ليُدلي باعتراف، ولذلك كان هو من نزع يده، رغم إدراكه أن هذا يجافي اللياقة. بدوره، ألقى نظرةً على الإصبع الذي نجا من جديد، كأنه، بنظرته تلك، تأكد أنه لم ينطق.
ها هو يجلس قبالتها وقد استعاد يده، متأملاً للمرة الأولى صفاء عينيها الزرقاوين حد أنهما تُشعران الجالس قبالتها أن هذا هو لون نظرتها.
بينهما سطح مكتب، شاسعٌ لدرجة أشعرته لوهلة أنه يفصل بين شخصين يحيا كل منهما في عالمٍ مختلف. كان المكتبُ عبارة عن طاولة دائرية بدت منسجمةً مع الدائرة الأكبر التي تمثلها الغرفة، تتوسطها فجوة ضيقة تمثل مركزها المُفرغ، تجلس فيها المسز متخبطة بحوافها المحكمة التي تُلامس جسدها، والتي تسمح لها بالكاد بتحريك مقعدها. إنها حبيسة ذلك المكتب الذي بلا فرجات، ولا يعرف أوريجا الطريقة التي تتمكن بها من مغادرته.
على محيط المكتب تتراصّ مجسمات متنافرة كلها من المصغرات، بدت له تعاويذها الخاصة لطرد الأرواح الشريرة. بينها لمح أوريجا ماكيت لبرج القاهرة. أثار رعدةً في أوصاله فور أن رآه، مبتعثاً من جديد طفولته التي يحاول منذ دخل هذه الغرفة إزاحتها، ويبدو كل ما فيها مُصِرَاً على ألا ينجح. بداخل حقيبة يده الصغيرة التي يعلقها بوضعية كروس الآن، كان أوريجا يحتفظ بنسخة طبق الأصل من هذا المجسم، وبنفس مقاييسه.
كان الحائط المقوس خلف ظهر المسز شاحباً، كأنه استمدّ لونه من وجهها. في منتصفه، أعلى رأسها بالضبط، عُلقت داخل إطار دائري صورةٌ قديمة بالأبيض والأسود لوجه طفلة، لم يساور أوريجا الشك في أنه وجه تلك المرأة قبل سنوات بعيدة يصعب تخمين عددها.
يغدو الناسُ أشد شبهاً بصور طفولتهم عندما يصبحون عجائز. يسهل التعرف إلى ملامحهم القديمة في الصور، كأن الأطفال يولدون فقط لكي يشيخوا، وفقط في هذه اللحظة، يعرفون أي وجه يمتلكون. كان أوريجا يؤمن بذلك، وقد أشعرته لحظات الصمت، بينما يتأمل المسز، أن هذه المرأة كبرت بما يكفي لتعود طفلة.
أجال النظر بين صورة المسز المُعلقة على الحائط ووجهها، وبطريقته في عكس الأشياء، تخيل: ماذا لو كان الوجه في الصورة هو الحي، والوجه في الحاضر هو الميت؟ وسأل نفسه: لو أن أحد هذين الوجهين هو الوجه الحقيقي لتلك المرأة والآخر هو الزائف، أيهما سيختار؟
ظل صامتاً، بينما يُقلب أسئلته الوسواسية بسرعة ليصل إلى حلول نهائية قبل أن يقطع كلامُ المسز الصمت. وكان أوريجا قد تعلم أن أي شخصين يتقابلان للمرة الأولى يظلان صديقين إلى أن يبدأ أحدهما بالتحدث.
من جانبها، منحته المسز ما يكفيه من الصمت بعد جلوسه إلى المقعد الدائري المخصص له على قوس المكتب، بانحرافةٍ مائلة لا تجعلهما أبداً في مواجهةٍ مباشرة. بدا أنها تجيد التواطؤ على تلك اللحظات الثقيلة التي يُكون فيها الناس صورتهم الأولى عمن يقابلون، والتي كثيراً ما تكون هي نفسها صورتهم النهائية.
- ماكيت القاهرة مشروع فني طموح.. يهدف لتشييد ماكيت مصغر للمدينة، بنسبة محددة هي 1: 35. بإتمامه ستنهض نسخة كاملة طبق الأصل من القاهرة في لحظة تاريخية محددة.
كانت هذه العبارة أول ما نطقت به المرأة. وهنا اكتشف أوريجا أنها منذ دخوله الغرفة وحتى الآن لم تكن نطقت حرفاً ولو على سبيل الترحيب.
سينصت لها بدءاً من الآن، حيث يُفترض أن يبدأ إنترفيو، حيث ينبغي أن يقدم نفسه بأفضل شكل، أن يُقنع تلك المرأة، تلك «المسز»، أن لا أحد بوسعه تزييف قلب القاهرة أفضل من هاتين اليدين، اللتين لم تُقدما نفسيهما بأفضل صورة، لأن في إحداهما، في اليمنى بالذات، ثمة سبابة لم تكبر.
- يدشن الجاليري ماكيت القاهرة كمشروع استعادي، جوهره إحياء ذاكرة المدينة. إنه أحد المشاريع المستدامة للجاليري.. والنسخة الجديدة ستحمل عنوان ماكيت القاهرة 2020.. بهدف توثيق صورة العاصمة المصرية السابقة قبل ربع قرن من الآن.
ربع قرن. بدا له التعبيرُ مخيفاً، أما الذاكرة الوحيدة التي أحيتها كلمات المسز فيه، فكانت ذاكرته الفردية.
- ربما كنتَ أنت حينها لا تزال طفلاً.
- كنتُ في الخامسة.
نظرت تلقائياً لإصبعه، لكنها ما لبثت أن استردت نظرتها، لتصمت مطولاً كأنها تمنحه الوقت الكافي ليتأمل ما قالت. لكن أوريجا لم يفكر في كلماتها، بل استغرقه صوتها. ذكره إيقاع فصحاه مع لكنته الشامية ونبرته الحادة الرفيعة بدوبلاج أفلام طفولته المعربة، ليُضاعف من ارتداده لصور ماضيه. ولاحَظ أن ثمة كلماتٍ بعينها تنطقها هذه المسز بصوتٍ مضخم يمكن التعبير عنه إذا نُقِل لنصٍ أدبي بتمييزه بفونط بولد.
أخيراً رفعت يديها المتقاطعتين عن المكتب، لتَظهَر من تحتهما بطاقتان مقلوبتان على ظهريهما، كأنها كانت تخبئ ورقتي لعب. بالفعل بدتا لأوريجا كورقتي كوتشينة متطابقتين، خاصةً وأن المسز أزاحتهما متقاطعتين نحوه بحفيف زاحف على الخشب، ما أشعره أنه في مقامرة. ودون أن تطلب، قلَب أوريجا البطاقتين ليكشف وجهيهما، كأنه فهم قانون اللعبة مباشرةً.
كانتا صورتين فوتوغرافيتين: إحداهما للجاليري الحقيقي، والثانية لنسخة مصغرة مقلدة من نفس الجاليري، وقد صُورتا بزاوية تجعلهما بالحجم نفسه في الصورتين. مع نظرته الأولى أدرك أوريجا أنهما تخصانه.
حسبما أعلنت المنحة، سيتم توزيع من سيقع عليهم الاختيار لإتمام ماكيت مكتمل، بحيث يتولى كل منفذ تشييد حي أو منطقة كوحدة عمرانية. في خانةٍ فرعية، تُرِك للمترشح حق اقتراح المنطقة «التي يرى أنه جدير بتمثيلها كصانع مصغرات» حسب نص الشروط والأحكام.
دون تردد كتب «وسط البلد»، ما يعني قلب القاهرة، بما في ذلك الجاليري الذي يجلس بداخله الآن. منذ وُلد لم يعِش أوريجا خارج وسط البلد، إنه مكتوب في شهادة ميلاده كمكان للولادة، وهو ما يُتاح لعدد قليل جداً من الناس، وبخاصة لو كانوا فقراء. كان وطنه، حتى أن خروجه لأي حي آخر في القاهرة كان بمثابة سفرٍ مرهق لأرضٍ مجهولة تتحدث لغةً أخرى.
اشترطت استمارة الترشح إرفاق «صورة مجسم فني داعم» يمثل ماكيتاً لأحد أبنية المنطقة التي يرغب المترشح في أن يكون منفذها، بحيث يعرض مهارته في محاكاتها. كمقامر يدفع بكل أوراقه في لعبةٍ واحدة، قرر أوريجا أن يكون هذا النموذج هو جاليري شُغل كايرو نفسه.
لقد أرسل الصورتين إلكترونياً، وكما هو واضح، فقد تولت إدارة الجاليري طباعتهما كبطاقتين من الورق المقوى.
كان يتأمل الصورتين المتقاطعتين من طرفيهما السفليين كساقي عجوز جالس، عندما عاد صوت المسز متسائلاً:
- أي الاثنين هو الجاليري الأصلي وأيهما المقلد؟
خمن بسعادة داخلية أن مصدر سؤال المرأة قد يكون عجزاً حقيقياً منها عن التفرقة وليس سؤالاً إجرائياً يؤكد سلطتها. لكن، وبعد تأملٍ عميق، شمله رعبٌ حل محل الزهو، ليجيب أوريجا صادقاً: مش عارف.
عجزه هذا وارتباكه، كانا صادقين ومربكين له وليسا نوعاً من التباهي المدروس أو المناورة.
ظلت المسز تنظر له، تتفحصه، مثلما يتفحص شخصٌ ما قطعة أثاث ينبغي أن تكون نادرة. وبدلاً من أن تُبدي اندهاشاً، أو تطرح سؤالاً مرتاباً متشككاً إن كان هو فعلاً صاحب النموذج، بدا أنها، ببساطة، تُصدقه.
طلبت منه بإشارة أن يعيد لها الصورتين، فأزاحهما على سطح المكتب بنفس طريقتها. ومجدداً، تركت صمته يأخذ وقتاً كافياً قبل أن تتأكد أنه لن يضيف كلمة.
بالتفاتةٍ هينة استدارت المسز بمقعدها الدوار لتواجه الحائط الخلفي. دون مقدمات، أضيء الحائط متحولاَ إلى شاشة، وبرزت في يدها عصا غريبة، شعر أوريجا أنها تجسدت من العدم. كانت عصا نحيلة يبرز منها طرفٌ طويل أشد نحافة من محيطها. اكتشف أوريجا حين دقق فيها النظر أنها على هيئة برج القاهرة أيضاً، وقد تعرض لستريتش صار معه محيطه الاسطواني أشد نحافة وطولاً.
كان ثمة فولدر أصفر وحيد عملاق أعلى يسار الشاشة الحائطية. نقرته بطرف عصاها، فظهرت الصورتان من جديد، متجاورتين ومُكبرتين إلى حجم ضخم هذه المرة لتقتسما الشاشة، لكن حتى وفق هذه المقاييس، بدا العثور على فارقٍ واحدٍ بينهما مستحيلاً.
بعد لحظاتٍ من التأمل، أو ربما من المقارنة اليائسة، أدارت المسز جانب وجهها نحوه، وكأنها تفصح أخيراً عن بادرة إعجاب بدت مثل شمسٍ قزمة في سماء وجهها الجليدي.
- كلاهما يبدو أصلياً.
بعفويةٍ، ودون أن يفكر، عقب أوريجا صادقاً: كلاهما يبدو مزيفاً.
بطرف العصا المدببة بدأت تُحرك إحدى الصورتين باتجاه الأخرى حتى تنطبق عليها. لقد كانتا بالفعل مثل ورقتي كوتشينة متطابقتين تماماً، وما إن تغطي إحداهما الأخرى لتحل محلها حتى تختفيا معاً كما في نقلةٍ صائبة من لعبة ورق افتراضية.
استدارت من جديد لتواجه أوريجا، تاركةً الشاشة التي اختفت منها الصورتان لصورة طفولتها التي بدت أيقونةً غامضة تُحلق منفردة في سماء الديسكتوب ذات الزرقة الاصطناعية.
- ألهذه الدرجة يمكن لمكانٍ مُتخيل أن يمحو مكاناً حقيقياً؟
سألت المسز. بدا له سؤالها موجهاً لنفسها رغم أنها ألقته بينما تنتظر الإجابة من فمه.
- إن رصاصةً مُتخيلة يمكن، أيضاً، أن تمحو شخصاً حقيقياً.
قال أوريجا ذلك ثم أشهر إصبعه، وصوبه باتجاه رأس المرأة.
(*) الفصل الافتتاحي من رواية «ماكيت القاهرة» الصادرة حديثاً عن «منشورات المتوسط/ ميلانو».