لولا السكين التي غرزتها في كتف ابن عمّي، لما نجوت من الموت، ولا عشت لأروي حكايتي، التي بدأت ذلك الصباح، حين لفح الحرّ صلعتي السمراء، وغيظي يتّقد على الذين رحّلوني من القرية، قبل أن يعتريني فزع من المشهد الذي قابلني. قطّبت جبيني وتعرّج ظلّي على شجرة عرعر. ضربت عصاي على الأرض مُعترضاً سبيل شياهي، عددتها من واحد إلى ستّة، ثمّ اقتدتها إلى البيت، حيث لمحت ابنتي لويزة، التي لم تتعدّ الثانية عشرة من عمرها، منحنية ببدنها النحيف مثل قلم رصاص أمام الباب، تُلاعب شقيقها سالم، الذي تعلّم لتوّه المشي، عارياً سوى من قميص أخضر يعلو سرّته، وكلّفتها بصوت صاخب بأن تدخلها الزريبة. استقامت تنفّذ أمري، فسقطت عصاي أمامها، بعدما قذفتها كرياضي يقذف رمحاً، وحين نادت تسألني: «وين ماشي أبّيْ؟»، كنت قد ابتعدت مخلّفاً غباراً ينتفض تحت رجليّ.عدت إلى مكان الجثّة المُلقاة على ظهرها بساقين منفرجتين، على أرض مُنحدرة بين أعشاب الشيح: «يا سيدي ربّي!»، مسّدت ذقني الذي لم أحلقه من أسبوع، ثمّ رفعت راحة يدي اليُمنى إلى صدغي، مُرتاعاً من منظر دم مُتيبّس يتمدّد بين منخرها وكتفها اليسرى، قبل أن أسدّد بصري إلى فتحة قميصها البيج، حيث ظهر عقد ذهبيّ، «اللهم اغفر لها»، مستشعراً وخزاً في معدتي.

الجزائر العاصمة (وكالة worldiscount)

دقّقت في شعرها الفاحم الطويل الذي ينتهي بخصلات نصف ملتوية. عيناها بنيّتان ورموشهما مخضّبة بالكُحل، بينما أنفها المكوّر مثل حبّة عنب، معفّر بذرّات تراب. ورأيت ندبة على فكّها السفلي متخيّلاً لوعة أهلها لما حلّ بها. أوحت لي قسمات وجهها أنّها في العشرينيات من عمرها، ولاحظت أنّها أنحف من زوجتي، ببشرة أكثر نعومة، متكهّناً أنّها ممرّضة أو مُدرّسة، محتاراً: كيف وصلت إلى هنا؟ لا امرأة عاقلة تُغامر وحدها في هذا المرج، الملتصق بالمدينة، مثل زائدة دوديّة (سمعت هذا التشبيه من موظّف في البلديّة)، حيث تكثر نباتات سامّة وأخرى طبيّة، لا يتزاحم فيه سوى فقراء بنوا مساكن عشوائية لهم من قصدير وقصب وقشّ، على أمل أن تعطف عليهم الدنيا، فينتقلوا إلى بيوت موصولة بماء وكهرباء.
وددت أن أضع يدي على جبهتها وأتلو آيات من القرآن، «كلام ربّي يشفع للموتى»، لكنّني عجزت عن لمسها. ما زلت مسكوناً بخجل من النساء، ورثته من قسوة أمّي معي في صغري، فحين يتقاطع طريقي مع امرأة لا أعرفها، أخفض بصري وقد يحمرّ خدّاي إلى أن تغيب عن ناظريّ. عاينت قرطاً مزيّناً بكريّة لؤلؤ على شحمة أذنها وتنبّهت إلى أنّ ابنتي لم تلبس يوماً حلية، ثمّ تراجعت خطوتين مخافة أن يدهمني أحد ما في غفلة منّي ويتّهمني بجرم لم أرتكبه. فطنت إلى ساعة تبرق في معصمها الأيمن، طلاء ورديّ على أظافرها الطويلة، وشرد ذهني عمّا قد يوجد في حقيبة اليد التي استقرّت بين ساقيها: مال أم ذهبٌ؟
هرولت إلى حاجز أمن يقع على طريق يُحاذي المرج. يراقب وثائق المركبات ويحرّر مخالفات لمن يفرطون في السرعة، وينتصب كلّ يوم من السابعة صباحاً إلى الثامنة مساءً. تتناوب عليه دوريّتان. أدّيت التحية للشّرطيين المداومين، بفكّ يرتجف، ثمّ أردفت كلمات متقطّعة: «ميّتة... شفتها... طايحة...»، مُشيراً بسبّابتي إلى مكان الجثّة. مدّ أحد الشرطيين عنقه صوبي: «أنت مريض!»، وهو يحكّ ربلة ساقه اليمنى. «أرواح... تشوف... بعينك...». تبادل الشرطيان نظرة استغراب، ثمّ ركبت معهما في سيّارتهما واتّجهنا إلى المحلّ الذي أرشدتهما إليه.
سلكنا طريقاً ترابية تتخلّلها أحجار ناتئة وسواقٍ جافّة، بينما انطلقت تلاوة للقرآن من مكبّر صوت أحد المساجد القريبة، إيذاناً باقتراب صلاة الجمعة، واستفحلت مخاوفي من أن يتّهماني بما لم أفعل.
غطّى أحد الشرطيين يده بقفّاز وتحسّس نبضها بمُلامسة عنقها: «يا ستّار!»، ثمّ بصق على يساره. رفع رأسها على مهل، قبل أن يُخاطب زميله: «عندها ضربة على القفا».
اتّصل من جهازه اللاسلكي (تعلّمت كلمة اللاسلكي من الإمام)، وحدّد لمحدّثه موقعه. لم يمض ثلث ساعة، قضيناه في صمت، نبصر جراداً يتواثب، غزا وجه المدينة منذ أشهر ولم يعد يُثير فضول أحد، إلى أن وصلت سيّارة إسعاف. تقدّم طبيب لمعاينة الميّتة ولم يستغرق دقائق معدودة، قبل أن تصل سيّارة شرطة أخرى. نزل منها رجلان، أحاطا المكان بشريط أصفر. أخذ أحدهما صوراً للضحيّة، بينما التقط الآخر حقيبة يدها من دون أن يتبيّن فحواها، وانصرفا. سمعت سائق سيّارة الإسعاف يهمس إلى الطبيب: «هذو أولاد حرام»، مشيراً برأسه إلى جيراني، الذين شرعوا يطلّون من مساكنهم ويتطلّعون بأبصارهم من دون أن يتجرّأ أحد منهم على الاقتراب. رأيت لويزة، من بعيد، أمام باب البيت، تطوّق شقيقها بذراعيها، ثمّ حمل مُسعفان الجثّة، بعد تغطيتها بإزار أبيض، وسألني شرطي:
– اسمك؟
– عاشور حديري.
بينما أضاف الآخر وهو ينزع قفّازه من يده: – اركب معنا!
عاجلني خوف وتذكّرت أنّني لم أرع أغنامي بما يكفي. أسوقها في العادة ثلاث ساعات أو أكثر، أوجّهها إلى سرط الشيح، الذي يُقلّل عطشها، أو أتيح لها أغصان الخروب المورقة التي تزيدها سمنة. فكّرت أن ألتمس من الشرطيين السماح لي بأن أمدّ لها الخبز اليابس، الذي تجمعه ابنتي من أحياء وسط المدينة، أو أطلب من زوجتي القيام بذلك بدلاً منّي، لكنّني تهيّبت ردّة فعلهما، فتجهّم وجهيهما أوحى إليّ أنّ الضحيّة قريبة لهما.

(*) فصل من رواية للكاتب الجزائري سعيد خطيبي، صدرت هذا الأسبوع عن «نوفل/ أنطوان هاشيت» في بيروت، تحت عنوان «نهاية الصحراء»