في مجموعته الشعرية الجديدة «الوداع في مثلث صغير» الصادرة في طبعتين متزامنتين (دار ميريت في القاهرة ــــ ودار المتوسط في إيطاليا) بعد تسع سنوات على آخر إصداراته («منتصف الحجرات» ــ دار ميريت 2013)، يعود الشاعر والمترجم أحمد يماني ليشيّد عبر الوداع عالماً كاملاً. هذا العالم يتكون من جسد ومدينة ومكان وزمن، وعلاقة حب سابقة. ينسج من الوداع بيتاً ونفساً، ثم يودعهما في النهاية. كتب يماني ستة دواوين مختلفين من حيث فكرة كل ديوان وشكل كتابة القصيدة في كل واحد. ينتمي «يمش» ـــ كما يلقبه أصدقاؤه ــــ إلى مجموعة شعراء قصيدة النثر المعروفة باسم «قصيدة النثر التسعينية» التي تضم شعراء أمثال: إيمان مرسال، علاء خالد، ياسر عبداللطيف، مهاب نصر. يبدأ ديوانه بخيط، ومن هذا الخيط الذي ينفلت تدريجاً، نرى حياةً ثانيةً، حيث الوداع هو الذي بناها.

يبدأ يماني ديوانه بإهداء إلى كاظم جهاد «لا رغبة لديّ في سرد أهوال الرحلة»، ويستهله بقصيدة «الخيط». ينفلت هذا الخط تدريجاً، ليكتب شعراً عكس رغبته في إخفاء أهوال الرحلة، ينفلت الخيط ويشتد أحياناً بقسوةٍ مفاجئة. يحكي عن أهوال الرحلة وما فيها من سأم، وحبيباتٍ سابقات، ووداع، وخوف من اللغة، وخوف من نسيان الكلمات. تصبح القصيدة في هذا الديوان سلاحاً لمحاربة هذا كله، ويصبح الديوان سلاحاً فتّاكاً لردم كل هذا وبنائه عبر شبكة من خيوط الوداع. يكتب يماني في قصيدة «الخيط»: «أمد يدي على استقامتها، أخفضها وأهز رأسي/ وأحاول أن أشرح في لغة تعلمتها كبيراً/ ذلك الخط الذي يمتد من جبهتي حتى القدمين/ الخيط الذي ينسل وينقطع ويهدأ قليلاً/ لكنه يعود لشد أجزائي، ويطوحني على أقرب مقعد/ أحاول أن أشرح ذلك في لغة تعلمتها صغيراً». تصبح اللغة ذات دلالة ومعنى في فك هذا الخيط وشده. تصبح اللغة هي التي تمد الخطّ على استقامته، وتثني الشاعر عن الوداع وتحرضه على كتابة القصيدة. في ديوان بعنوان «الغناء بصوت خفيض» للشاعر الإسباني أجوستين بوراس (ترجمة يماني) يقول أجوستين: «لماذا نبحث، نحن الشعراء/ عن النجاح في الحياة/ إذا كان هذا موجوداً في العيش للأبد داخل القصائد».
يبدو أحمد يماني مثل صديقه بوراس، وجد نفسه عبر خيط الوداع هذا. في منتصف الديوان، يضع يماني قول أبو يزيد البسطامي «كنت اثنتى عشرة سنة حَدّادَ نفسي»، وحَدّادَ هنا صيغة مبالغة من صنع الشيء تشكيله، ولعلّ يماني شكّل نفسه عبر الوداع، عبر تأمله نفسه من خلال هول رحلة وداعٍ طويلة.
بعد أن يشكّل الشاعر نفسه عبر الوداع، تأتي لحظة ينقطع فيها الخيط، أو يلين خيط الشعر لتتكون القصيدة. تتكون القصيدة ويفكر يماني في الأصدقاء، ويخاف أن يفقد الكلمات واللغة، ويحن إلى الماضي، يصور الشاعر أيضاً تجربة الموت التي مرّ بها عبر فقده أصدقائه (مثل محمد أبو السعود/ بالوما)، ثم يصرّح عن لحظة تشكيله بصورة شديدة الصدق، وهي لحظة عندما يرى الإنسان موته عبر موت الآخرين، فيكتب: «لحظة تجربة الموت/ يعيشها كل منا في أوقات مختلفة». ثم يوجه أسئلته إلى الشعر كاتباً: «هل أنت كائن حي؟ هل نعرفك وأنت تمضي في الشارع كما تمضي حشرة صغيرة تدور دورات حول نفسها وتصدر صوتاً يصم الآذان/ لماذا تبدو دائماً في هذه الهيئة؟ هيئة القاتل الملائكي وهو يستعد لقبض الأرواح وإطلاقها في عالم لا نعرفه/ قد لا تكون فيه أنت عظيماً بل مجرد رنة خشنة لأقدام أرواح تحتضر بلا انقطاع في السلام السماوي». يسأل الشاعر الشعر لا بغرض الاستفهام عن موقعه من الحياة، بل متسائلاً عن معنى الحياة بدونه. ترجم يماني أيضاً بيتاً شعرياً لبوراس يقول فيه: «في الشعر وحده/ تجد حياتي ملجأ/ حيت تلتئم الجروح التي أنتجها بنفسي». وربما هذا أفضل معنى للشعر، أن يصبح البيت والعش والمكان الذي وصفه باشلار في «جماليات المكان» (ترجمة غالب هلسا) هو القصيدة. ثم في النهاية يكتب قصيدة بعنوان «الوداع» موضحاً مغزى الكتابة نفسها. يوضح المغزى قائلاً: «كان الوداع مهيباً، جليلاً، عظيماً، ناشباً نفسه في التاريخ القصير، ومؤكداً على جدية الأمر. كانت الكلمات شعراً طويلاً وقبلة أولى/ كان الوداع تفكيراً فيما لا تريد/ التركيز على ما لا تريد»، ليركز الشاعر على ما لم يرده ويحكي أهوال رحلة الوداع التي كشف نفسه عبرها. وكانت الكلمات كلها شعراً ربما دليلاً على أن ما يتصفى من تجربة حياة الشاعر الحقيقي هو الشعر، الشعر الذي هو الأدب كُلّه.
ينتمي إلى جيل «قصيدة النثر التسعينية»


يشتد الخيط في بعض الأحيان إلى أن يئن الحنين ويعود الشاعر إلى منزل حبيبته. يكتب يماني «القديس الذي لم يُوجد أبداً» كما يلقبه يوسف رخا، يكتب واصفاً حنينه: «سوف أراك في منزل صغير بحديقة صغيرة، محاط بأسوار عالية وسوف أمر من أمام المنزل وفجأة أندفع إلى الداخل ولا أجد إلا إطارات لوحات صغيرة ملقاة على الأرض والتراب يكسو كل شيء، لكن ما إن أخرج حتى أرى المنزل مضاء وأنتِ من وراء الستارة تجولين في الغرف، أحاول الاندفاع من جديد، لكنّ ستاراً خفياً يصيبني بالغثيان، فأرجع للشارع وأعاود الاندفاع للداخل في اليوم التالي ولا أجد سوى إطارات اللوحات يعلوها التراب. لم أفهم أبداً تلك اللعبة». في هذا الجزء من القصيدة، يصوّر يماني ما قاله غاستون باشلار في «جماليات المكان»: «البيت هو ركننا في العالم. إنه، كما قيل مراراً، كوننا الأول، كون حقيقي بكل ما للكلمة من معنى. وإذا طالعنا بألفة، فسيبدو أبأس بيت جميلاً».
يجبر الديوان القارئ على ما وصفه هنري ميللر في «ثلاثية الصلب الوردي» (ترجمة أسامة منزلجي)، يقول ميللر: «وإذا كنت أقرأ كتاباً وتصادف أني وقعت على فقرة رائعة أغلق الكتاب على الفور وأخرج لأتمشى، المسألة ليست التعرف على روح شقيقة، بل هي مسألة التعرف على ذاتك، أن تقف وجهاً لوجه مع ذاتك، إنك بإغلاقك الكتاب تواصل عملية الخلق». وربما هذا ما فعله «القديس» بنصل سكين الحنين، وضعك أمام ذاتك بلا أي جدار مانع يمنعك من التعرف عليها، منحك عملية خلق جديدة لذاتك.