لدينا هذا النقش المهم من منطقة نجران في الجزيرة العربية. وقد نشره على تويتر مشعل بن عبدالله بتاريخ 11-9-2022، وقرأه بشكل سليم على الشكل التالي:«أدم
عنن
فكلة
نعمان».
النقش مكتوب بطريقة الحراثة. فالسطر الأول يبدأ من اليمين إلى اليسار، في حين يبدأ الثاني من اليسار إلى اليمين، وهكذا.
وأهمية النقش تكمن في وجود كلمة «فكلة» مصاحبة للاسم الشهير في الجاهلية «نعمان» بصيغة مضاف ومضاف إليه. فما معنى كلمة «فكلة»؟ وماذا يعني أن يكون هناك فكلة للنعمان على وجه الخصوص؟
وجواباً على هذا السؤال، فأنا أقترح أنّ كلمة «فكلة» تنويع على كلمة «أفكل» التي تعني: سادن، خادم الصنم، أو كاهن ما. وقد وردت كلمة أفكل في نقوش شمال وجنوب الجزيرة العربية: «وردت في المعينية وفي اللحيانية لفظة «افكل» «أفكل» بمعنى رشو وسادن، أي القائم بأمر الصنم، والسادن له. فورد [في النقوش] «أفكل ود»، أي سادن ود، وتقابل هذه اللفظة لفظة «أبكلو» Apkalu في الأكادية. وعرفت السادنة بـ «أفكلت وأفكلة»» (جواد علي، المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام). أما في نقشنا هذا، فقد جاءت الكلمة بصيغة «فكلة» لا أفكل. لكنها تعني الشيء ذاته في اعتقادي: أي السادن، أو الخادم، أو الكاهن.


أما في العربية، فقد وردت كلمة «أفكل» لوصف رعدة الجسد: «الأَفْكَلُ، بِالْفَتْحِ: الرِّعْدة مِنْ بَرْد أَو خَوْفٍ... وَفِي حَدِيثِ عَائِشَةَ: فأَخَذَني أَفْكَلٌ فَارْتَعَدْتُ مِنْ شدة الغَيْرة» (لسان العرب). يضيف الزمخشري عن ابن عباس أن: «الله تَعَالَى أوحى إِلَى الْبَحْر: إِن مُوسَى يَضْرِبك فأطعه فَبَاتَ وَله أفكل. هُوَ رعدة تعلو الْإِنْسَان من غير فعل» (الزمخشري، الغريب في نهاية الحديث والأثر. ويبدو لي أن لهذه الرعدة علاقة برعدة المتنبّئين حين يحل عليهم وحيهم، إذ ترتعد أجسادهم حينها وتنتفض، كعلامة على نزول الوحي.
ويخبرنا توفيق فهد أن الكلمة في لغات أخرى في الجزيرة العربية مرتبطة بالرعدة، وبالدين: «والواقع أن الكلمة الأكادية «بكاللو» يعثر عليها في شكل «أفكل» في اللغة اللحيانية، والتدمرية، والنبطية، وفي المعينية، وأخيراً في اللغة العربية، حيث ثبت كلقب أو كموصوف معناه: الرعدة، أو: النفضة. فما المعنى الذي يحمله هذا اللقب؟ إن ج. ففرِيِه يعرفه بهذه الكلمات: شخص مرتبط بمنصب ديني، وعرّاف أو ساحر يستخدم فنه، عند الحاجة» (توفيق فهد، الكهانة العربية قبل الإسلام، دار قدمس، ص 89-90).
بناءً عليه، يحق لنا أن نفترض أن كلمة «فكلة» في النقش تعني «كاهن»، وأنها صيغة مبالغة من «أفكل». إذا صح هذا، يكون نعمان النقش إلهاً له كاهن محدد، أو لبيته سادن، يحمل صفة «فكلة»، وهو الذي حفر النقش الذي نتحدث عنه.
وكنت جادلت سابقاً بأن النعمان شخصية إلهية في الجزيرة العربية، وأن شيوع اسمه كاسم لأفراد كثيرين مثل «النعمان بن المنذر» الشهير نابع من ذلك. أي أن الناس وقتها كانوا يسمون أبناءهم باسم هذا الإله. لكن هذه هي المرة الأولى التي نعثر فيها، حسب علمي، على اسم هذا الإله في نقش محدد. كما كنت جادلت أيضاً بأن سيرة الملك النعمان بن المنذر تختلط بسيرة هذا الإله بحيث لا نعود قادرين على التفريق بين السيرتين. ومن المحتمل أن الملك الشهير كان كاهناً لهذا الإله. وهذا سر اختلاط سيرتيهما، بل وسرّ اسم الملك «النعمان». فالخادم البشري، الكاهن، يحمل اسم إلهه الذي يكهن له ويعبده.

شقائق النعمان
يؤيد هذا أن النعمان بن المنذر مرتبط بشقائق النعمان كما هو الحال مع أدونيس الإله القتيل، الذي طلعت الشقائق الحمر من دمه عندما قتله الخنزير البري. فهي زهرة الإله القتيل. بالطبع لا يقال لنا في المصادر العربية إنّ الشقائق طلعت من دم النعمان، لكنه ترتبط به بشدة. فهي زهرته. بل إنه يقال لك إنّ كلمة «الشقائق» تعني الدم، بل وإن اسم النعمان ذاته يعني الدم أيضا: «وَقِيلَ: النُّعْمان اسْمُ الدَّمِ وشَقائِقُه قِطَعهُ فشُبِّهت حُمْرَتُهَا بِحُمْرَةِ الدَّمِ، وَسُمِّيَتْ هَذِهِ الزهرةُ شَقائِقَ النُّعْمان وغلَب اسمُ الشَّقَائِقِ عَلَيْهَا» (لسان العرب). يزيد اليافعي: «قيل شقائق النعمان نسبت إلى الدم لحمرتها» (اليافعي، مرآة الجنان). وهكذا فالشقائق قطع الدم. أكثر من ذلك، فالنعمان حمى هذه الزهور، أي عملياً جعل لها حمى مجدداً: «إنّما أضِيفَ [زهر الشقائق] إِلَى ابنِ المُنْذرِ لأنّه جاءَ إِلى مَوْضِع وَقد اعْتَمَّ نَبتُه من أَصْفَرَ وأحْمَرَ وإِذا فِيهِ منْ هذِه الشقائِقِ مَا راقَهُ وِلم يرَ مِثْلهُ، فقالَ: مَا أَحسَنَ هَذِه الشَّقائِقَ: احموها، وكانَ أَول مَنْ حَمَاهَا فسُمِّيَت شَقائِقَ النُّعْمَان» (الزبيدي، تاج العروس). وقد حمى النعمان زهور الشقائق لأنها رمزه كإله قتيل. وهناك من يقول إن الشقائق نبتت على قبر النعمان بعد موته.
ولأن شقائق العمان رمز لإله قتيل، فإنها تذكر في موضع القتل والدم: «وتساقى القوم كأساً مرة/ وعلى الخيل دماء كالشقر». والشقر والشقرات هي شقائق النعمان. «الشَّقَرات: الشقائق وإنَّما سُمِّي شقائق النُّعْمان: لأنّ النُّعْمان بنى مجلساً وسماه ضاحكاً وزرع هذه الشقرات، فسمي شقائق النُّعْمان» (الدارقطني، المؤتلف والمختلف).
حمى النعمان زهور الشقائق لأنها رمزه كإله قتيل


ويلقب طائر الشقراق، أو الشرقرق كما نسميه أحياناً، بالأفكل: «والأفكل: الشقراق» (الصاحب بن عباد، المحيط في اللغة). ولقبه هذا يعني عملياً: الكاهن والسادن. وربما سمي بذلك لأن حمرته تطغى على ألوانه الأخرى. لكن ربما أيضاً لارتباطه بـ «الشقر»، أي بشقائق النعمان. ومن الصعب أن يفوت المرء التناسب اللفظي بين «الشقراق» و«الشقر». بذا، فقد يكون الشقراق أيضاً رمزاً للإله النعمان ولشقائقه. ولأنه مرتبط بالدم الأحمر للشقائق، فإنه طائر مشؤوم، إذ يقال: «أشأم من الأخيل، وهو الشقراق» (الميداني، مجمع الأمثال). يضيف الميداني: «قال ابن الأعرابي: الأخيل: الشقراق، ويتطيّرون منه للطمه، ويسمونه مقطع الظهور» (الميداني، مجمع الأمثال). وهكذا فهو طائر لطّام نوّاح، وهو يقطع الظهور. وقاطع الظهور هو الموت. وهو كذلك لأنه يبكي إلهه القتيل ويلطمه.
بناءً على ذلك، فالنقش النجراني يقول: «أدم- عنن [عنان؟] كاهن [أو سادن] النعمان».
وهو ما يعني أنّ هناك شخصاً يدعى: أدم- عنن، أو آدم- عنان، يعمل كاهناً للإله النعمان، أو سادناً لبيته وصنمه.

* شاعر فلسطيني