قبل الفنّ وصولاتها وجولاتها فيه، كانت لور غريّب (مواليد دير القمر1931 ــ 2023) تتحلّى بروح الدُعابة التي تُشيع الضحك والفرح حيثما حلّت بين الأصدقاء. روحٌ جميلة احتفظت بها حتى أيّامها الأخيرة.‏ هل أُصيبت بيروت بغيبوبة ثقافية؟ يرحل كبارها تباعاً ولا يلتفت أحد إلى رحيلهم. بعد غياب الفنانة ميراي حنين، والرسّامة يولاند نوفل، ها هي لور غريّب تودّعنا بصمت كأنّ المدينة طوت صفحةً من تاريخها كمختبر طليعيّ للثقافة العربية. تنتمي لور غريّب (رفيقة درب الممثل الكبير أنطوان كرباج) إلى رعيل الستينيّات. فنّانة عصاميّة، حرّة، مختمرة القدرات التشكيلية التي تتوازن فيها «الشطحة» الخياليّة والحرفيّة العقلانية. أعمالها التخطيطيّة والتنقيطيّة (العديد من لوحاتها منجز بأسلوب التنقيط، أي نقطة نقطة حتى ينقطع النفس) تنطوي على رؤية ناضجة. تفاصيل منمنمة تستلزم صبراً وجَلَداً كبيرين، وكانت لور تملكهما. الحبر الأسود مادتها، والريشة طَوعَ يدها، تُرسل إشارات عاطفية، في حوار مع تراث الخط العربي. لطالما سعت لور إلى هوية عربية للوحتها، على خُطى سعيد عقل. خطوطها المنقّطة غير ثرثارة، إنّما في الوقت عينه لا تُختزل. أسلوبها مكثف وغنيّ بالتفاصيل، كريشة أو قلم معماريّ مبلّل اليد بعرق الحرفة، وغالباً ما تبدأ من نقطة لتصل إلى تكوينات مجدولة بعصب وعضل وبنيان أسطوريّ من ذاكرة «ألف ليلة وليلة».
(ليز غودير)

رسمت بالفحم أيضاً وبالألوان الزيتيّة على قماش، أو كانت تكتفي بالحبر الصينيّ الأسود كونها من جيل حفظ الأسود والأبيض في الكتب وعبر شاشة التلفزيون. لكن في المرحلة الأخيرة، راحت تتفلّت من أسر تقنيات الماضي وأساليبه كأنّها أرادت لنفسها حرية متجدّدة، مشاغبة أحياناً ومستفزّة، عبر إقحامها الخيطان الملوّنة والصور والكولاج في لوحتها. وثمة دائماً ما هو مبهم في أعمالها، ليس لناحية الشكل فحسب، بل لناحية المدّ والجَزر والفراغات المثيرة تحديداً.
دوائر حلزونية منقّطة لا تنتهي، كمحاولة بحسب تعبيرها «لإدماج عالم لم أتمكن من الاندماج فيه، غير أنني أدمجه في عالمي الخاص». يواجه النقّاد صعوبة في الكتابة عن لا نهائية اللوحة لدى لور وهي أقرب إلى فنّ الأرابيسك، المُغلق على التفسير. كنّا نرى في المرحلة الأولى من تجربتها الفنيّة كتلاً داكنة وخطوطاً عريضة، إذ كانت تخشى الخط الرفيع وأخطاءه الظاهرة. كأنّما كانت تتهيّأ في بداياتها لتحرير الخطّ والنقطة كي ينفلشا على سطح اللوحة بلا خوف أو تردّد، إذ باتت تملك سيطرةً عليها.
كانت شديدة القُرب من عالم المثقفين في زمن بيروت المتألّق، فكانت تحضر لقاءات مجلّة «شعر» وربطتها صداقة بمؤسّسها يوسف الخال وشعراء المجلة، حتّى إنّها غامرت شعريّاً وأصدرت مجموعة أولى بالفرنسية عام 1960 تحت عنوان «أسود الزرقات»، أتبعتها بعد خمس سنوات بمجموعة قصصية بعنوان «إكليل شوك حول قدميه»، وأرفقت قصصها برسوم بالأسود والأبيض. وإذ كانت تمتلك لغتها الفرنسية، فقد ترجمت بعض القصائد العربية إلى هذه اللغة ونشرتها في «لوريان» ثمّ شقت طريقها إلى الصحافة في «لوجور» (اللتين انضمتا لاحقاً وأصبحتا «لوريان لوجور»). ومن هناك انتقلت إلى صحيفة «النهار» ناقدةً في قسمها الثقافي تحت إشراف الشاعر شوقي أبي شقرا الذي عرفته من أيّام مجلة «شعر».
شاركت في العديد من المعارض الجماعية، ثمّ قدّمت أعمالها في معارض منفردة، خصوصاً في «غاليري جانين ربيز»، فيما أقامت ثلاثة معارض مشتركة مع ابنها الفنان مازن كرباج بين عامَي 2001 و 2015 . يحفظ كلٌّ من «متحف سرسق» والمتحف البريطاني و«مؤسسة سارادار» أعمالاً لها ثابتة على جدران الفن والذاكرة. من نقطة البداية إلى نقطة النهاية، رسمت لور غريّب خطّاً ودرباً مشَتْهُما بتأنٍّ وإبداع.

* تُقبل التعازي اليوم السبت ابتداءً من الساعة الواحدة ظهراً لغاية السادسة مساءً في صالون «كنيسة سيدة العطايا» (الأشرفية).