في «عين الملاحة» في منطقة صفد قرب بحيرة الحولة في شمال فلسطين، عُثر على أول دليل مؤكّد على تدجين الكلاب، وعلى علاقة الإنسان بها. فقد عُثر في أحد المدافن على شخص دُفن مع جروه. وُضع الجرو فوق رأس الميت، الذي كانت يده تلامس جروه. يعود المدفن إلى الفترة النطوفية المبكرة، أي إلى 14 ألف سنة من الآن.
رجل عين الملاحة الذي دفن مع جروه الذي يظهر هيكله العظمي إلى يسار رأس الرجل


لكننا لن نتحدث هنا عن الرجل وجروه، بل عن سبع حصيات عُثر عليها في «عين الملاحة» تعود إلى الفترة النطوفية المبكرة ذاتها. وقد عثر على الحصيات مدفونة على عمق ثمانية أمتار تحت الأرض، وكانت مطروحة بالتشكيل نفسه الذي طرحها فيه مَن طرحها في ذلك المكان.
ولو أنك عرضت صورة هذه الحصيات على شخص ليس له معرفة بتاريخها، فسوف تخطر على باله فكرة أنه أمام تشكيل، أو تركيب فني من العصر الحديث. وليس هناك شك في أن من شكّل الحصيات بهذا الشكل، كان يحاول أن يمثّل صورة بشري. فهناك في الأعلى الرأس، وتحته الذراعان الممتدان أفقياً، ثم هناك الجسد، أي منطقة الصدر المكونة من ثلاث حصيات، ثم هناك أخيراً الرِجلان المبتعدتان إلى الأسفل قليلاً. إنه تشكيل بسيط جداً، لكنه متقن جداً وبارع بشكل مدهش.

التركيب كما عثر عليه لحظة الاكتشاف على عمق ثمانية أمتار تحت الأرض


لم يُثر التشكيل الاهتمام إلا من زاوية واحدة: طرافته. غير أنني أعتقد أن هذا التشكيل أبعد من أن يكون نتاجاً طريفاً لشخص يلعب بالحصى. أي أنه ليس تشكيلاً فنياً فقط، بل هو تشكيل فني- ديني. تشكيله الفني البسيط جميل وظاهر للعيان بالطبع. لكنّ طابعه الديني هو الذي يحتاج إلى توضيح. وهو في اعتقادي يختصر الفكرة الدينية في عصره، وفي العصور الحجرية التي سبقته حتى العصر الحجري القديم الذي يبدأ قبل 40 ألف سنة من الآن.
ويمكنني الزعم، وباختصار، إن الحصيات السبع تمثل نجوماً سماوية سبعاً كانت في ما يبدو تعتبر مسؤولة عن التغيرات التي تحصل في الطبيعة، عن الفصول، لكن ليست الفصول الشمسية التي نعرفها الآن، أي عملياً نجوم توقيت. ولأن هذه النجوم تتحكّم بالتغيرات الفصلية على الأرض، فقد نُظر إليها كآلهة في ما يظهر. بالتالي، فالهدف من التشكيل ديني أساساً.
وكنت في كتابي الذي صدر العام السابق «سنة الحية: روزنامات العصور الحجرية» قد تحدثت عن وجود تشكيلات ذات طابع ديني تكون أحياناً ثنائية، أو ثلاثية، أو خماسية، أو سباعية. أي أنه يجري أحياناً اختصار السباعية إلى ثنائية أو ثلاثية أو خماسية. لكنّ التشكيلين الثلاثي والخماسي هما الأشد شيوعاً. غير أنّ التشكيل السباعي موجود يمكن العثور عليه في أنحاء مختلفة من الكرة الأرضية.
أما التشكيل الخماسي، فنحن نعثر على أقدم نماذج له من العصر الحجري القديم الأعلى على أقل تقدير. وهناك نموذج جيد في كهف لاسكو في فرنسا، وفي الصالة التي تعرف باسم «صالة الحصان الأصفر» على وجه الخصوص.

الحصان الأصفر- كهف لاسكو- فرنسا


ويقدّر بأنّ عمر لوحة الحصان الأصفر هذا بعشرين ألف سنة أو أكثر. وكما نرى في الصورة، فهناك خمس لطخات لونية أعلى كفل الحصان. هذه اللطخات تمثيل للتشكيل الخماسي، أي للنجوم الخمس. وهي كما نرى مقسومة إلى قسمين يتكونان من: ثلاثة واثنين. وهذا التشكيل الخماسي يساوي القسم الأعلى في تشكيل حصيات عين الملاحة، كما نرى في الصورتين أدناه.

فالحصاتان في الأعلى عديل للطختَين- النجمتين إلى اليمين على ظهر الحصان الأصفر. ولاحظ أن إحدى الحصاتين كبيرة والأخرى صغيرة كما هي الحال في اللطختين.



أما الحصيات الثلاث، فعديل للّطخات الثلاث إلى اليسار. ولاحظ أنه يوجد في هذين التشكيلين الثلاثيين عنصر أصغر من رفيقيه. والفارق بين التشكيلين أن تشكيل عين الملاحة رغب في أن يشكل شكلاً بشرياً، لذا غيّر قليلاً من تموضع تركيبته الثلاثية، جاعلاً العنصر الأصغر في الوسط.
الحصاتان الأخريان ليس لهما وجود عند الحصان الأصفر. أي أنّ تشكيل الحصان اختصر إلى خمسة بدل أن يكون سبعة. لكنّ هناك احتمالاً، ولو كان ضئيلاً، أن تكون اللطختان الكبيرتان قرب ذيل الحصان تمثيلاً يكمل السباعية، لكنّ حبرهما قد فشا واتسع. لكن هذا مجرد فرض لا يمكن إثباته.
في أي حال، فإن الفكرة الخماسية موجودة أيضاً في الشكل الهندسي إلى اليمين من اللطخات الخمس، كما نرى في الصورة أدناه.

فلدينا خمسة خطوط صنعت خمس خانات، اثنتان منهما مغلقتان. أما الخانات الثلاث الباقيات فمفتوحات. وهكذا فلدينا خماسية هندسية تنقسم إلى: اثنتين وثلاثة.



أما حين تختصر الخماسية إلى ثلاثية، فنجدها في كل مكان في الكوكب الأرضي عموماً. وأدناه صورة لها على مدخل Newgrange في إيرلندا. لكن الثلاثية تأخذ هنا أشكالاً حلزونية.

الثلاثية على شكل حلزونات في مدخل نيوغرانغ في إيرلندا


أما السباعية، فلدينا تمثيل لها على باب مأوى صخري في مادلين في فرنسا من العصر الحجري القديم الأعلى كما في الصورة أدناه.

وكما نرى في الصورة، فهناك سبعة ثقوب مربعة أو مستطيلة في الصخرة، مقسّمة إلى ثلاث مجموعات بدءاً من اليمين إلى اليسار.
المجموعة الأولى تتكون من ثقبين، واحد ضخم كبير وواحد صغير. وهما عديل للحصاتين اللتين تمثلان الرأس والذراعين.

مأوى دو لا مادلين في تورساك في مقاطعة دوردوني


المجموعة الثانية مكونة من ثلاثة ثقوب واحد منها أصغر من أخويه. وهذه الثلاثية عديل للحصيات الثلاث التي تمثل الجسد في تشكيل عين الملاحة.
المجموعة الثالثة تتكون من ثقبين متقاربي الحجم، ومبتعدين قليلاً، وهما يعادلان الحصاتين السفليتين اللتين تمثلان الأرجل. وهكذا فالتشابه واضح ولا شك فيه.
كذلك لدينا هذه السباعية من منطقتنا محفورة على شكل أجران في حجر أسود كما في الصورة أدناه.



إذن، فنصب عين الملاحة ليس تركيباً فنياً طريفاً من زمن موغل في القدم، بل هو تركيب ديني كاشف وشديد الأهمية. فقد قدم لنا مصمّمه صورةً مختصرة جداً لديانة عصره وإيمانه بأشد ما يكون التقديم وضوحاً ودقة.
وأنا أظن أن هذه الحصيات السبع تمثل واحداً من أجمل الكشوفات الأثرية في تاريخ فلسطين، بل لعلها أجمل نصب مقزّم في تاريخ البشرية. كما أظن أن علينا نشرها كي تصبح رمزاً من رموز فلسطين وتاريخها.

* شاعر وباحث فلسطيني