(1)ما الذي تريد قوله أيُّها الشِّتاء
بكل تلك الأبخرة التي ترتفع من أسفلت الشَّوارع
من جدران سئمت الوقوف الطَّويل
وضجيج الهباء من عوادم السَّيارات المسرعة؟
قرأت مرَّة أنَّ لغتك تتقصَّف على أطراف الغابات السَّوداء
أنّ عريك ذاكرة النَّوافير والحجر
وأنّ زمنك يبدأ من قفزة البجع عن دوائر الموسيقى
ويُخيَّل إليَّ أنَّني رأيت أحلامك مطويَّة بعمق
على سطوح القرميد المبلَّلة
■ ■ ■
فكَّرت مرَّة
أنَّك لا تجيء إلا عبر النَّار
التي تكون في فقد يد لأخرى
ويراكمها الصَّمت الذي يحوِّل كلَّ جناح ميِّت إلى أغنية
■ ■ ■
مهمل
في الزَّوايا حيث يبول المشرَّدون بكسور متفحِّمة
مهمل
في الزَّبد الذي لا شكل له سوى النِّهايات
مهمل

كازوهيرو هوري ــ «انتحار» (أكريليك على كانفاس ـــــ 30 × 30 سنتم ـــ 2022)


كما يغيب الصَّوت في تربة حمراء
مهمل
من الحبِّ والموت والحقيقة والأشجار والقلب الذي لا يعرف متى وأين
مهمل
وعيناك غائرتان في الجوع إلى طيور أخرى
■ ■ ■
ربَّما لست إلَّا قلق النَّهار
نظرتنا التي تتخثَّر في صدأ الأجراس
أصواتنا المتقطِّعة عبر السِّكك وأغصانها الحديديَّة
كؤوسنا التي نقرعها برؤوس الآلهة والشَّياطين
أصابعنا المهيّأة للرَّماد
وقولك:
«الغراب
مهما ارتفع
يرى في العالم جثَّة»
■ ■ ■
الشِّتاء
رسَّام يتشهَّى في لوحاته رغبات تنزف
■ ■ ■
الشِّتاء
عناد السِّكين للالتفات إلى حرائقنا
■ ■ ■
الشِّتاء
طفل يقدر أن يضحك بفكٍّ مهشَّم
■ ■ ■
الشِّتاء
هو المنفيُّ من أجل الارتماء في حقول غير مسيَّجة
■ ■ ■
الشِّتاء
قلبك الذي يحملني في القسوة ويشتعل
■ ■ ■
الشِّتاء
ثمرات أحلام تتأمّل ابتعادها
■ ■ ■
الشِّتاء
تلك العرّافة التي بسطت على كفّي خطواتك في الثَّلج
■ ■ ■
الشِّتاء
جسد حين نقول: لا يموت شيء إن أحببنا
■ ■ ■
الشِّتاء
بيوت مفتوحة كما تنفصل الأشياء من أجل راحة الوقت
■ ■ ■
الشِّتاء
هو الرُّوح التي تُفتِّت بذرتها الشَّمسية في العزلة

(2)
هذا الصَّباح
خرجت ممتلئة بالفوضى
ولأجد توازناً بين ما أفكِّر فيه وما أرى
أدندن لحناً مشطوراً إلى نصفين
أحدهما مشرَّد
تتحكم أعضاؤه بذاكرتي
لأحرِّر من أجله كلمة بيضاء
ويتمكَّن من السَّير وحيداً بلا مأوى
والآخر يتَّكئ على الأشجار
يصفها «بالعمى المكتمل» و«الصَّمت الذي يرفرف»
ثم يجلس متأمِّلاً ما يتساقط منها
وما يذوي خفيفاً على الأغصان
ولأنني لست في مزاج لقبول سمائك الطُّوباوية
توقفت في منتصف الطَّريق
ورأيت كيف أنَّني حين أكرِّر كلمة «موت»
يتعاظم بوضوح ذلك الاستهتار الشَّائع بين وجوه العابرين
■ ■ ■
سواء كنتُ أمام نافذة
أو أستمع إلى جبال البرونز في الرِّيف الأميركي
لا أميز بين أغاني الرّعاة وشمس منتصف النَّهار
كما لا أفرق بين صوت إيفا كاسيدي الذي أحببنا
ووشم طيور جعلته على رسغي الأيسر
لا أرى حدّاً بين نهاية هذا الصَّيف وأطراف الكتب القديمة
وكلّ ما حاولت أن أبدِّده من الوقت
يعوي أمامي مجدَّداً
لأتخلَّص من هذا الشُّرود الذي يتخبَّط
بين كراسي المقهى الفارغة
وكراهيَّتك لما نزيِّفه من العالم
أقوم بنقرتين لاستخراج معنى كلمة Cosmos
أذكر تجربتك الأولى في الطَّيران
التي تقول إنَّه «لا يكون إلَّا مع امرأة»
ثمَّ أكتب بأطراف أصابعي
ما لا أعرف سبباً لتذكُّره الآن والضَّحك:
«العالم ليس إلَّا براز ذبابة تجريدياً»

(3)
تخيَّل
أن يمرَّ هذا النَّهار بلا عاطفة
أن نتمكّن أخيراً من رؤية الخريف أشكالاً مجرَّدة
أغصاناً متقصّفة النِّهايات
وأوراقاً مغمَّسة بأوحال الطَّريق
صفراء تحت الشِّفاه التي تشتم وتحبّ وتلعن الوقت
صفراء تعلن شذوذها في الخروج عن مسافات اللَّحن بنغمة سي حادَّة
صفراء لا تندم على هشاشتها بسقوط تلقائي
حرَّة لأن تموت
معافاة تماماً
■ ■ ■
تخيَّل تلك الخفَّة في عبور الآخرين
لا أحد يعاتب أحداً على قساوة بادية في وجهه
أو على ثقب في منتصف الصَّدر
أن نقنع أجسادنا اعتياد كتلتها التي تجرّها عبر الأرض
دون أي أثر لكسور مذابة على أطراف الشِّفاه
أو ندوب نعرفها باللَّمس
تماماً مثل رسالة مفضوضة الجهات:
«أنا ضباب يا مي»
أو عينين للانتظار:
«يبقى غريباً ذلك الذي يعرف غريباً»
■ ■ ■
لا أعرف شيئاً عن الله
الذي تقول عنه سئم من الطَّاعة
أو ترسمه بخطوط سوداء متقطِّعة أشبِّهها بطيور الحواف
لكنني تمكَّنت من معرفة الشِّتاء
ذلك الصَّقيع الذي لا جذر له
رغم حضوره المؤكَّد بين الشَّمس والهواء
الشِّتاء يا حبيبي لا يخاف من شيء
الشِّتاء هو القلب
الذي يبقِّع زجاج النَّوافذ
■ ■ ■
كل لحظة كنت أراك على الحجر
لاهثاً من التصاق اللَّبلاب
مغمضاً على صلابة تنقر رأس الوقت
لا تحترق إلَّا بما يسيل أو يتمزّق
تقول التُّفاهات عمّا يجعل الآخرين مسرعين إلى آلاتهم
تسخر من الأشجار التي تضمن وجودها بلا انفعال
تبصق عملة النَّهار على اللَّيل
ومن أجل كلمة للحبِّ
تتباطأ تحت النُّجوم المهملة

(4)
رأيت أناساً
يمشون
ليدفنوا وجوههم في الطَّريق
■ ■ ■
رأيت رجلاً يفرغ مثانته على حائط
كما لو أنَّه حرٌّ تماماً
في أن يقول: لا
■ ■ ■
رأيت امرأة تلاطف رجلاً
وتُخضِع كلباً بين ساقيها
في اللَّحظة نفسها
■ ■ ■
رأيت مومساً
ينتهكها الجميع
حتّى إنَّ أطفالها الذين أُجهِضوا عمداً
دقُّوا مسامير جميع المخلِّصين في عانتها
■ ■ ■
رأيت طفلةً
تُقلِّب في فمها العلكة
ومن أجل اليتم والفقر واللاجدوى
تنفخ بالوناً بطعم الفريز
■ ■ ■
رأيت شاعراً
محشوراً في زاوية تملؤها رائحة البول ونزيز النّفايات
يبحثُ عن كلمةٍ في الأكياس السَّوداء
ثم يصفِّق لنفسه
ويلقي تحيَّةً طويلةً
أمام هذا السِّيرك الكبير.

* سوريا