عندما ألّف جورج أورويل روايته «1984» في الأربعينيات من القرن الماضي، كان زمان النصّ ومكانه وأحداثه وشخوصه متوَقَّعين متخيَّلين، إنْ من جهة الناس على اختلاف انتماءاتهم، وإنْ من جهة الزعيم أو الديكتاتور أو الطاغية، مع حاشيته وأزلامه الذين ينفذون طغيانه وتسلّطه ويحمون فساده وأناه المتضخّم. وجاء تصنيف الرواية على أنها «ديستوبيا» (أدب المدينة الفاسدة) التي ستسيطر على المكان المقصود، أيّاً كانت موقعيّته على خريطة العالم، لكن بعد عشرات السنوات، في حال استمرّ النظام في تنفيذ مخططاته وتكريسها في أذهان أبناء المجتمع. لكن هل يبقى التصنيف كما هو عندما يكتب روائي عن المدينة الفاسدة وقد أصبحت فاسدة فعلاً وأصبح الزعيم الطاغيةُ طاغيةً فعلاً في الوقت الحاضر وفي الماضي القريب؟ هذا ما تقرأه في رواية محمد طرزي «ميكروفون كاتم صوت» (الدار العربية للعلوم ناشرون ـ 2023).قبل البدء بالقراءة، يشي العنوان بنصّ سياسيّ مباشر ينتقد سياسات زعماء الطوائف الذي يكممون أفواه من يعارضونهم. الحركة المباشرة والواضحة للشخوص والأحداث، ستكون مقصداً وتوجّهاً لدى الكاتب الخارج عن حدود الطائفة والدين والمناطقيّة والحزبية، ليفاجئك النصّ منذ بدايته بقصة حبّ تبدأ بين شخصين عاديين، يحبان القراءة، ويلتقيان بسببها، ومعهما تبدأ بالقراءة فتنسى العنوان وتنسى أنّ السياسة والنقد الاجتماعي سيطغيان على النص.


ومع تقليب الصفحات، لا يمنحك الكاتب الكثير من الوقت ليبدأ بتمرير أفكاره السياسية رويداً رويداً، وهو ابن مدينة صور الجنوبية، المعروفة بالانتماء السياسي والعقديّ والحزبي، أو هذا ما يخيَّل إلينا عندما نسمع الاسم، نتيجة للسياسات التي ينتهجها أرباب الطوائف ورؤوس الفساد في بلادنا، كلّ بحسب منطقته ومنطقه وبحسب وسيلته الأقوى، إعلاميّاً أو ماليّاً أو فكريّاً، أو من خلال البلطجة والتخويف والتخوين من خلال قوى الأمر الواقع.
يلتقي سلطان الشاب البسيط الحالم بأن يصبح روائيّاً بابنة أحد أثرياء المدينة، وهو ابن «الحفّو» أو الذي يدور بسيارته لينعى من خلال مكبرات الصوت على جوانبها أموات اليوم ومواعيد الدفن والعزاء، وهو الذي يسكن وعائلته في بيت في مقبرة المدينة، ملك للوقف، يسكنونه منذ أن بدأ والده تلك المهنة، بدعم وموافقة وتبريك من المختار. تدور الأحداث حول الصديقين، الحبيبين في مكان ما، إلا أنّ قصة حبهما تنتهي كعادة قصص الحبّ بين الفقير والثرية، بأن تتزوج من رجل من مستواها، وتطلب من الفقير أن يبقى الصديقَ الوفيَّ المتفهّم، وهنا لا تأتي الرواية بالجديد. حمّلت الرواية الحبيبين أفكاراً حول الواقع الاجتماعي المسيطر على المدينة، وهي لبنان المصغَّر، وإن ركّز الكاتب على نقد واقع طائفة معينة. تظنّ أنك تريد أن تأخذ موقفاً منه إن كنتَ من محبّي أو مؤيّدي نهج أحزابها وزعمائها، لكنك عندما توسّع دائرة أفكارك وتقرأ النص بمقاصده الأبعد، تجد أن انطلاقة الكاتب من بيئته أمر بديهي، لكن مقاصده أوسع وأعمق وأكثر قسوة مما يظهر، فالبلاد محكومة بالفساد والطغاة المتعددين، وهنا تختلف الرواية عن غيرها من روايات الديستوبيا، كاختلاف الواقع اللبناني عن غيره من بلدان العالم، بأنّ زعيمها المقصود في النص، هو مجموع زعماء يحكمون هذا البلد الصغير. وهنا تأتي قصة الحبّ الفاشلة لترمز إلى كل قصص الحبّ المقموعة بين اللبنانيين، بسبب اختلاف الدين أو الطائفة، أو بسبب الفقر والثراء، أو بسبب الاختلافات الفكرية والعقائدية والسياسية، يكون الجديد من القصة أوضح من هذا المنظور.
لغة النصّ متينة، مشغولة ومحبوكة، على الرغم من أنّ بعض التكلّف يحكم الصور التي يضمّنها الكاتب نصّه، ليكسر فيها رتابة السرد، إلّا أنها بمعظمها كانت سلسة بلغة سهلة، بسيطة، فيها تشابيه واستعارات، وإن شاب بعضها القليل من التكلّف كما سبق وذُكِر، إلا أنها حققت مقصد الكاتب منها، وهو تلوين أسلوبه وتنويع لغته، حتى لتكاد تتناسى ما ظننته تكلّفاً في البداية. ينجح الكاتب في تقديم أسلوب خاصّ به، لا يتأثر التشويق وشدّ القارئ بهذه الصور والخيالات، بل تصبح جزءاً قد تطلبه عندما تطيل الرواية من السرد على حساب تداخل الوصف والخيال، فتجدها لا تبخل عليك بصُوَرٍ، منها الجديد، ومنها ما أعيدت صياغته بحرفية وموضوعية ضرورية للنصّ.
مواقف الكاتب السياسية واضحة، وهو أنكرها في نهاية نصّه كدأب المؤلّف الذي لا يريد المواجهة المباشرة مع من ينتقدهم، ولكنها أفكار كثيرين، ممن احتلوا الساحات في ثورة تشرين التي كانت حاضرة في النص، وانفجار المرفأ الذي يميت حبّه ويميت معه الخوف داخله، فيتحدى السلطة الفاسدة بشكل مباشر عندما سبّ الزعيم من ميكروفون سيارة نعي الموتى نفسها.
شخصيات عديدة عدا سلطان، كان لها دورها المحوريّ في النص: هناك قاسم الهارب من الواقع عبر البحر والتهريب معرّضاً حياة أبنائه للخطر، فكانت قصته ضرورة لتدعم موقف الرواية ضد مسببي الهرب. حسن الزاهد في أمور الدنيا، الذي يعاقر الخمر والموسيقى، هو أيضاً واحد منا، على الرغم من أن من مثله قلة، لكنهم بكلّ ماضيهم ومواقفهم أناس منا ومثلنا. عفاف أو ماما ريتا وقصتها والعمل العلني في الدعارة، هي وبناتها أناس منا ومثلنا، لوركا أو ساجد الشهيد الذي لم تقتنع الرواية بأسباب موته واحد منا ومثلنا. أزلام الزعيم الراضون الخانعون المنفذون لأوامره فداءً له، هم أناس منا ومثلنا.
بعض التكلّف يحكم الصور التي يضمّنها الكاتب نصّه


رمزية المكان بالنسبة إلى المدينة المحكومة بالديستوبيا ليست أساساً بالنسبة إلى النص، فهي تركز على كلّ المدن حيث حكم الطاغية كليّ، وقد اختارها النصّ دوناً عن المدن اللبنانية حيث التنوّع الطائفي والديني لأسباب باتت واضحة. أما المقبرة، وكل ما دار فيها ومن حولها، فقد كانت هي الأساس، لتمثّل البلد الذي أصبح مقبرة لأبنائه، لا ينجون إلا بالخروج منه.
هي رواية من النوع الممتع، ومن النوع الذي يشدّك حتى تجد فيها ما تتشاركه مع أفكاره فترضيك، ومع ما يخالف تلك الأفكار والقناعات فيستفزّك ويحرّك فيك البحث عن أسباب ذلك الاختلاف فتناقشه وحيداً مع الكاتب من خلال قراءة نصه. أمّا العنصر الأبرز في أسلوب النص وأفكاره، فهو كيف يحملك من حيث تدري أو لا تدري، لتتأثّر بالحالات الإنسانية الكثيرة فيه، من موت ميسم بالكورونا بعد وصولها إلى ألمانيا، إلى موت وداد بالانفجار المشؤوم، حتى طعن حسن من قبل أزلام الزعيم، وحريق مطعم ماما ريتا، فتبكي معه واقع بلدٍ لم تطمح الرواية في نهايتها لتتوقّع نصراً فيه على الواقع، فالكاتب يعرف أن لا أمل قريب ولا شيء مجدٍ على المدى المنظور.