رواية «ناي في التخت الغربي» (شركة المطبوعات للتوزيع والنشر) للكاتبة السورية ريما بالي خطابٌ يقوّض العنصرية، ويخاطب البشر من جميع الأطياف والأعراق. يتجاهل الإحباطَ الذي يحيط بعالم اليوم، والدعوةَ لما يعتمد على الغريزة وإثارة المخاوف. تترك لنا مستنداً لا يموت، وتكشف لكل من خبرَ الكراهية أنه ضحية مؤامرة، كأن الحكاية صرخة تقول: «لا للعنصرية، تعالوا نُعِدْ للبشر إنسانيتهم، ونجعل من القصص سلاحاً في سبيل ذلك».«كل إنسان يحمل تحت جلده البشر أجمعين». بهذه العبارة تخلصُ ناي بطلة الحكاية، أو ناديا كما كان اسمها في حلب قبل أن ترحل عنها. تخلص إلى تلك الحقيقة منهكَةً، بعد رحلةٍ شبيهة بمتاهة، وسفرات تاهت عبر دهاليزها باحثةً عن ذاتها. وكمن يفتش عن إبرة في كومة قش، تنصب الكاتبة منصةً شبيهة بتلك المناضد التي جلست عليها فرق التخت الشرقي، إنما هنا بصوت امرأة هاربة من بلادها، وبألحانٍ غربيّةٍ، ومقطوعات تبدو غير محدودة. ذلك أننا تحت سطوة الحرب، وقسوة اللجوء، نسمع أغنيات تأسى على ما حدث، وبعد أن تعقد البطلة آمالها على الهجرة، تكتشفُ أن الألمَ الذي عافته في مدينتها الأولى باقٍ، ولو اختلف شكله وظهر بعدها بأشكالٍ مختلفة. بل إنه لم يكن ألماً فريداً، إنما تجد عبر تجوالها أنّ آلام الناس الذين عرفتهم بذات الحدة والثقل، واختلافهُ عن غيرهم لم يكن سوى من حيث الشكل، وهو ما وحّدهم رغم انتشارهم في كل أنحاء العالم.


نقع هنا على حكاية تناقش مفهوم الهوية التي تحاكم الأفراد، فيُقتَلون ويُنكَّلُ بهم على إثرها. هذا ما تكشفه رحلة نحو الماضي؛ تنقل ما تعرّض له أصحاب تلك الهويات، وما أظلم حيواتهم ودفعهم إلى الرحيل. هو ما يحدث بعد أن تغادر ناي وزوجها غسان إلى بلجيكا، وبعد أن تذوي مدينتها، وتأسى على إغلاق مكتبة خالها. تلتقي ناي بسيسيل، وتمسي صديقة تشاركها هاجسها في كشف أصول عائلتها. وعبر تحليلٍ يخضع له كلّ من يبحث عن هويته، تريد الكاتبة أن تصل بنا إلى حقيقة مفادها أنه لا يوجد عرقٌ صافٍ. أثناء رحلة بحثها عن الأجداد بعد صدمة سيسيل بخارطتها الجينية، نستعرض قصصَ أرمنٍ وُجِدوا على طرق حلب ودير الزور إبان المذابح العثمانية، ويهود تنصّروا في زمنٍ حكمت فيه محاكم التفتيش، وصولاً إلى إسبانيا وبلجيكا وحتى أراضي فلسطين المحتلة. نقع على شبكةٍ من الأعراق، ومصائر مُهرت بيد السلطة والسياسة والدين. إذاً تتشارك في الأسى الكبير ذاك شبكة من الأقارب والأخوال. نلتقط قصص يهود بأصول سورية ولبنانية، وأوروبيين بأصولٍ شرقية. هو ما تركز عليه سيسيل في كتابها، وتساعدها فيه ناي بعد وقوعها على قصة جدتها الأرمنية في حلب.
من هنا تتورط الكاتبة في عزف غير منفرد، قوامه دكة سرديةٌ للقصّ، وامرأة هاربة، وعازفون من بلاد بعيدة. جمعتهم شجرة جينيةٌ حاولت سيسيل تشكيل أغصانها المتشعّبة في العالم، من سوريا ولبنان وحتى أميركا. هكذا يثمر الكتاب ثمرةً تختصر كل الأعراق لتصل إلى مفهوم اللاهوية واللاانتماء سوى للإنسانية وحدها، وهو ما نكتشفه في قصة قريبتها الفلسطينية ليلى الرداد، وما قاسته كابنة أرض محكومة بمحتلين قدموا من كل أرجاء العالم ليقاسموها إرثها وحكايتها.
تحليل قضية الانتماء انطلاقاً من أبناء هوياتٍ متعددة حدّ التعارض


«أيّ البلاد هي بلادنا إذاً؟» من هذا التساؤل، تحلل الرواية قضية الانتماء انطلاقاً من أبناء هوياتٍ متعددة حد التعارض. هي تجربة الصراع المريرة، لمحتلٍّ اكتشف جذوره العربية، ولعرب وقعوا على أصولهم الغربية. هكذا يتشكل الخطاب الروائي لتقريب المسافات بين البشر، ورفض فكرة اختزال الإنسان في هوية واحدة، مع فضح ما فعلته السياسة والدين من تأطير البشر بالجغرافيا، وتسخير السلطة والدين لتلفيق الأحكام، والإشارة بالتهم، وتكريس العنصرية لبناء عالمٍ قوامه نبذ الآخر وإقصاؤه.
ومن دون أن تبتعد الكاتبة عن رصد الألم السوري، تظل ناي رهينة الحكاية، ورهينة الألم لما آلت إليه الأحوال في بلادها. لا تخرج من دائرة هواجسها حتى بعد انفصالها عن غسان ولقائها بسيزار؛ حب حياتها، وحتى بعد وقوعها تحت تأثير شبكة تجسس تكاد أن ترميها إلى مصير مجهول. تمسي ناي عالقة، ولا تجد الملاذ سوى بالعودة إلى حلب. هكذا نجدها منزوعة المشاعر، تواجه شبح المدينة، وضرورة بيع المكتبة في بلاد لم يعد فيها متسع للكتب. تخاطب والدها الذي توفي قبل سنوات طويلة، وتنضد على أرض المنزل القديم كل ما بقي لها من ترحالها؛ صناديق كتبٍ من غير رفوف تحفظها، وامرأة وحيدة تتساءل عمن صنع الكراهية. ومَن صدح بتلك الألحان السامة في كل أرجاء العالم؟ «أعرفُ أني تركتُ مستنداً لا يموت، يكشف لمن يعيش الكراهية أنه ضحية مؤامرة. ويحرض من يفكر مثلي ليضم صوته إلى صوتي لنقول لا للعنصرية ولمن اخترعها، ونعيد إلى الإنسان إنسانيته التي لا تتجزأ. ما دامت العنصرية اختراعاً بشرياً، فحتماً يمكن أن تُقوَّض بمشروع بشري مضاد ولو كان طويل الأمد، الكتب إحدى أدواته، وبناء فكر صحيح هو سبيله والغاية: أن نعمل... نحن، على إعادة توحيد ما نجحوا في تجزئته وتمزيقه... هم!».