«الإنسان الذي لم يعد له وطن، يتّخذ من الكتابة وطناً يقيم فيه» (إدوارد سعيد)في الثمانينيات من القرن الماضي، وقف رسام الكاريكاتور الفلسطيني ناجي العلي (1937
- 1987) في مكتب «جريدة السياسة» الكويتية وقال لعرّاب شعر البِدُونْ في الكويت سليمان الفليّح: «اسمع أيها البدوي، كل شخصٍ له عم في هذا البلد، فما رأيك أن تصبح عمي وأصبح عمّك؟». كان الفنان الشهيد يدرك أوجه الشبه بين قضية البدون وقضية الفلسطينيين. بالرغم من اختلاف الحالتين، إلا أن كلاهما يتشاركان معاناة التهجير وعدم الاعتراف والتهميش وصراع الوجود. يأتي كتاب «أدب عديمي الجنسية في الخليج: الثقافة، السياسة، والبدون في الكويت» (منشورات تكوين) للباحث طارق الربعي (ترجمة أسرار الهزّاع) ليطرح سؤال: هل كان حظ البدون في الأدب والثقافة مختلفاً عن حالهم في السياسة والمواطنة؟ وهل وجدوا في الشعر والقصص والرواية الانتماء الذي حُرموا منه في حياتهم اليومية؟


يتناول الكتاب أدب البِدونْ في الكويت كإحدى ساحات مقاومة السرديات الرسمية. يقدّم الربعي بحثه الأكاديمي بقوله في مقدمة الكتاب: «في ظل حرمان البدون تاريخياً من أي شكل من أشكال التوثيق القانوني الرسمي، فإن أعمال الكتّاب البدون تمثّل ظاهرة أدبية فريدة في قدرتها على التعبير عن مفاهيم كالانتماء والوجود والهوية، خارج الإطارات الرسمية، وفي صراعها ضد التغييب المؤسسي السياسي والثقافي والتاريخي». هذا الأدب الذي يضم اليوم روايات وقصصاً قصيرة ومجموعات شعرية، بدأ مع أول ديوان للشاعر البِدونْ سليمان الفليّح عام 1979، إذ لم يوجد قبله أي عمل أدبي مدوّن للبدون. يستمد الباحث معلوماته من الأرشيف الإلكتروني للصحف الكويتية ومن مقابلات مع أدباء بِدُون على اليوتيوب، ومقابلات أخرى أجراها بنفسه مع شعراء وكتّاب؛ من بينهم دخيل الخليفة، ومحمد النبهان ومنى كريم، بالإضافة إلى استعانته ببحوث نقدية عربية ومواد صحافية جمعها بين عامي 1979 و2018.
قبل الولوج في المدخل الأدبي والغوص في قراءة وتحليل كتابات البدون وتعبيراتهم الأدبية والشعرية، يعرّف الباحث عن البِدُونْ في الخليج وكيف نشأوا وأصبحوا فئة اجتماعية وسياسية. قبل أن تصنّف الدولة رسمياً مصطلح البدون عام 2011 على أنه «مقيم بصورة غير قانونية»، مرّ المصطلح بستة تغييرات «استجابة للضرورات والاعتبارات القانونية للدولة»، لكن تبقى تسمية خطاب حقوق الإنسان «عديمو الجنسية» مرفوضة بشدة من قِبل البِدونْ. يعلّق الناشط عبد الحكيم الفضلي: «نحن لسنا عديمي الجنسية، نحن سكان أصليون».
يوضح الربعي أنّ الدولة سعَت إلى تعزيز الانقسام الاجتماعي بين البدو والحَضَر، ليس فقط في التصنيف والمكانة والحقوق المدنية والسياسية، بل أيضاً في السكن عبر استراتيجية اهتمَّت من خلالها بالحَضَر، فنقلتهم إلى المناطق النموذجية المطورة حديثاً، لكنها تعاملت بإهمال مع سكان العَشيش (مساكن الصفيح العشوائية التي ظهرت حول مواقع شركات النفط في سبيل العمل فيها) حيث أنشأت لهم مساكن موقتة؛ بكلفة زهيدة «باستخدام الطوب الخرساني الرمادي المصنوع محلياً دون أي جبس أو طلاء».
مرت قضية البدون عبر التاريخ بثلاث مراحل، حسب دراسة سابقة لفارس الوقيان: مرحلة الاعتراف 1959 - 1986 أي منذ عام إنشاء قانون الجنسية الكويتي، «يتجلى الاعتراف القانوني بالبدون في استثنائهم تاريخياً من قانون إقامة الأجانب» وجُندوا في الجيش والشرطة واعتبروا حسب القانون «حاملي شهادات ميلاد كويتية». المرحلة الثانية «مرحلة الرفض 1986 - 1991 حيث ألغي الاعتراف الرسمي بالبِدونْ كمجموعة داخلة في التكوين الاجتماعي، ونظرت الدولة إلى وضعهم إثر الاضطرابات المحلية والإقليمية على أنه قنبلة موقوتة تتطلب تدخلاً فورياً. أما المرحلة الثالثة أي الاتهام، فقد جاءت في أعقاب الغزو العراقي للكويت وتمتد من تحرير الكويت (1991) إلى عام 2009». تجدر الإشارة هنا إلى ضرورة التحدث عن مرحلة أخرى جديدة تحمل عنوان «مرحلة الظهور» بحسب إضافة الكاتب، تبدأ من عام 2011 أي منذ أول تظاهرة عامة للبدون.
يعرض الربعي واقع الحراك الثقافي منذ ولادته في الثمانينيات، ومقاومة البدون للإقصاء الرسمي عبر خلق مساحات ثقافية بديلة في الفضاءين المادي والافتراضي. يشير إلى انقسام في وجهات نظر أدباء البدون لتصنيف كتاباتهم تحت تسمية «أدب البدون». على سبيل المثال، تعبّر الشاعرة سعدية المفرح عن رفضها للتسمية بقولها: «لا أحبّذه وصفاً لي ما دام غُفلاً من أي معنى حقيقي»، فهي تخاف أن تقوم هذه الصفة الأبدية من إقصاء البدون من الأدب الوطني كما يجري إقصاؤهم سياسياً، بعكس الشاعر دخيل الخليفة الذي يرى في التصنيف الأدبي هذا «حالة تعطي الشاعر امتيازاً معرفياً يسمح له بالتمتع بهوية شعرية خصوصية فريدة في موضوعاتها وأساليبها التعبيرية».
تميّزت الثمانينيات والتسعينيات بنشر مادي للأعمال الثقافية للبدون في الصحف الكويتية، حين كان شعراء وكتّاب البدون جزءاً من تلك الصحف المحلية؛ فمِفرّح كانت رئيسة الصفحة الثقافية في «القبس»، وناصر الظفيري وسعد فرحان عملا محرّرَين في جريدة «الوطن»، بينما عمل دخيل الخليفة في جريدتَي «الأنباء» و«أوان». وأسهمت مبادرة «دار سعاد الصباح للنشر» (1992) في تمكين البدون وتشجيع الكتّاب على نشر أعمالهم. كما نشرت دور عربية في بيروت والقاهرة ودمشق شعر البدون، لكنها «اقتصرت بشكل رئيسي على شعراء البدون المعروفين الذين سبق لهم أن نشروا أعمالاً». وكان لرابطة الأدباء الكويتيين التابعة لوزارة الشؤون موقف داعم حين عمدَت إلى تغيير اسمها إلى «رابطة الأدباء في الكويت» حتى تتمكن من ضم الشعراء العرب، من بينهم البدون، لكن موقفها تبدّل بصورة جذرية بعد غزو العراق للكويت. «بيد أنهم حرموا من بطاقات العضوية، ما حدّ من مشاركتهم». ومن بين طفرة المنصّات الثقافية التي كان لها دور نشيط في المشهد الثقافي «مكتبة تكوين» التي ترأسها الكاتبة بثينة العيسى، فهذه المكتبة نظّمت «فعالية أسبوع البدون الثقافي» للاحتفال بأعمال البدون الثقافية، لكن وزارة الداخلية حظرتها رسمياً. هذه التضييقات على الكتّاب البدون دفعتهم إلى إطلاق مساحات جديدة للنشر الورقي والإلكتروني؛ من بينها «دار مسعى» (2008) و«دار مسارات» (2014)، كما أفادوا من المنتديات الافتراضية لنشر أعمالهم.
يستند الباحث في الفصل الثالث «حُداة الروح الوطنية: الشعراء البدون والتاريخ الأدبي الكويتي» إلى كتاب «أدباء الكويت في قرنين» (1967) للمؤرخ الأدبي الكويتي سعود الزيد، الذي يعدّ أول عمل شامل عن الأدب الكويتي يقدم من خلاله الأدباء في الكويت حسب الترتيب الزمني، بدءاً من عبد الجليل الطبطبائي (1776 - 1853). وضع الزيد الأدب الكويتي ضمن السياق الثقافي العربي لإضفاء امتداد تاريخي له «لن تكون محتاجاً إلى جواز سفر ولا إلى بطاقة للعبور من الكويت إلى أي قطر من أقطار العروبة والإسلام... لك أن ترحل كيفما شئت... إنّ أحداً لن يسألك: من أين أنت قادم، ولماذا أنت مقيم... بقي الأمر على هذا النهج حتى الحرب العالمية الأولى». لكن لم يكن هناك تدوين لأدب البدون في التاريخ الأدبي الكويتي قبل عام 1979 مع أول مجموعة شعرية تحمل عنوان «الغناء في صحراء الألم» للشاعر سليمان الفليّح. وحين صدر في عام 2007 أول عمل شامل عن التاريخ الأدبي الكويتي لسليمان الشطي «الشعر في الكويت»، قدّم أدب البدون على أنه «أدب مجاور» و«نص مجاور»، ما أثار غضب شعراء البدون حتى كتب الفليّح قائلاً: «ما يؤلمني أنه (يقصد الشطي) كان أحد شهود ازدهار القصيدة، وكان يعرف تماماً أنّي لم أغب عن المشاركة في كل أمسية تحييها الرابطة طوال ثلاثة عقود متتالية، كما أنه لم تشفع لي عنده خمس مجموعات شعرية تتوزع في مكتبات الكويت، فأنا (عنده) ويا لعار التصنيف والفئوية التي كان يرفع شعاراته ضدها، لستُ كويتياً ولا حتى غير ذلك! مثلما اخترع من «عِندياته» توصيفاً لزملائه الذين لا يحملون الجنسية لم يتوصل إليه حتى أشد العنصريين من الناس». تزامناً مع كتاب الشطي، نشرت سعدية مفرح كتاب «حداة الغيم والوحشة» (2007) وهو عبارة عن مختارات من الشعر الكويتي، لم تصنّف الشعر والشعراء تبعاً للمنظور الرسمي، أي أنها لم تميّز بين شاعر كويتي بالجنسيّة وشاعر عديم الجنسية، ما «سمح لشعراء البدون بأن يكونوا امتداداً طبيعياً وعضوياً للتاريخ الأدبي الكويتي».
حضور دلالات الهوية والانتماء إلى الكويت في نصوصهم


في الفصل الرابع «نهاية العالم الصحراوي: البدوي الأخير، أول البدون»، يقدّم الكاتب مدخلاً لتصوّر الفضاء الصحراوي ضمن السياق العربي والفلسطيني على وجه الخصوص، بحيث يرى أنّ الصحراء تشكل فضاءً مرتبطاً بالهوية والتهجير، «تشارك الكتّاب الفلسطينيون والبدون على حد سواء تجربة التهجير وإن كانت مظاهره مختلفة. ثانياً، يكتب الكتّاب الفلسطينيون مثل كنفاني ونصر الله عن صحراء شبه الجزيرة العربية، وهي مساحة جغرافية وخيالية مشتركة مع البدون». يركّز الكاتب في هذا الفصل على تحليل قصائد من ديوان الفليّح الأول ليظهر أنّ الصحراء التي تُصوَّر عادة من قبل السرديات الرسمية على أنها «لاتاريخية»، هي بالنسبة إلى الفليّح «مكان لاستعادة التاريخ»، فيقول في قصيدة «رحلة نزوح: أحزان البدو الرحل»: «ها قومي انحدروا من مرتفعات الماضي - شهب الأعين - / تجلدهم ريح المستقبل نحو الواحات المأهولة بالأمطار/ ها هم مثل جراد القحط القادم من آخر إقليم في الدنيا/ جاؤوا وانتشروا في هذي الصحراء الرملية مثل الأحجار/ ها هم عند حدود الغيم الأزرق ناموا/ فتوسّد كل فقير منهم «عرفجة»».
يخصّص الربعي الفصل الخامس المعنون «صورة العَشيش في الرواية» لشخصية البدون ومساكنهم. لم تكن شخصية البدون حاضرة في الرواية العربية بين عام 1995 و2011 باستثناء «سماء مقلوبة» للروائي البدون ناصر الظفيري، و«ارتطام لم يسمع له دويّ» لبثينة العيسى. منذ عام 2011 «شهدت الروايات التي تصوّر شخصيات من البدون طفرة ملحوظة. وتعدّ رواية «ساق البامبو» لسعود السنعوسي الأكثر انتشاراً». يبحث الكاتب في هذا الفصل عن صورة العَشيش ويقوم بتحليل روايات عربية عدة؛ من بينها «في حضرة العنقاء والخل الوفي» لإسماعيل فهد إسماعيل التي كتبها بناءً على يوميات الرسام الفلسطيني الراحل إسماعيل شموط خلال غزو الكويت، ورواية «الصهد» لناصر الظفيري، مستلخصاً أنه «ليس هناك قصة واحدة تختصر تجربة البدون التاريخية، بل سرديات متعددة وتجارب مختلفة وفقاً لفروقات الجنس والطبقة الاجتماعية والنزعات الشخصية، ما يسلّط الضوء على الروايات والتجارب المتنوعة لتجربة انعدام الجنسية داخل مجتمع البدون». أما الفصل الأخير «عابرو الحدود: أبناء الكويت في المنفى»، فيطرح سؤال مكانة أدب البدون في سياق مفاهيم الأدب العالمي، وأهمية النشر المادي للبدون على وجه التحديد. على الرغم من فتح منصّات إلكترونية عابرة للحدود مثل مجلة «أُفُق» التي أسّسها النبهان في أونتاريو في كندا، إلا أنّ «هشاشة النشر الرقمي وصعوبة الحفاظ على أرشيف رقمي ثابت» أدّتا إلى اختفاء «أفق» وغيره من المواقع الثقافية العربية عن الإنترنت، ما أعاد الاعتبار للورق، وخصوصاً أنّ الورق بالنسبة إلى البِدونْ يرمز إلى الاعتراف والوجود والانتماء.
في ظل تجاهل الدراسات الأكاديمية لإنتاج المعرفة حول البدون، يعدّ كتاب «أدب عديمي الجنسية في الخليج» عملاً يسعى إلى قراءة وتحليل نتاج البدون الثقافي بهدف فهم هذا المجتمع من منظور يختلف عن الرؤية القانونية والرسمية وحتى الأنثروبولوجية. يوضح هذا البحث إصرار البدون في الشعر والرواية على مقاومة التغييب الرسمي لوجودهم من خلال بروز دلالات الهوية والانتماء إلى الكويت في نصوصهم.