هل أنتِ عاشقة ولهانة كأفروديت أم والدة مُتفانية كديميتر، أم امرأة مستقلّة كأرتميس؟ يهتم العديد من العلماء والباحثين بدراسة عوالم النساء الداخلية وأوجه تطوّرهنّ النفسي وصراعاتهنّ الشخصية. في هذا السياق، يُعتبر كتاب «في كل امرأة أسطورة: إطلالة على أعماق النساء» (1984) الذي صدرت نسخته العربية أخيراً عن «دار مسكيلياني» (ترجمة عادل قرامي) من الأعمال اللّافتة التي تُسلِّط الضوء على نماذج الأنوثة. من خلال أبحاثها وعملها على تطوير النظرية اليونغية حول النفس والعقل البشري، اقتنعت الكاتبة والطبيبة النفسانية الأميركية جين شينودا بولين (1936) بأن هناك حاجة لإطار جديد لفهم نفسية النساء، فبدأت بدراسة أساطير الآلهة اليونانية القديمة، كونها محفورة في لا وعينا الجمعي وذات تأثير ينتقل عبر الأجيال. اعتبرت شينودا بولين أن هذه الأساطير نماذج بدائية قادرة على تفسير الاختلافات بين النساء وتوجيه حياتهن. لذلك ركزت على تحليلها، وصنّفتها ضمن ثلاث فئات رئيسية: الإلهات الضعيفات، الإلهات العذراوات، والإلهات الخيميائية.

ترتكز هويّة الإلهات الضعيفات على العلاقات العاطفية والمُعاناة الناتجة عنها. تُمثِّل ديميتر، بيرسيفوني، وهيرا نماذج الأمّ والابنة والزوجة على التوالي. تعتبر الإلهة الإغريقية ديميتر رمزاً للخصوبة وسيّدة الطبيعة والنبات، والمرأة التي تنتمي لنموذج ديميتر تُقدِّس غريزة الأمومة وتعشق أطفالها. وفقاً للأسطورة، حزنت ديميتر بشدّة على فراق ابنتها بيرسيفوني التي خطفها هادس إلى العالم السفلي، فتحدّت كبير الآلهة زيوس، وتوقّفت عن جلب الخصوبة والمواسم الخضراء إلى الأرض. استمر القحط حتى سمح زيوس لبيرسيفوني بالعودة في فصلَي الربيع والصيف إلى الأرض. هذه العيِّنة من النساء تعتبر الأطفال أهم من الزوج والشريك العاطفي، في حين تُمثِّل بيرسيفوني النموذج الخاص بالابنة أو الفتاة الصغيرة. هي تُجسِّد صورة المرأة التي تنتقل من كونها «ابنة فلان» إلى «زوجة فلان»، ثم إلى «أمّ فلان»، من دون أن تكتشف من هي في الحقيقة. تعكس بيرسيفوني هذه السلوكيّة التي تتمثل في الانقياد وعدم اتخاذ موقف قويّ لتحقيق رغباتها الخاصّة. أما آخر الإلهات الضعيفات فهي هيرا، زوجة زيوس. تُمثِّل هيرا المرأة التي لا تشعر بالكمال ولا تتحقق هويّتها إلا عندما تكون في علاقة مع رجل. كلّ شيء آخر، بما في ذلك الأطفال، هو أمر ثانوي بالنسبة إليها. يُمكن أن تتعرض امرأة من نموذج هيرا للمعاناة عندما تتدهور علاقتها بالشريك، لكنّها لا تُوجِّه الأذى والغضب إلى الزوج الخائن، إنّما تلوم دائماً المرأة الأخرى، وتسعى للانتقام من منافستها.
تتميّز الإلهات العذراوات أرتميس، أثينا، وهيستيا بالاستقلاليّة والإنجازات الشخصية وعدم التأثّر بالعلاقات العاطفية. ربّما تكون الإلهة أرتميس النموذج الأصلي الأكثر شهرة والأكثر انتشاراً في ثقافتنا المعاصرة. تعتقد شينودا بولين أن نموذج أرتميس رمز للحركة النسويّة، لأنّها تُمثِّل صفات الاستقلال عن الرجال، والتضامن الأنثوي، والاهتمام بالنساء والأطفال، فضلاً عن تحقيق الذات. تُقدِّر امرأة أرتميس نجاحها المهني والأكاديمي، أما العلاقة مع الرجل فهي شأن هامشي بالنسبة إليها.
من ناحية أخرى، تُمثِّل أثينا نوعاً مختلفاً من الآلهة العذراء، فهي الإستراتيجية الرائعة، ومعلِّمة الفنون، والأهم من ذلك، المدافعة عن النظام الأبوي. تُعتبر أثينا المعاون الرئيسي لزيوس، وقد لعبت دوراً مهماً في الحروب، وخصوصاً حرب طروادة. يُمكن لامرأة من نموذج أثينا، أن تكون قاسية وأن تفصل بسهولة بين العلاقات العاطفيّة والشؤون العمليّة. بتعبير آخر، تُمثِّل أثينا المرأة المُفكرة والمُنظَّمة بدرجة عالية، التي لا تملك إلا النذر اليسير من الحياة العاطفية والعلاقات بسبب منهجها الفكري المفرط في الحياة. على الرغم من هذه الجوانب السلبيّة لقوة أثينا، إلا أن الجوانب الإيجابية للقوة الفكرية والتنظيم تُعتبر صفات ذات قيمة عالية، خصوصاً في الأوساط الأكاديمية.
نصل إلى هيستيا آخر الإلهات العذراوات التي تتميّز بميلها إلى العزلة والتأمّل. في الأساطير، كانت هستيا بعيدة عن صراعات ومكائد جبل الأولمب. كقوّة نموذجية، تمثل هيستيا المرأة المتأمِّلة والاستبطانية القادرة على التواصل مع قيمها الداخلية والتركيز على تجاربها الذاتية من دون أن يُشتّتها الآخرون. إنها امرأة تسعى إلى الهدوء ولا تبالي بالعالم المادي المزدحم والتنافسي حولها. يسمح تأثير هيستيا للمرأة بتحقيق التوازن الداخلي من دون القلق من التأثيرات الخارجية والضغوطات لتحقيق النجاح.
الفئة الأخيرة هي الإلهة الخيميائية، وهي ممثلة فقط بأفروديت. سُميَّت بالإلهة الخيميائية لأنها تجمع صفات أول فئتين وتُحوِّلهما. تميّزت أفروديت في الأسطورة بأنّها الوحيدة التي اختارت شركاءها العاطفيين بدلاً من انتظارهم ليختاروها. كقوّة نموذجية، تُعتبر أفروديت ربّة الحبّ والجمال والجنس والإثارة لدى المرأة. لكن الطاقة الجنسية ليست التعبير الوحيد عن نموذج المرأة أفروديت، فالعمل الإبداعي يُمثل بعداً آخر من شخصيتها. تُجسِّد أفروديت المرأة الخلّاقة التي تندمج بشكل مكثف وعاطفي في عملها من أجل إحياء رؤيتها الفنية. خلال عملية الخلق، تزداد قوة انفعالاتها، تماماً كشخص يقع في الحب، فتكتسب المشاهد والأصوات والألوان وضوحاً جديداً، ويتألق العالم بصورة بهيّة.
تعتقد شينودا بولين أن نموذج أرتميس رمز للحركة النسويّة


تناقش شينودا بولين في كتابها بالتفصيل المظاهر النفسية لكل نموذج أصلي، وأنواع الصعوبات التي يُرجح أن يُولّدها لدى كلِّ امرأة، والعلاقات التي يُهيِّئها لها. تؤكد الكاتبة أنّ قلّة قليلة من النساء هن مظاهر نقيّة لنمط واحد، إذ تشعر معظم السيدات بتأثير ما لا يقل عن اثنين أو ثلاثة من أنماط الآلهة الأساسية ، وقد تظهر المشكلات والالتباسات عندما تملك المرأة في داخلها نماذج أنثوية ذات أهداف مُتضاربة. لذلك، يمكن للمرأة –الأمّ التي تتعرّض لتأثير قوي من ديميتر، أن تمتلك نمط أرتميس أو أثينا متطوراً بذات القدر، ما يدفعها إلى التفوّق في المجالات الفكرية والعملية الصعبة للغاية. هذان النموذجان من الآلهة المتعارضة، من منظور شينودا بولين، هما في قلب معضلة «المهنة أو الأمومة» التي تواجه العديد من النساء اليوم. على الرغم من أنّ كل نموذج من الآلهة يمارس ضغوطاً على المرأة للتصرف وفقاً لإلحاحاته، فإن المرأة التي تدرك هذه التحفيزات المختلفة لن تسقط تحت رحمة القوى اللاواعية وستقوم بخياراتها بشكل منطقي. فكلّما زاد فهم المرأة لقوّة وجاذبية القوالب النمطية الثقافية، أصبحت أكثر حريّة في اتخاذ قراراتها في الحياة.
يمكن القول إنّ جين شينودا بولين نجحت في تقديم المعلومات بأسلوب سلس وجذاب بحيث يفهم القارئ ما ترمي إليه من دون الحاجة إلى شهادة في علم النفس. كما أسهمت في سبر أعمق لعوالم الأنوثة من خلال عرض نظرة جديدة للنماذج النسائيّة ولتطور علم النفس الأنثوي، بهدف تشجيع المرأة على اكتشاف إمكاناتها الحقيقيّة وتحقيق التوازن الداخلي لمواجهة التحديّات بثقة وصبر.