ترجمة وتقديم: أماني غيثيُقال إنّها أهمّ شاعرة عرفتها روسيا: «سافو الشّمال» لقب ترفضه بل يستفزّها. هي المرأة الّتي تجرّأت في أصعب فترة من التّاريخ، حقبة الصّمت وإبادة المثقّفين، أن تكتب أهمّ دواوينها وتبكي في قصائدها الموتى من رفاقها ومواطنيها وتؤرّخ نصف قرنٍ من الدم. هي التي بفمها الصَّغير نقلَتْ صرخات «مائة مليون مواطن روسيّ». يُجمع كثيرون على أنّ تأثّرها بنثر القرن التّاسع عشر الرّوسي كان كبيراً. وُلدَتْ آنّا غورنكو في 23 حزيران (يونيو) عام 1889، في بولشوي فونتان، قرب أوديسّا، جنوب أوكرانيا. كانت في السّابعة عشرة من عمرها، عندما أخبرَت أباها بأنّها سترسل قصائد لنشرها في إحدى المجلّات. وإذ بها تتفاجأ بردِّه وبردّ فعله، فهو لم يرحّب أبداً بذلك: «إن كنتِ ستكتبين بغرض التّسلية فلا بأس، ولكن لا توسِّخي اسم العائلة النّبيلة بأبياتٍ وقحة ومنحطّة!»، فأجابته: «اسمكَ هذا لستُ بحاجة إليه!»، واتّخذت كنية جدّة أمّها «أخماتوڤا»، أميرة مسلمة من التّتار، على حدّ قولها. تنتقل لاحقاً إلى كييف، حيث ستتعرّف إلى شاعرٍ شابّ، هو نيكولاي غوميليوڤ، المُلقَّبٍ بـ«فارس العصر الفضّيّ». وجدت فيه مهرباً وتعويضاً عن محيطها غير المثقّف. هو «وقع في حبّ عينيها الحزينتيْن»، في حبّ «تلك الحوريّة» كما كتب في قصائده. سرعان ما لم تعد آنّا تتحمّل حياتها مع غوميليوڤ، هو الذي يعشق كلّ النّساء وينتقل من بلدٍ إلى آخر ومن علاقة إلى أخرى، وهي المرأة التي تنتظر. في تشرين الأول (أكتوبر) من عام 1912، تلد ابنها ليڤ وسط جوٍّ من الشّجار. في عام 1913، تعلن ألمانيا الحرب على روسيا، وفي أيلول (سبتمبر) ينطلق غوميليوڤ إلى الجبهة ليعود جريحاً إلى موسكو. آنّا تتعالج من السّلّ في فنلندا، المرض ذاته قضى على نصف عائلتها. يقع الطّلاق بين الشّاعرين وليڤ عمره خمس سنوات، وتكتب قصيدة: «كان غيوراً وحنوناً... لكنّه قتل عصفوري الأبيض». في تمّوز (يوليو) 1921، يصلها خبر صاعق من غوميليوڤ: شقيقها انتحر. «آنّو دوميني» الصّادر عام 1922 هو آخر كتاب تنشره قبل منعها الذي سيستمرّ حتّى عام 1940. تذكر آنّا: «ابتداءً من عام 1925، لم نعد نعرف غير الدم». سنوات من العزلة تستغلّها آنّا في قراءة بوشكين وليرمنتوف، تدرس قصائدهما. لكن كيف تقاوم حزنها وآلامها؟! تقرأ عن بطلات الكتاب المقدّس: راحيل، زوجة لوط ومريم والمجدليّة. تُسقط حياتها ومعاناتها على ما عشنه. ديدون، كاسندرا، كليوبترا، تكتب عن كلّ هذه الشّخصيّات وتعيد إحياءها. كانت أحياناً تنطلق من جملة واحدة لتصنع مشهداً كاملاً. في 22 حزيران (يونيو) 1941، تشنّ ألمانيا الحرب على الاتحاد الرّوسيّ، وستشهد لينينغراد حصارها الشّهير (900 نهار و900 ليلة). في تمّوز (يوليو)، ستتكلّم آنّا في الرّاديو وتدعم أهالي لينينغراد، ستكتب قصائد وشعارات للإعلام، وتكمل بعدها كتابة «ملحمة بلا بطل» ستمحو منها وتضيف كالعادة. ثم تغادر إلى طشقند في أوزباكستان، بعدما صار الوضع في لينينغراد مأساويّاً. سألها النّاس: «هل سيدخل الألمان إلى لينينغراد؟»، فأجابَت «لا أحد يفكّر بهم، النّاس يريدون فقط أن يأكلوا». ستالين يموت عام 1953. تصف فرحتها لأصدقائها: «استيقظتُ أكثر من مرّة هذه اللّيلة من فرط سعادتي». فهي ترى أنّ «ستالين أكبر جلّاد عرفه التّاريخ، وأنّ جنكيز خان وهتلر ليسا إلّا ولدين صغيرين في جوقته». كيف لا وهو الذي هجّر أربعة آلاف أديبٍ وقتل 20 مليون إنسان، أضعاف ضحايا هتلر (ستّة ملايين). رُفع التّدبير الّذي اتُّخِذَ في حقها عام 1953، لتعود إلى لينينغراد في عام 1954 وتلتقي ابنها ليڤ. بعد سنوات من التّضييق والصّمت والتّجاهل، نشرت قصيدة «قدّاس جنائزي» في ميونيخ عام 1963. كتبت في نهاية حياتها: «أرأيتَ يا الله،/ كم أنا متعبة/ من الحياة،/ من الموت،/ من النجاة،/ خذ منّي كلّ شيء،/ ما عدا هذه الوردة الزّاهية،/ دعني أشمّ انتعاشها كلّ يوم». وفارقت الحياة في السّادس من آذار (مارس) عام 1966. تحوّلت شقّتها إلى متحف يرتاده محبّوها، وأقيم لها تمثال في سان بطرسبرغ، كما أُطلق اسمها على أحد الكواكب الصّغيرة التي اكتشفها اثنان من علماء الفلك السّوفيات عام 1982

بورتريه لآنّا أخماتوڤ بريشة أولغا لودفيغوفنا ديلا فوس كاردوفسكايا (زيت على كانفاس ــــ 1914)


1- ظلّان
أتيت إلى البحر حيث رأيتَني
وحيث وقعْتُ في حبّكَ وذبْتُ في حنانك،
وحيث ما زال ظلّان اثنان
واحدٌ لك، وواحدٌ لي،
يتنهّدان حتّى الآن.

ها قد اختفى وجع الحبّ
ولم تنهِ الأمواج رقصتها على الشّاطئ بعد،
ما زالت تماماً كما الأمس،
وأبداً لن نَنسى، وأبداً لن نُنسى.

وهناك الباخرة تصيح،
نكايةً بالوقت،
ويرمي البحر نفسه في الميناء.

ولن ينتهي الأمر أبداً،
فما زلتُ هناك
وما زلتُ أركض نحو رسول الشّمس الذي لا يموت.

2- قراءة هاملت
إلى يمين المقبرة،
ثمّة أرضٌ شاسعة،
خلفها يجري النّهر بارداً وأزرق.
قلتَ لي: «اذهبي إلى الدّير أو
ابحثي عن أحمق يرضى الزّواج بك»
أعلمُ أنّ هذا ما يتفوّه به الأمراء عادةً،
لكنّني لن أنسى كلماتك أبداً،
دعها تتدفّق دائماً
لسنواتٍ عديدة،
هكذا دواليك،
مثل فروٍ من فوق الأكتاف.

3- يومها كلانا شتمَ الآخر...
العشق بياضٌ مشتعل،
لم يفهم كلٌّ منّا
كيف أنّ أرضاً صغيرةً كانت لاثنين معاً،
تلك الذاكرة تعذِّب بحقدٍ
وتجرح أكثر القلوب قوّة!

وفي اللّيل الّذي لا ينتهي،
يتعلّم القلب أن يسأل:
«أين رحل حبيبي؟»
عندها فقط،
وسط خيطان البخور
سيعلو العزف
فرِحاً وخطراً،
بينما أحدِّق بقسوةٍ في روحي،
بالعينين نفسهما الواثقتين والصّارمتيْن.

4- ادفنيني أيّتها الرّيح!
ادفنيني
ادفنيني أيّتها الرّيح
فوقي السماء خافتة
والأرض تتنهّد بهدوء
ولم يأتِ أحدٌ من أقاربي!

أذكر أنّي كنت حرّةً مثلكِ
لكنّني طمعْتُ بأن أحيا أكثر
وها أنتِ الآن،
ترين جثّتي الباردة ولا أحد فوقها،
ليطوي ذراعي.

أغلقي هذا الجرح الأسود
كفن المساء المنتشر هنا وهناك
ها هو الضّباب اللّازورديّ فوق رأسي
يأمرني بقراءة المزامير.

حسناً فلْأهدأ وأخفّف الأمر عليّ.
وحدي،
سأذهب إلى النّوم الأخير،
في الأعالي.

5- أبيات جدّتي
ينبوع الشّمس هذا الصّباح في حالة سكر
ورائحة الورد تدوّي على الشّرفة،
والسّماء أكثر لمعاناً من الخزف الأزرق،
وفي يدي دفتر ملاحظات بغلافٍ من الجلد المغربيّ النّاعم،
أقرأ فيه مرثيّات وأبياتاً رومانسيّة
كتبتْها جدّتي.

أرى الطّريق إلى البوّابة وما بعدها.
أعمدةٌ بيض تلمع فوق عشبٍ كالزّمرّد،
أتساءل كم أنّ القلب يهوى بعمى ورقّة!

أستمتع بتأمّل أحواض الزّهور اللّامعة
والغربان السّود يتصاعد صراخها في السّماء،
والأقواس العميقة داخل القبو.

6- الجحيم
انتظرْتُ لوقتٍ طويل
عند بوّابة الجحيم الضّخمة.
كان هادئاً ومظلماً،
أوه، حتى الشّيطان
لا يرغب بي!
إلى أين أذهب؟

7- يعودُ زوجي الميت
امتنع القمر عن التّجوّل في السّماء،
والبرد، مثل خَتمٍ، طُبع على اللّيل،
زوجي الميت عاد فجأةً
لقراءة رسائل حبّي له.
داخل نعشٍ مصنوعٍ من البلّوط،
يتذكّر القلعة السريّة
وخطوات قدميه الخشنتين الموثقتين برباطٍ حديديّ
فوق بلاطها.
يراقب مواعيد لقاءاتنا
ويتأكّد من التواقيع.
يا له من غريب!
ألم يكفِهِ ما لديهِ من أحزانٍ وآلام؟
ماذا جنى حتّى الآن؟

8- كان يحبّ ثلاثة أشياء
قدّاس المساء،
الطّواويس البيض
وخرائط أمريكا القديمة.
لم يكن يحبّ الأطفال عندما يبكون
لم يكن يحبّ الشّاي بتوت العلّيق
ولا هستيريا النّساء،
وأنا،
كنت زوجته!

9- ليلة بيضاء
لم أقفل الباب
ولم أطفئ الشّموع،
لا يمكنكَ تخيّل كيف قاتلْتُ التّعب والنّعاس!

كنتُ أشاهد انسحاب الضّوء شيئاً فشيئاً،
وأشجار الصّنوبر الّتي تكتئب عند مجيء المساء،
فتشربُ الأصوات.
أحدها يشبهُ صوتكَ إلى حدٍّ كبير.
وأعرف جدّاً أنّ كلّ شيءٍ قد ضاع
جحيمٌ هي الحياة بعيداً منك،
وأنا اعتدتُ أن أكون متأكّدةً وواثقة
من أنّكَ ستعود إليّ.

10- سأسكن الرّخام يوماً
وثمّ بعد ذلك،
ستكون هناك شاهدةٌ رخاميّةٌ خاصّةٌ بي
تحت شجرة القيقب القديمة.
ستعطي وجهها لمياه البحيرة،
وتصغي بتمعّنٍ إلى الحفيف الأخضر.
وتغسل الأمطار الخفيفة جرحَها الجافّ...
باردة، بيضاء، وتنتظر،
سأسكن الرّخام يوماً.

11- بوشكين
كان شابّاً وداكن البشرة
يتجوّل في الأزقّة، وقرب البحيرة،
وعلى الشّواطئ الحزينة...
ومرّ قرنٌ من الزّمن،
وما زلنا نفتخر به
وما زلنا نسمع حفيف خطواته.
هناك حيث بقايا إبر الصنوبر
متراكمةٌ مثل حصيرةٍ سميكةٍ وشائكة
تغطّي الجذوع،
ترقدُ قبّعته القديمة المثلّثة
وكتاب شعرٍ ممزّق.

12- الأرق
في مكانٍ ما تموء القطط بحزن،
أراقب خطىً بعيدة...
كم كانت كلماتُك تهدّئني وتهدي لي،
منذ ثلاثة أشهر وأنا لا أعرف النّوم.

ها أنتَ معي مرّةً أخرى أيّها الأرق!
ما زال وجهكَ كما عرفتُه.
ما هذا الجمال الغريب الّذي أنت عليه!
أجِبني: ألا تعجبكَ طريقتي في الغناء؟

وفجأةً تشتعل النّوافذ المغطّاة بالأبيض،
ويتدفّق الشّفق الأزرق.
أما من خبرٍ من بعيد، يريحنا؟
لماذا أكون بخير عندما أكون معك؟

13- علّمتُ نفسي أن أعيش بحكمةٍ وبساطة
أن أرفع عينيّ باتّجاه السّماء، وأصلّي،
أن أمشي قبل المساء
لأُتعِب قلقي الّذي لا يلزم.

وحين يدوّي حفيف النّباتات في الوادي البعيد
وتتدلّى عناقيد العنب البرّي بلونيها الأصفر والأحمر،
أكتب أشعاراً فرحة، عن حياةٍ فانية وجميلة،
مثلي.

وأعود، فيموء قطّي ويلعق يدي
وهناك قرب البحيرة، وفوق معمل الخشب
صراخُ اللّقلق يمزّق الصّمت.
أتخيّلك تطرق بابي
وأتخيّلني، إن حدث ذلك يوماً ما،
لن أسمعك.

14- الشّيب
خصلةٌ من الشّعر الفضّيّ
تربّعَت أعلى شعري الأسود.

لا أحد غيرك قادرٌ على فهم هذه المعاناة،
أيّها العندليب الّذي فقد صوتَه.
كان سمعكَ المرهف يلتقط أبعد الأصوات،
والآن تحدّق في أغصان الصّفصاف النّحيلة،
بمرارةٍ ودون أيّ همسة،
عند سماعكَ لأغنيات العصافير الأخرى.

قبل لحظة
تجمّدَت فجأةً أشجار الحور،
كان الجميع يصغي، لفرحكَ الّذي لا يُقال.

15- لم يأتِ أحدٌ لرؤيتي
على ذلك الدّرب،
مع فانوسٍ في يده.

تحت ضوء القمر المرتبك،
دخلتُ البيت وكان هادئاً.
ضوءٌ أخضر وابتسامةٌ هامدة
قال لي صديقي بصوتٍ منخفض:
«كم صوتكِ غريب يا سندريلا!»

في الموقد نارٌ تنطفئ،
ونقيق زيز اللّيل أضجرني،
أحدهم سرق حذائي الأبيض،
للذّكرى
وأعطاني ثلاث قرنفلات
من دون أن يفتح عينه.

أين يمكنني أن أخبِّئكِ،
أيّتها الأدلّة؟

من المحزن جدّاً أن أفكّر بأن اللّحظة اقتربَت،
اللّحظة الّتي سيجرّب فيها
حذائي الأبيض
على أقدام الأخريات!

16- في المساء
الموسيقى في الحديقة،
عزفَت حزناً لا يقال.
وفاحت رائحة البحر منعشةً وحادّة،
في صحنٍ زجاجيٍّ مليءٍ بالمحار.

قال لي:
«أنا صديقٌ حقيقيّ!»
ولمسني.
كيف يمكنني ألّا أحبّ يديه،
وكأنّني قطّة أو عصفورة،
وكأنّها نظرات فارس،
كم من الضّحك كنت أرى في هدوء عينيه
خلف رموشه الذّهبيّة.
أستمع إلى الكمان يغنّي وسط الدخان المنتشر
«اشكري السّماء أنّكِ وحدكِ معه للمرّة الأولى».

17- زائر
العاصفة الثلجيّة تطرق على نوافذ غرفة الطعام،
وكلّ شيءٍ على حاله،
حتّى أنا ما زلتُ نفسي،
هناك رجلٌ جديد.
سألته: ماذا تريد؟
قال أن أكون معكِ في الجحيم.
فضحكت: آه، إنّكَ تتكهّن بكارثةٍ لنا نحن الاثنين.

ثمّ رفع يده
ومسّ الزّهور بخفّةٍ وقال:
«حدّثيني كيف يقبّلك الآخرون
حدّثيني كيف تقبّلينهم أنتِ»،
ولم يرفع عينيه عن خاتمي،
ولم تتحرّك عضلةٌ واحدة في وجهه الغيور.

آه، أعرف أيّ فرحٍ سيشعر به
عندما يعرف برغبتي به واهتمامي بشأنه
وأنّني لن أرفض طلبه.

18- لا أعرف إن كنتَ حيّاً أم ميتاً
وإن كان بوسعي أن أبحث عن مكانك
على هذه الأرض
هل عليّ أن أبكيك بحزن
كلّما ذبل المساء؟
كلّ شيءٍ لكَ وحدكَ:
صلاتي كلّ يوم
ونيران الأرق اللّيليّ،
وأسراب أبياتي البِيض،
وعيناي المشتعلتان بضوءٍ أزرق.
كنتَ قريباً جدّاً،
يا أيّها الغارق في أعمق أسراري،
لذا لم يسبّب لي أحدٌ ألماً بقدركَ أنت،
لا ذلك الذي خانني،
ولا الذي كان حنوناً جدّاً معي
ثمّ نسيني.

19- زنابق موسكو
الآن أنا مستعدّة،
لأستبدل بالشّهرة والبريق
ولمعان النّجوم في الأعلى،
زنابق أيّار
في موسكو المدمّاة.

20- قَسَم
ما أقوى تلك الّتي تقول وداعاً لمَن تحبّه،
كم تجيد تحويل ألمها
إلى قوّة!
نقسم لأبنائنا
نقسِم لقبورنا
ألّا أحد على الأرض،
لا أحد سيجعلُنا نخضع.

21- لكنّ صوتي يصمت
أشياء كثيرة تلحّ على صوتي بأن يغنّي لها،
لكنّه يصرّ على الصّمت
هو ربّما يقول أشياء من دون كلام،
أو ربّما يقضم بعض الحجارة في العتمة تحت الأرض،
أو يخترق دوائر الدخان.
لم أقم بحساباتي بعد،
أحتاج لذلك الكثير من اللهب والرّيح والماء...
وفي سباتي الطويل وفي أحلامي
تنفتح الأبواب فجأةً أمامي
لتقودني نحوها نجمة الصباح.

22- الصّفحات الأخيرة
لطالما أحببْتُ في الكتب
الصّفحات الأخيرة،
حين يفقد البطل والبطلة أهميّتهما،
وحين تمضي الكثير من السنوات
دون أن نشتكي.
حتّى الكاتب نفسه،
يبدو أنّه نسي ما خطَّه في البداية.
«وللخلود شَعرٌ رماديّ»،
هذا ما قرأتُه في كتابٍ جميل.
ها قد حان وقت النهاية،
ليجد الكاتب نفسهُ وحيداً بلا أيّ حلّ،
وهو يحاول أن يستردّ ولو القليل من الروح،
وأن يسخر بمنحنا نهايةً منمّقة،
-سامحه الله-!
مثلاً:
«في بيتين من هذه المدينة،
(الاسم غير واضح)
بقي رسمٌ نحته أحدهم،
بماء الكلس فوق حائطٍ مضيء،
رسومٌ غريبة: لا رجل ولا امرأة.»

وأيضاً: «حين يسطع ضوء القمر،
منخفضاً، وآسيويّاً، وأخضر،
تُسمع فوق هذه السطوح في منتصف اللّيل،
خطواتٌ خفيفة،
أضاف أحدهم: وأنين،
وآخرون أوضحوا: كلمات.
ضاق ذرع الجميع بهذه المعجزة،
السيّاح قليلون،
القريبون اعتادوا ذلك.
يُزعم أيضاً،
أنّ في هذه البيوت الغريبة
سجّادةً تخفي هذا الرّسم الملعون».

23- لنحزن هكذا
لم نتنشّق نبات الخشخاش المخدِّر
ولم يقدّم إلينا مشروباً أسود في اللّيلة الأولى من كانون الثّاني
كيف ارتكبنا خطأنا ذلك؟
أجِبني أسفل أيّ نجوم، وأيّ مجرّات تشكّلنا
لنحزن بهذا القدر؟
وأيّ برقٍ لا مرئي
جعلنا نفقد وعينا حتى الصّباح؟

24- مستحيل
فراقنا،
أتحمّله،
لكن ذكرياتنا،
مستحيل.

25- القصيدة تصمت كما يحلو لها
كلّ شيءٍ على ما يرام
وفي مكانه الصّحيح،
وكما يجب،
القصيدة تصمت كما يحلو لها،
ولكن حين نأت الأفكار بنفسها،
طرق صوتٌ ما بمعصمه على زجاج النّافذة،
وانتشر صدى نداءٍ من بعيد،
ضجيجٌ عميق، هدير، صراخ طيرٍ كاسر، أنين...
وفجأةً لمحنا ذراعين على هيئة صليب.

26- دُفنْتُ مائة مرّة
هل نسوني؟ غريب!
لقد نسيتُ مائة مرّة،
ودُفنْتُ مائة مرّة
ولا أعرف أين أنا الآن!
فقد الإلهام فجأةً سمعه وبصره،
وتحلّل مثل بذرة متعفّنة داخل التربة!
ثمّ ارتفع مثل طائر الرّماد إلى الأعالي،
وحلّق بلونه الأسود.

27- القصيدة الأخيرة
الأولى مثل رعدةٍ تخيف،
وأنفاس حياةٍ تنفجر في الدّاخل،
ويرتجف فمها، وتضحك،
وترسم دوائر، وتصفّق.

الثّانية تولد في صمت منتصف الليل،
لا أعرف من أين أتَت،
تحدّق بي في مرآةٍ فارغة،
وتتمتم أشياء لا تُفهم.

وأخرى في وضح النهار،
كأنّها لا تراني
تتدفّق على الورق الأبيض
مثل نبعٍ نقيٍّ في وادٍ.

وثمّة أخرى أيضاً
تجول، تتشكّل، تتفكّك، وترتمي،
ثمّ تسقط بين يديّ
بلا صوتٍ ولا لون.

لكنّ الأخيرة، تشرب دمي قطرةً قطرة،
مثلما يفعل الحبّ في حياة فتاةٍ شابّة،
ودون أن تنطق كلمةً واحدة
ثمّ تصمت من جديد.

لم أعرف حزناً أكبر أو أقسى،
لقد اختفى، وامتدّتْ خلفه خطواته،
بعد أن تركني أموت بعده.

28- الصّدى
أُقفِلَت جميع الطّرق نحو الماضي،
وماذا باستطاعته أن يفعل لي ذلك الأخير؟
وماذا يوجد هناك؟
بلاطٌ يكسوه الدّم،
بابٌ مسدود،
أو ربّما صدىً لم يعدْ يقوى على الصّمت!
أسكت وأرجوه،
لقد حدث له،
ما حدث مع ذلك الّذي في قلبي.

29- قبري لن يكون لي
بل لنسمة ربيع أصيبتْ بالجنون،
لكلمتين داخل كتابٍ وُجدَ بالصّدفة،
لابتسامة وجهٍ أدخلتني فجأة،
إلى هذه الحياة النّاقصة.

نسيتُ كلّ عِظاتكم، أيّها الخطباء الأقوياء، وأيّها الأنبياء الزّور،
ولكن،
أُقسم إنّكم لن تنسوني.

30- نحو بيتي
لأكثر الأصوات نقاوةً قدرةٌ فائقة،
تجعله يستحيل فراقاً،
فيزداد القلب فرحاً.

الأبنية القديمة تراقب حتّى الموت،
موعدك معي الّذي سيكون أكثر حزناً،
فاعبرِ المدينة المصلوبة واتّجه
نحو بيتي.

31- كلّ شيءٍ في موسكو مشبعٌ بالشعر
القوافي تعبر إلينا من كلّ الثقوب.
فقط دعوا الصّمت يسود فوقنا
دعوا الصّمت رمزنا السّرّي،
ودعونا نأخذ استراحةً مع القوافي.

تلك الّتي ترافقكم الآن
ولطالما كانت معي،
ستتّحد الآن في زواجٍ سرّيّ
مع الصّمت المرير والوحيد،
ذلك الصّمت الّذي يلتهم الغرانيت
تحت الأرض
ويغلق دائرة الزّمن السّحريّة بالكامل،
ويقف أعلى آذاننا في اللّيل
ليتنبّأ لنا بالموت،
بأعلى صوت.

32- أُطفِئ هذه القناديل الحميمة
انتهَت السهرة الرّائعة،
وكلّ شيءٍ اختفى،
الدّجّالون، الجلّادون، المعذِّبون،
والتّحقيق...
أحلم بك،
رقصْتَ حدّ التّعب أمام الطّوفان
وخلف المطر،
وخلف الرّيح والثّلج،
وها ظلُّك يسطعُ أعلى الضّفّة الخالدة،
وصوتكَ يأتي من الأعماق.
ما زلْتَ تصرّ ودون تعب
وبصوتٍ عالٍ،
تقول: «آنّا»
وتقول: «أنتِ»
كما في الماضي.

33- قدّاس
قدّاس لروحٍ لا تتوقّف عن التفكير،
حين يضيع النّوم،
وحين يحدّق الموت في المرايا،
ويذوب البلّور بين أصابعنا المليئة بالرّحمة،
وتتدفّق السّماء فوق ساعاتنا المصيريّة.
وحيث يضيق الانتظار،
ولا تتوقّف بصمات القصائد عن أن تسكننا.

34- صمت
لا أحد يطرق بابي
لم يتبقَّ
سوى مرآةٍ تحلم بمرآة،
وصمتٍ
يحرس صمتاً.

35 - الفنّ الخالد
وفي هذه الرّيح
تختفي المشاعر والأفكار.
حتّى الفنّ الخالد
أصبح اليوم في قيلولة!

* من كتاب منتخبات شعريَّة لأخماتوفا، صدر حديثاً عن «دار النهضة العربية» (بيروت) تحت عنوان «ملكة النِّيڤا».