ثمة مروية قديمة تتضمن حكمة من شأنها أن تلهم الثقافة الفلسطينية اليوم، لا نعثر فيها على معنى الحياة والموت، اللذين تلاشى الفرق بينهما في حياة الفلسطينيين، بل على تعريف الأحياء والموتى. يستأذن أحد التلاميذ السيد المسيح في أن يتأخر لدفن والده. فيرد عليه: «دع الموتى يدفنون موتاهم»، واتبعني أعلمك صيد الأحياء. إجابة حاسمة تحيل الموت والحياة إلى محض حدثين يتقنان لعبة التناوب الفج ولعنة التوقيت السيء، فيما تجعل لكل من الأحياء والموتى دوراً محدداً: الموتى يدفنون الموتى، والأحياء يُحيون الأحياء. ليس الغرض هنا طرح تأويل جديد، ولا رشق أحكام تجعل من الحي ميتاً ومن الميت حياً في حالات الطوارئ الأخلاقية القصوى، فذلك فأل سيء على أي حال... بل القول، أولاً، بقِدم فكرة أن يحيا الإنسان في مجتمع ميت، والتقديم، ثانياً، لبعض نصوص زكريا محمد الذي لم يكن مهجوساً بقلق الموت بقدر ما كان مثقلاً بصعوبة الحياة بين الموتى. ولذا، فقد التقط هذا الفرق واشتغل عليه في «احتفال في قلعة ألَمُوْتْ» (1999)، وهو كتاب نصوص مسرحية عابرة للأزمنة والأمكنة، تتوسَّل الموت لنقد خراب الروح وفساد السياسة وبؤس الثقافة، وهي: «احتفال في قلعة ألَمُوْتْ»، و«الخامسة بعد الزوال»، و«مزرعة الفئران الصينية»، و«الصخرة»، و«صفقة مع عزرائيل»، و«ملِك الموتى».


لا شك أن من شأن الكتابة عن هذه النصوص مجتمعةً إضاءة حال فلسطين التي تأمّلها زكريا محمد في حياته ورحل متحسراً عليها، إلا أنني سأكتفي هنا بنص «ملِك الموتى»، دون غيره. ففيه إحياء لإرث الكتابة السوداوية عن بطل حي يكتشف أنه يعيش بين الموتى على نحو يذكِّر برواية هنري جيمس The Turn of the Screw (1898)، التي ترجمها إلى العربية، بعد مائة عام على كتابتها وقبل عام واحد من صدور مجموعة زكريا محمد المسرحية، الشريف خاطر، بعنوان: «أرواح شريرة» (1998). وقد استُلهمت الرواية في المسرح والأوبرا والسينما، وكان من أهم الأعمال التي اقتبستها فيلم «الآخرون» (2001) للمخرج أليخاندرو آمينابار. يفصح نص «ملِك الموتى»، عبر خمسة مشاهد، عن حكاية حفَّار قبور: يُبعث إلى الحياة، ويخرج إلى الطريق، قاصداً الحانة، ثم يعود إلى المقبرة، ويصير ملِك الموتى.
يهبط ملاكان، في هيئة امرأتين، بقرار إلهي، لإحياء حفَّار القبور الذي غيَّبه الموت عن رفشه- الصليب وعرشه-الضريح ألف سنة. يعود للحياة، ثم يمضي إلى حانة المدينة، غير عارف كم لبث، ومن دون أن يخطر في باله أنه قد يكون يحلم أن حلماً يحلمه، كما اقترح حسين البرغوثي مرة. يمضي، «وفي قلبه عصفور لا يغنِّي»، في شوارع المدينة التي تهرُّ فيها الكلاب خلفه، وتتراقص فيها الأشباح أمامه خائفة من «شبح مضنى من الشبح»، وهي تتحدث لغة غريبة، وتنشر رائحة الموت. في الحانة، ينزعج الزبائن من مصدر الرائحة، رائحة الحياة التي فيه وقد أفسدت رائحة الموت التي فيهم. وأما صاحبة الحانة، وقد برد مخدعها، فلا ترى فيه سوى فارس في الغرام: هي مات عنها زوجها، وهو زوجه الكأس وولي عهده الرفش، عزرائيل يقبض الأرواح، وهو يقبض الأجساد. وبين نشوة السكر وبؤس الانكسار، واستغراب الزبائن من حديثه عن أخبار حرب قديمة لم يسمعوا عنها، يغادر الحانة نحو المقبرة في حالة من اللايقين بخصوص الرائحة. وحين يصل، يجادله حارس المقبرة، الذي انتحل كلام الفيلسوف، ويوضح له أنه يحرس جمود الحياة من تدفق الموت. يتصالحان على الأدوار: حارس مزرعة عزرائيل يتولى حقيبة حفظ الأحياء من شرور الموتى، وحفَّار المزرعة يتولى حقيبة حفظ الموتى من شرور الأحياء، فيما يقتسمان الغنائم من أسنان الموتى: عظام من ذهب! وأما الرائحة، التي تبقى خارج حسابات السياسة، فيتواطآن على إيداعها في باب المسكوت عنه. يبايع حارس المقبرة حفَّار القبور، ويصنع له تاجاً من عظام، فيما يلقي «ملِك الموتى»، وقد صعد الضريح، خطبة التيه: «رايتي عظمتان وجمجمة، وشعاري الصباح»!




لم يحسم حفَّار القبور سؤال الرائحة، ولكنه تعلَّم من حارس الأحياء وسجَّان الموتى أن كلا الفريقين لا يطيق رائحة الآخر. يومئ الحارس إلى دور الأحياء في تحديد مصدر الرائحة، والتغلب عليها، وإن برائحة الخمر... ففساد الحياة لا ينبغي أن يفسد رائحتها، وصلاح الموت لا ينبغي أن يصلح رائحته، وليس على الحي، الخارج من موته، إلا أن ينسى ليشرب، أو يشرب لينسى: «أمورٌ ما لها حلٌّ، ولكن، إذا نُسيت ففي النسيان حلُّ».
لم يترك زكريا محمد سؤال الكينونة، بين الحياة والموت، للنسيان، فبعد واحد وعشرين عاماً على نصه المسرحي، أحال السؤال ذاته إلى تمرين شعري في «زراوند» (2020)، حيث الحياة «بصلة كبيرة» والموت «نواتها»، وحيث تحتمل كل من القشرة والنواة رائحة الأخرى. بعد عقدين من تنصيب حفَّار القبور ملكاً على الغبار، تلبَّس «خبير الموت» الذي في زكريا محمد خبير الحياة الذي فيه: يبحث عن «بذرة الفناء الرقطاء في داخله»، ويسوق الموت ذاته «كأنه بعيره». أما الأمل فـ«طائر مهاجر»، وأما اليأس فـ«طائر مقيم». كانت الحياة لديه صلبة حيِّزيَّة، والموت سائلٌ يُشكِّل ولا يتشكَّل— «كأس الحياة نصف مليئة نصف فارغة. أما كأس الموت فطافحة دوماً». ولذا، فقد حذّر زكريا محمد الموتَ ألّا يقترب ممّن يمسكُ برسن الشعر إلى أن يكتب وصيته: «عند شجرة الجكرندا» في رام الله، و«تحت قدم جبل الأربعين» في أريحا... وجوار «درب التبانة» على حدود السماء، مرصَّعاً بزهور الكتَّان.
استعار زكريا محمد عيون الصقر، خبير الموت الثاني بعده، الذي لو أدرك الحقيقة النهائية للموت لتحول جناحاه إلى «إسمنت وحجارة»، وأخبرنا عن الحياة على محيط دائرة الكون. رافق الموت الذي يجري على المحيط ذاته، رافعاً روحاً إلى السماء، وحاملاً أخرى، وهو يعرف أن «الروح كلبة مرضع» والعدم كلبٌ شريد يحوم حول دارها. عرف أن الروح بنت ليل، لا دار لها، بل «تدور من نزل إلى نزل، من فراش إلى فراش، وتحت نجوم الفجر تأخذ غفوتها»... وأدرك ألَّا ارتباط بين الروح والجسد، إلا كجارين بليدين. ولأن الحياة، كينونة معلَّقة على حبل غسيل، نثبِّتها بملاقط الكتابة، عنها، يصير الوجود محتملاً... ويا لحديث الملاقط كم يطول! ولأن الحياة كتابة، نص غير منقوط يعجمه الموت، فلا سبيل للفوز في السباق معه، إذ العالم «إصبع واحدة تكتب، وكفٌّ كاملة تمحو». ولأن كلَّ شيء كذلك، فلا انتصار للإنسان إلا بالكتابة والذكرى اللتين لا يعرف ملاك الموت أبوابهما، ولا يستدلُّ عليهما بالرائحة، ولا جدوى من الوجود في العالم غير تسرية الوقت لبلوغ «العروسة ما قبل الأخيرة» في متروشكا العدم، إذ ليس ثمة من «عروس أخيرة»، بل عريس أخير، هو الموت، نواة بصلتنا الكبرى التي تودي بالحياة ورائحتها.
لقد خلق زكريا محمد حياة لرائحة الحياة عبر الشعر، وخلق الموت تارة ككائن لا-مُسمَّى، «يأكل آذان الفئران الصغيرة [و] قمح اليمامات على النافذة»، وتارة، ككابوس إنسان ينتظر دوره، أو دور أحبائه، حين «يتوقَّف البريد عن الوصول»، ثم يعود بعد دفنهم، أو يعودون بعد دفنه، إلى البيت، حيث طقوس الأيام السبعة: للحداد، والتحقيق مع المرايا إن مرَّت بأرواح الراحلين، أو مرُّوا بها، كـ«شلال نور». يتوقف بريد الحياة، ولا يتوقف بريد الموت حين يقوده زكريا محمد من يده، في «ليلة بلُّور» مرعبة، وقد انتحل هيئة عجوزٍ يغوي طفلاً بالحلوى، ويطلب منه تكسير نوافذ بيوت الحي. لا أشباح تخيفه، بعد الآن، وقد صار هو الشبح في حضرة الموت. يضجّ الناس من الأصوات، وثريد الزجاج على الأرض، فيتساءلون عن الفاعل، ويتفرَّس الطفل في وجه العجوز: «مَن أنت؟» فيجيب: «أنا الموت، كسَّار النوافذ، وأنت، يا صغيري، حصاتي». تنحلُّ شيفرة الوصية، وتتضح فتنة السطر الأول والأخير، بين لونين عنيدين، أسود الليل وأبيض النهار—حماريِّ زكريا محمد الوحشيين، يمتطيهما بالتناوب: صاعداً جبل التجربة وهو يلوِّح لنا لأنه يحبُّنا، ونازلاً جبل الأربعين ونحن نلوِّح له لأننا نحبه... مثلما نحب النُبوَّات، ونصلب الأنبياء، أو نقول، إن اقتيدوا على درب آلامهم إلى الجلجلة: لا نعرفهم!
في مشهده الأخير، يخرج زكريا محمد من إهاب حفَّار القبور الذي ارتقى من «الرَّفش إلى العرش»، كما تقول العرب، ولكنه يحتفظ بعرش الرسولية الثورية التي دشَّنها برفش الحياة وأزهار الشعر التي هزمت رائحة الموت: موت الروح، والموقف، والذائقة. هنا، نستذكر إشارة توفيق كنعان، قبل قرابة مائة عام، وكان حفَّاراً بهياً، إلى أنه «على الرغم من أن القرآن يحدد 25 نبياً، إلا أن الفلسطيني يعطي هذا اللقب للكثيرين». لم يكن زكريا محمد نبياً، رغم تزاحم الأنبياء في اسمه، ولم يخلع عليه أي من الفلسطينيين هذا اللقب، لكنه مارس رسوليته الثورية، وظل سادناً لرائحة الحياة إلى أن مضى إلى حال سبيله، عليه السلام.

* شاعر وناقد من القدس